#1
|
|||||||||
|
|||||||||
زهرة مسها الموت !
زهرة مسها الموت ! عدتُ إلى منزلي هذا اليوم ، وصوت الفقد يُرتَّل في قريتي الصغيرة ..تماماً كما شعرتُ به لأول مرة قبل عشرون عاما، على ذات الطريق الذي طوي كل هذا الحُزن في صدري، وبنفس الخطوات الباردة التي مازال هذا الشارع يذكرها..إلا أنني أكبر ووجع اليُتم أكبر، كانت السادسة صباحاً بعد أن قامت والدتي بشطف بهو البيت من هلع الواحدة والنصف فجراً حين اهتزت جُدران بيتنا خوفاً على والدي الذي غادر المنزل منتشلاً من الأرض بأيدي رجال غرباء ..لم ننم حينها إلا أننا حاولنا أن نجعل الخوف يغفو ، لنستطيع استعادة توازننا، وكل ما نملكه هو رجاءنا بالله.. خرجتُ ووالدتي وإحدى أخوتي على غير عادتنا لنسأل: من مات!! كانت قلوبنا تُجيب عن هذا السؤال وينفيه الخوف،وصلنا إلى الساحة الكبرى التي يجتمع فيها أهل القرية حين يموت أحدهم.. البيوت واجمة، النوافذ مصفرة من الموت، حتى الصباح كان كئيبا جداً،ثمة أناس تجاهلونا خوفاً من أن نعثر على الإجابة في عيونهم الممتلئة بالشفقة .. النبوءات لا تتأخر ، حينما يكون الخبر مُفجعاً حدّ الموت!! نبأني أبي حينما سألني قبل موته مازحاً، كان حينها قد توفي جارٌ لنا وحزن أبي عليه وحزننا جميعاً.. الموتُ في القرى طبقٌ مشترك ، حين يأتي لا يترك بيتاً إلا ويطرقه باباً بابا.! سألني مُبتسماً كنت حينها ابنة 8 سنوات دلالاً وعزوة : هل ستبكي يا صغيرتي حين أموت ؟! كان سؤالاً غريباً أو ربما مُهيبا يُوجه إلى طفلة في مثل هذا العمر ,, الموت لا يعرفه الأطفال ، لكنهم يستطيعوا أن يستشعروا حدوثه لشفافيتهم..! ضحكت حينها ببراءة وأجبت: طبعاً سأبكي ! هل أراد أبي أن يُعرفني بالموت؟! في تلك الليلة أختي الصغرى التي لم يتجاوز عمرها الأثني عشر شهراً لم تكف عن البكاء ..فهي أول من نبأه الموت! الموتُ اللغة التي ليس لها ترجمة في كل قواميس الحياة ، هو الحد الفاصل بينك وبين الحياة...إلى حيث حياة أخرى ! ، عيناها أعادت لي سيناريو لطالما تكرر في كل موت تُؤذن فيه تك المئذنة بالموت ،وأكون حينها على مقربة منها ومن مغتسل الموتى !! خرجتُ من المنزل صباحاً لأذهب لعملي كان صوت سيارة الإسعاف يصدح في نهاية الشارع..* رأيتها واقفة مقابل منزلنا بجسمها النحيل وقامتها القصيرة، ذات وجه طفولي وعينان واسعتان وأنف طويل ودقيق ، زهرةٌ أسمُها وهي امرأة الثلاثين عاماَ ونيف والتي تبدو في نصف عمرها أو أقل من ذلك بكثير،وبعقل لايتجاوز 7 سنوات إدراكاً وفهما, قابلت عيني بعينيها المشدوهتان حتى أقصاهما في انتظار أن يسألها أحد ما ..أن يربت على أكتافها..أن يتجاهل كون عقلها وجسدها غير مكتمل نضجه أو أنها مجنونه.. سألتها بهدوء: هل أمكِ مريضه؟! قالت بصوت يرتجف:ايه* دعوت لها وانصرفت وقلبي يُرتل الدعاء وذهني ممتلئ بتلك الحيرة التي كانت تملأ خطواتها ونظراتها.. كانت إجابتها مملوءة بالوعي والإدراك، لم أشعر حينها أنها مجنونة ، هذه التي أعتدتُ أن أراها تنظر إليّ نظرات هجوميه ، تبصق على المارة لأتفه الأسباب، تصرخ حيناً وتبكي حين آخر ... يا لهذا الموت الذي بيده أن يفقدنا عقولنا ، أو يستردها كيّ نتعرف عليه ، لنُدرك كم هو زائر لا يشبهه أحد..! الموت هو الغريم الذي لا يمكننا مجابهته ! كانت تدور حول نفسها كمروحة، عنقها موقوف ! ما أصعب أن يجتمع الفقر، واليُتم والجنون,, أن تكون يتيماً تهتدي بعقلك ، أهون بكثير من أن تكون مجنونا ًيتيماً فيجني عليك يُتمك .! حتماً هي تُدرك أن ليس هناك من سيحتملها غير أمها التي فارقت الحياة وهي تُصلي فجراً هذا الصباح وفي سجدتها الأخيرة ... سمعوها الجيران وهي تصرخ بأعلى صوتها: أمي أمي..!! فتحت باب المنزل.. لتنادي المارة أن ثمة خطب ما بوالدتها الفزع يهز بنيتها النحيلة.. بكت بحُرقة أشبه بالأنين ،وهي تقول لامرأة كبيرة بعمر أمها، بصوت مبحوح كناي جرحته الريح ولفحته سمومها .. أنا تعباااانه ..تعبااانه جداً يا أم محمد ، أريد أن أموت! لخصت كل معاناتها ووجعها في جُملة قصير تتمثل بالتعب والرغبة بالموت ،، المشاعر التي تقتلنا هي التي تختصر حالها حين نتعثر نُطقاً بها!. بدت منهارة جداً حتى أنها صارت تقفز بوحشتها وخوفها من حضن إلى آخر بين النسوة المعزين ،كأرنب خائف من هجوم مفترس وهو الفقد ، تجلس في حضن هذه تارة و تضم تلك تارة أخرى، وأحيانا تدور في بهو منزلهم ذهاباً وإياباً أيّ دوار هذا الذي يصنعه الموت بنا ..!! تسألهم فتتدارك نفسها بالاجابة.. ستعود أمي؟! نعم ستعود إلينا. فتمتلئ وجوه النسوة بالحيرة والأسى… ،* كل ما أدركته بعد مرور الأيام أن أمها ذهبت ..كما ذهب والدها من قبل.. وكما انتزعوا من بين حديقة قلبها أختها مَدِينة التي كانت تُشاركها الفرح والحُب والجنون ايضاً…!! الفقد لا يطيقه العقلاء ، فكيف بمن عقولهم أضعف من أن تُدرك ذلك..! كثيراً ما ألتقي بها عند خروجي من المنزل أو حين عودتي.. يااااالله زهرة الآن فقط كبرت…كبرت كثيراً مازالت بتلك النظرة الشزرة التي اعتادت أن توزعها للمارة إلا أنها باتت اكثر هدوءً وانكسارا..خطواتها اكثر تعقلاً.. باتت تعُدَّ الخطوات..وتُمتر كل خطوة بمقدار شبر من الوجع.. صار لها صديقات يشبهونها ..تخرج معهم كل نهار لتحضر مجالس نسوة القرية ..وتعود معهم. في أقسى حالات الوحدة والوجع غالباً مانلوذ إلى آشباهنا .. كي لايتباهوا علينا بالفرح ..! زهرة ..مازلت تقطف من الوجوه أثراً لأمها.. ومن كفوف المارة رائحة لوالدها.. ومن عينيها تمردا بريئا كأختها (مدينة) التي ليست أكثر إدراكاً منها… مَدينة المقدسة التي دنسها بجريرته أحد الشهوانين الذين تقطن عقولهم بين فخذيهم.. فبذر خطيئته في بطنها ليرحل مقيدا في سجلات الحياة السوداء.. مجنونة مغتصبة ورجل مجهول…!! فأصبحت مُدانة بعد أن كانت مدينة… ليآخذوها بعيدا بعد أن أتضح حملها في مصحة نظيفة يعتنوا بها وبطفلتها التي لاتدرك من الحياة سوى أم تلاطمت بها الأمواج ورست بها حيث تكون… / فإلى أين سترسوا بك المراكب يازهرة..؟! ، الحياة ليست لهؤلاء الثُلة من البشر ، هي لؤلئك اللذين يتبجحون بأموالٍ سرقوها، وأوطانٍ حملتهم فوق نعش الثراء ، وعقول لم يجنوا منها إلا ما هو يفتك بالر واليتيم والمجنون ...
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|