#1
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الحج
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في الحج وبيان فضله وآدابه، وما ينبغي لمن أراد السفر لأدائه وبيان مسائل كثيرة مهمة من مسائل الحج والعمرة والزيارة على سبيل الاختصار والإيضاح، قد تحريت فيها ما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله جمعتها نصيحة للمسلمين وعملا بقول الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[1]، وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}[2] الآية، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[3]. وكما في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((الدين النصيحة)) ثلاثا قيل لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)). وروى الطبراني عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يمس ويصبح ناصحا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم)). والله المسئول أن ينفعني بها والمسلمين، وأن يجعل السعي فيها خالصا لوجهه الكريم، وسببا للفوز لديه في جنات النعيم إنه سميع مجيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فصل في أدلة وجوب الحج والعمرة والمبادرة إلى أدائهما إذا عرف هذا فاعلموا وفقني الله وإياكم لمعرفة الحق واتباعه، أن الله عز وجل قد أوجب على عباده حج بيته الحرام، وجعله أحد أركان الإسلام الخمسة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[4]. وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام)). وروى سعيد في سننه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين)، وروي عن علي أنه قال: (من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا). ويجب على من لم يحج وهو يستطيع الحج أن يبادر إليه، لما روي عن ابن عباس أن النبي قال: ((تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) رواه أحمد. ولأن أداء الحج واجب على الفور في حق من استطاع السبيل إليه لظاهر قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[5]. وقول النبي في خطبته: ((أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا)) أخرجه مسلم. وقد وردت أحاديث تدل على وجوب العمرة منها قوله في جوابه لجبرائيل لما سأله عن الإسلام قال : ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان)) أخرجه ابن خزيمة والدارقطني من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال الدارقطني: هذا إسناد ثابت صحيح. ومنها حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: ((عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)) أخرجه أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح. ولا يجب الحج والعمرة في العمر إلا مرة واحدة لقول النبي في الحديث الصحيح: ((الحج مرة فمن زاد فهو تطوع)). ويسن الإكثار من الحج والعمرة تطوعاً لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). فصل في وجوب التوبة من المعاصي والخروج من المظالم إذا عزم المسلم على السفر إلى الحج، أو العمرة: استحب له أن يوصي أهله، وأصحابه بتقوى الله عز وجل وهي فعل أوامره، واجتناب نواهيه. وينبغي أن يكتب ما له، وما عليه من الدين، ويشهد على ذلك، ويجب عليه المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب، لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[6]. وحقيقة التوبة: الإقلاع من الذنوب، وتركها، والندم على ما مضى منها، والعزيمة على عدم العود فيها، وإن كان عنده للناس مظالم من نفس، أو مال أو عرض ردها إليهم، أو تحلل منها قبل سفره لما صح عنه أنه قال: ((من كان عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحلل اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)). وينبغي أن ينتخب لحجه وعمرته نفقة طيبة من مال حلال لما صح عنه أنه قال: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا))، وروى الطبراني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور)). وينبغي للحاج الاستغناء عما في أيدي الناس والتعفف عن سؤالهم لقوله : ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله))، وقوله : ((لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم))، ويجب على الحاج أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة، والتقرب إلى الله بما يرضيه من الأقوال والأعمال في تلك المواضع الشريفة، ويحذر كل الحذر من أن يقصد بحجه الدنيا وحطامها، أو الرياء والسمعة والمفاخرة بذلك، فإن ذلك من أقبح المقاصد وسبب لحبوط العمل، وعدم قبوله كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[7]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[8]. وصح عنه أنه قال: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)). وينبغي له أيضا أن يصحب في سفره الأخيار من أهل الطاعة، والتقوى، والفقه في الدين ويحذر من صحبة السفهاء والفساق. وينبغي له أن يتعلم ما يشرع له في حجه وعمرته، ويتفقه في ذلك ويسأل عما أشكل عليه ليكون على بصيرة، فإذا ركب دابته أو سيارته أو طائرته أو غيرها من المركوبات استحب له أن يسمي الله سبحانه ويحمده، ثم يكبر ثلاثا ويقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}[9]، اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل)). لصحة ذلك عن النبي . أخرجه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ويكثر في سفره من الذكر والاستغفار ودعاء الله سبحانه والتضرع إليه وتلاوة القرآن وتدبر معانيه، ويحافظ على الصلوات في الجماعة ويحفظ لسانه من كثرة القيل والقال، والخوض فيما لا يعنيه، والإفراط في المزاح ويصون لسانه أيضا من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بأصحابه وغيرهم من إخوانه المسلمين. وينبغي له بذل البر في أصحابه وكف أذاه عنهم وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة على حسب الطاقة. فصل فيما يفعله الحاج عند وصوله إلى الميقات فإذا وصل إلى الميقات استحب له أن يغتسل ويتطيب، لما روي أن النبي تجرد من المخيط عند الإحرام، واغتسل، ولما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت). وأمر عائشة لما حاضت وقد أحرمت بالعمرة أن تغتسل وتحرم بالحج. وأمر أسماء بنت عميس لما ولدت بذي الحليفة أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم، فدل ذلك على أن المرأة إذا وصلت إلى الميقات وهي حائض أو نفساء تغتسل وتحرم مع الناس، وتفعل ما يفعله الحاج غير الطواف بالبيت كما أمر النبي عائشة وأسماء بذلك. ويستحب لمن أراد الإحرام أن يتعاهد شاربه وأظفاره وعانته وإبطيه، فيأخذ ما تدعو الحاجة إلى أخذه لئلا يحتاج إلى أخذ ذلك بعد الإحرام وهو محرم عليه؛ ولأن النبي شرع للمسلمين تعاهد هذه الأشياء كل وقت كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وقلم الأظفار، ونتف الآباط))، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (وقت لنا في قص الشارب وقلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك ذلك أكثر من أربعين ليلة)، وأخرجه النسائي بلفظ: (وقت لنا رسول الله ). وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بلفظ النسائي، وأما الرأس فلا يشرع أخذ شيء منه عند الإحرام لا في حق الرجال ولا في حق النساء. وأما اللحية فيحرم حلقها أو أخذ شيء منها في جميع الأوقات، بل يجب إعفاؤها وتوفيرها لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((خالفوا المشركين، وفروا اللحى واحفوا الشوارب))، وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)). وقد عظمت المصيبة في هذا العصر بمخالفة كثير من الناس هذه السنة، ومحاربتهم للحى، ورضاهم بمشابهة الكفار والنساء، ولا سيما من ينتسب إلى العلم والتعليم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يهدينا وسائر المسلمين لموافقة السنة والتمسك بها، والدعوة إليها، وإن رغب عنها الأكثرون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم يلبس الذكر إزارا ورداء، ويستحب أن يكونا أبيضين نظيفين، ويستحب أن يحرم في نعلين لقول النبي : ((وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين)) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله. وأما المرأة فيجوز لها أن تحرم فيما شاءت من أسود أو أخضر أو غيرهما مع الحذر من التشبه بالرجال في لباسهم، لكن ليس لها أن تلبس النقاب والقفازين حال إحرامها، ولكن تغطي وجهها وكفيها بغير النقاب والقفازين؛ لأن النبي نهى المرأة المحرمة عن لبس النقاب والقفازين. وأما تخصيص بعض العامة إحرام المرأة في الأخضر أو الأسود دون غيرهما فلا أصل له. ثم بعد الفراغ من الغسل والتنظيف ولبس ثياب الإحرام، ينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريده من حج أو عمرة، لقول النبي : ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))، ويشرع له التلفظ بما نوى، فإن كانت نيته العمرة قال: ((لبيك عمرة)) أو ((اللهم لبيك عمرة)). وإن كانت نيته الحج قال: ((لبيك حجا)) أو: ((اللهم لبيك حجا))؛ لأن النبي فعل ذلك والأفضل أن يكون التلفظ بذلك بعد استوائه على مركوبه من دابة أو سيارة أو غيرهما؛ لأن النبي إنما أهل بعد ما استوى على راحلته وانبعثت به من الميقات للسير، هذا هو الأصح من أقوال أهل العلم. ولا يشرع له التلفظ بما نوى إلا في الإحرام خاصة لوروده عن النبي . وأما الصلاة والطواف وغيرهما فينبغي له ألا يتلفظ في شيء منها بالنية، فلا يقول: نويت أن أصلي كذا وكذا، ولا نويت أن أطوف كذا، بل التلفظ بذلك من البدع المحدثة والجهر بذلك أقبح وأشد إثما، ولو كان التلفظ بالنية مشروعا لبينه الرسول وأوضحه للأمة بفعله أو قوله، ولسبق إليه السلف الصالح. فلما لم ينقل ذلك عن النبي ولا عن أصحابه رضي الله عنهم علم أنه بدعة. وقد قال النبي : ((وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) أخرجه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق على صحته، وفي لفظ لمسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)). فصل في المواقيت المكانية وتحديدها المواقيت خمسة: (الأول) ذو الحليفة وهو ميقات أهل المدينة وهو المسمى عند الناس اليوم أبيار علي. (الثاني): الجحفة وهي ميقات أهل الشام وهي قرية خراب تلي رابغ، والناس اليوم يحرمون من رابغ، ومن أحرم من رابغ فقد أحرم من الميقات، لأن رابغ قبلها بيسير. (الثالث): قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد وهو المسمى اليوم السيل. (الرابع): يلملم وهو ميقات أهل اليمن. (الخامس): ذات عرق وهي ميقات أهل العراق. وهذه المواقيت قد وقتها النبي لمن ذكرنا ومن مر عليها من غيرهم ممن أراد الحج أو العمرة. والواجب على من مر عليها أن يحرم منها. ويحرم عليه أن يتجاوزها بدون إحرام إذا كان قاصدا مكة يريد حجا أو عمرة سواء كان مروره عليها من طريق الأرض أو من طريق الجو؛ لعموم قول النبي لما وقت هذه المواقيت: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)). والمشروع لمن توجه إلى مكة من طريق الجو بقصد الحج أو العمرة أن يتأهب لذلك بالغسل ونحوه قبل الركوب في الطائرة، فإذا دنا من الميقات لبس إزاره ورداءه ثم لبى بالعمرة إن كان الوقت متسعا، وإن كان الوقت ضيقا لبى بالحج، وإن لبس إزاره ورداءه قبل الركوب أو قبل الدنو من الميقات، فلا بأس، ولكن لا ينوي الدخول في النسك ولا يلبي بذلك إلا إذا حاذى الميقات أو دنا منه؛ لأن النبي لم يحرم إلا من الميقات، والواجب على الأمة التأسي به في ذلك كغيره من شئون الدين؛ لقول الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[10]، ولقول النبي في حجة الوداع: ((خذوا عني مناسككم)). وأما من توجه إلى مكة ولم يرد حجا ولا عمرة كالتاجر والحطاب والبريد ونحو ذلك فليس عليه إحرام إلا أن يرغب في ذلك؛ لقول النبي في الحديث المتقدم لما ذكر المواقيت: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة))، فمفهومه أن من مر على المواقيت ولم يرد حجا ولا عمرة فلا إحرام عليه. وهذا من رحمة الله بعباده وتسهيله عليهم فله الحمد والشكر على ذلك، ويؤيد ذلك أن النبي لما أتى مكة عام الفتح لم يحرم بل دخلها وعلى رأسه المغفر لكونه لم يرد حينذاك حجا ولا عمرة وإنما أراد افتتاحها وإزالة ما فيها من الشرك. وأما من كان مسكنه دون المواقيت كسكان جدة وأم السلم وبحرة والشرائع وبدر ومستورة وأشباهها فليس عليه أن يذهب إلى شيء من المواقيت الخمسة المتقدمة بل مسكنه هو ميقاته فيحرم منه بما أراد من حج أو عمرة، وإذا كان له مسكن آخر خارج الميقات فهو بالخيار إن شاء أحرم من الميقات وإن شاء أحرم من مسكنه الذي هو أقرب من الميقات إلى مكة لعموم قول النبي في حديث ابن عباس لما ذكر المواقيت قال: ((ومن كان دون ذلك فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون من مكة)) أخرجه البخاري ومسلم. لكن من أراد العمرة وهو في الحرم فعليه أنه يخرج إلى الحل ويحرم بالعمرة منه؛ لأن النبي لما طلبت منه عائشة العمرة أمر أخاها عبد الرحمن أن يخرج بها إلى الحل فتحرم منه فدل ذلك على أن المعتمر لا يحرم بالعمرة من الحرم وإنما يحرم بها من الحل، وهذا الحديث يخص حديث ابن عباس المتقدم، ويدل على أن مراد النبي بقوله: ((حتى أهل مكة يهلون من مكة)) هو الإهلال بالحج لا العمرة، إذ لو كان الإهلال بالعمرة جائزا من الحرم لأذن لعائشة رضي الله عنها في ذلك، ولم يكلفها بالخروج إلى الحل، وهذا أمر واضح وهو قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وهو أحوط للمؤمن؛ لأن فيه العمل بالحديثين جميعا والله الموفق. وأما ما يفعله بعض الناس من الإكثار من العمرة بعد الحج من التنعيم أو الجعرانة أو غيرهما وقد سبق أن اعتمر قبل الحج فلا دليل على شرعيته بل الأدلة تدل على أن الأفضل تركه؛ لأن النبي وأصحابه رضي الله عنهم لم يعتمروا بعد فراغهم من الحج، وإنما اعتمرت عائشة من التنعيم لكونها لم تعتمر مع الناس حين دخول مكة بسبب الحيض، فطلبت من النبي أن تعتمر بدلا من عمرتها التي أحرمت بها من الميقات، فأجابها النبي إلى ذلك وقد حصلت لها العمرتان، العمرة التي مع حجها وهذه العمرة المفردة، فمن كان مثل عائشة فلا بأس أن يعتمر بعد فراغه من الحج عملا بالأدلة كلها وتوسيعا على المسلمين ولا شك أن اشتغال الحجاج بعمرة أخرى بعد فراغهم من الحج سوى العمرة التي دخلوا بها مكة يشق على الجميع، ويسبب كثرة الزحام والحوادث مع ما فيه من المخالفة لهدي النبي وسنته. والله الموفق. فصل في حكم من وصل إلى الميقات في غير أشهر الحج اعلم أن الواصل إلى الميقات له حالان: إحداهما: أن يصل إليه في غير أشهر الحج كرمضان وشعبان فالسنة في حق هذا أن يحرم بالعمرة فينويها بقلبه، ويتلفظ بلسانه قائلا: "لبيك عمرة" أو "اللهم لبيك عمرة"، ثم يلبي بتلبية النبي وهي: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك))، ويكثر من هذه التلبية ومن ذكر الله سبحانه حتى يصل إلى البيت، فإذا وصل إلى البيت قطع التلبية وطاف بالبيت سبعة أشواط، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم خرج إلى الصفا وطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم حلق شعر رأسه أو قصره وبذلك تمت عمرته، وحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام. الثانية: أن يصل إلى الميقات في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، فمثل هذا يخير بين ثلاثة أشياء، وهي: الحج وحده، والعمرة وحدها، والجمع بينهما؛ لأن النبي لما وصل إلى الميقات في ذي القعدة في حجة الوداع خير أصحابه بين هذه الأنساك الثلاثة، لكن السنة في حق هذا أيضا إذا لم يكن معه هدي أن يحرم بالعمرة، ويفعل ما ذكرناه في حق من وصل إلى الميقات في غير أشهر الحج؛ لأن النبي أمر أصحابه لما قربوا من مكة أن يجعلوا إحرامهم عمرة، وأكد عليهم في ذلك بمكة فطافوا وسعوا وقصروا وحلوا امتثالا لأمره إلا من كان معه الهدي، فإن النبي أمره أن يبقى على إحرامه حتى يحل يوم النحر، والسنة في حق من ساق الهدي أن يحرم بالحج والعمرة جميعا؛ لأن النبي قد فعل ذلك، وكان قد ساق الهدي وأمر من ساق الهدي من أصحابه وقد أهل بعمرة أن يلبي بحج مع عمرته، وألا يحل حتى يحل منهما جميعا يوم النحر، وإن كان الذي ساق الهدي قد أحرم بالحج وحده بقي على إحرامه أيضا حتى يحل يوم النحر كالقارن بينهما. وعلم بهذا: أن من أحرم بالحج وحده أو بالحج والعمرة وليس معه هدي لا ينبغي له أن يبقى على إحرامه بل السنة في حقه أن يجعل إحرامه عمرة، فيطوف ويسعى ويقصر ويحل كما أمر النبي من لم يسق الهدي من أصحابه بذلك، إلا أن يخشى هذا فوات الحج لكونه قدم متأخرا فلا بأس أن يبقى على إحرامه. والله أعلم. وإن خاف المحرم ألا يتمكن من أداء نسكه لكونه مريضا أو خائفا من عدو ونحوه استحب له أن يقول عند إحرامه: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" لحديث ضباعة بنت الزبير أنها قالت: ((يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال لها النبي : حجي واشترطي إن محلي حيث حبستني)) متفق عليه. وفائدة هذا الشرط أن المحرم إذا عرض له ما يمنعه من تمام نسكه من مرض أو صد عدو جاز له التحلل ولا شيء عليه. فصل في حكم حج الصبي الصغير هل يجزئه عن حجة الإسلام؟ يصح حج الصبي الصغير والجارية الصغيرة لما في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت إلى النبي صبيا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ فقال: ((نعم ولك أجر))، وفي صحيح البخاري عن السائب بن يزيد قال: (حج بي مع رسول الله وأنا ابن سبع سنين). لكن لا يجزئهما هذا الحج عن حجة الإسلام. وهكذا العبد المملوك والجارية المملوكة يصح منهما الحج ولا يجزئهما عن حجة الإسلام لما ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى)) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي بإسناد حسن. ثم إن كان الصبي دون التمييز نوى عنه الإحرام وليه فيجرده من المخيط ويلبي عنه، ويصير الصبي محرما بذلك، فيمنع ما يمنع عنه المحرم الكبير، وهكذا الجارية التي دون التمييز ينوي عنها الإحرام وليها ويلبي عنها وتصير محرمة بذلك، وتمنع مما تمنع منه المحرمة الكبيرة، وينبغي أن يكونا طاهري الثياب والأبدان حال الطواف؛ لأن الطواف يشبه الصلاة، والطهارة شرط لصحتها. وإن كان الصبي والجارية مميزين أحرما بإذن وليهما وفعلا عند الإحرام ما يفعله الكبير من الغسل والطيب ونحوهما، ووليهما هو المتولي لشئونهما القائم بمصالحهما، سواء كان أباهما أو أمهما أو غيرهما، ويفعل الولي عنهما ما عجزا عنه كالرمي ونحوه، ويلزمهما فعل ما سوى ذلك من المناسك كالوقوف بعرفة والمبيت بمنى ومزدلفة والطواف والسعي، فإن عجزا عن الطواف والسعي طِيفَ بهما وسعي بهما محمولين، والأفضل لحاملهما ألا يجعل الطواف والسعي مشتركين بينه وبينهما، بل ينوي الطواف والسعي لهما ويطوف لنفسه طوافا مستقلا، ويسعى لنفسه سعيا مستقلا احتياطا للعبادة، وعملا بالحديث الشريف: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، فإن نوى الحامل الطواف عنه وعن المحمول أجزأه ذلك في أصح القولين؛ لأن النبي لم يأمر التي سألته عن حج الصبي أن تطوف له وحده، ولو كان ذلك واجبا لبينه . والله الموفق. ويؤمر الصبي المميز والجارية المميزة بالطهارة من الحدث والنجس قبل الشروع في الطواف كالمحرم الكبير، وليس الإحرام عن الصبي الصغير والجارية الصغيرة بواجب على وليهما بل هو نفل، فإن فعل ذلك فله أجر وإن ترك ذلك فلا حرج عليه. والله أعلم. فصل في بيان محظورات الإحرام وما يباح فعله للمحرم لا يجوز للمحرم بعد نية الإحرام سواء كان ذكرا أو أنثى أن يأخذ شيئا من شعره أو أظفاره أو يتطيب. ولا يجوز للذكر خاصة أن يلبس مخيطا على جملته -يعني على هيئته التي فصل وخيط عليها- كالقميص أو على بعضه كالفانلة والسراويل والخفين والجوربين إلا إذا لم يجد إزارا جاز له لبس السراويل، وكذا من لم يجد نعلين جاز له لبس الخفين من غير قطع لحديث ابن عباس الثابت في الصحيحين أن النبي قال: ((من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل)). وأما ما ورد في حديث ابن عمر من الأمر بقطع الخفين إذا احتاج إلى لبسهما لفقد النعلين فهو منسوخ؛ لأن النبي أمر بذلك في المدينة لما سئل عما يلبس المحرم من الثياب، ثم لما خطب الناس بعرفات أذن في لبس الخفين عند فقد النعلين ولم يأمر بقطعهما، وقد حضر هذه الخطبة من لم يسمع جوابه في المدينة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز كما قد علم في علمي أصول الحديث والفقه، فثبت بذلك نسخ الأمر بالقطع، ولو كان ذلك واجبا لبينه . والله أعلم. ويجوز للمحرم لبس الخفاف التي ساقها دون الكعبين لكونها من جنس النعلين. ويجوز له عقد الإزار وربطه بخيط ونحوه لعدم الدليل المقتضي للمنع. ويجوز للمحرم أن يغتسل ويغسل رأسه ويحكه إذا احتاج إلى ذلك برفق وسهولة، فإن سقط من رأسه شيء بسبب ذلك فلا حرج عليه. ويحرم على المرأة المحرمة أن تلبس مخيطا لوجهها كالبرقع والنقاب، أو ليديها كالقفازين لقول النبي : ((لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)) رواه البخاري. والقفازان: ما يخاط أو ينسج من الصوف أو القطن أو غيرهما على قدر اليدين. ويباح لها من المخيط ما سوى ذلك كالقميص والسراويل والخفين والجوارب ونحو ذلك، وكذلك يباح لها سدل خمارها على وجهها إذا احتاجت إلى ذلك بلا عصابة، وإن مس الخمار وجهها فلا شيء عليها لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه) أخرجه أبو داود وابن ماجه. وأخرج الدارقطني من حديث أم سلمة مثله. كذلك لا بأس أن تغطي يديها بثوبها أو غيره ويجب عليها تغطية وجهها وكفيها إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب؛ لأنها عورة، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ}[11] الآية، ولا ريب أن الوجه والكفين من أعظم الزينة. والوجه في ذلك أشد وأعظم وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}[12] الآية. وأما ما اعتادته الكثيرات من النساء من جعل العصابة تحت الخمار لترفعه عن وجهها فلا أصل له في الشرع فيما نعلم، ولو كان ذلك مشروعا لبينه الرسول لأمته ولم يجز له السكوت عنه. ويجوز للمحرم من الرجال والنساء غسل ثيابه التي أحرم فيها من وسخ أو نحوه، ويجوز له إبدالها بغيرها ولا يجوز له لبس شيء من الثياب مسه الزعفران أو الورس؛ لأن النبي نهى عن ذلك في حديث ابن عمر. ويجب على المحرم أن يترك الرفث والفسوق والجدال لقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[13]. وصح عن النبي أنه قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) والرفث: يطلق على الجماع وعلى الفحش من القول والفعل. والفسوق: المعاصي. والجدال: المخاصمة في الباطل أو فيما لا فائدة فيه. فأما الجدال بالتي هي أحسن لإظهار الحق ورد الباطل فلا بأس به، بل هو مأمور به؛ لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[14]. ويحرم على المحرم الذكر تغطية رأسه بملاصق كالطاقية والغترة والعمامة أو نحو ذلك، وهكذا وجهه لقول النبي في الذي سقط عن راحلته يوم عرفة ومات: ((اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ووجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا)) متفق عليه. وهذا لفظ مسلم. وأما استظلاله بسقف السيارة أو الشمسية أو نحوهما فلا بأس به كالاستظلال بالخيمة والشجرة لما ثبت في الصحيح أن النبي ظلل عليه بثوب حين رمى جمرة العقبة، وصح عنه أنه ضربت له قبة بنمرة فنزل تحتها حتى زالت الشمس يوم عرفة. ويحرم على المحرم من الرجال والنساء قتل الصيد البري والمعاونة في ذلك وتنفيره من مكانه، وعقد النكاح والجماع وخطبة النساء ومباشرتهن بشهوة لحديث عثمان رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب)) رواه مسلم. وإن لبس المحرم مخيطا أو غطى رأسه أو تطيب ناسيا أو جاهلا فلا فدية عليه، ويزيل ذلك متى ذكر أو علم، وهكذا من حلق رأسه أو أخذ من شعره شيئا أو قلم أظافره ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه على الصحيح، ويحرم على المسلم محرما كان أو غير محرم ذكرا كان أو أنثى قتل صيد الحرم والمعاونة في قتله بآلة أو إشارة أو نحو ذلك. ويحرم تنفيره من مكانه، ويحرم قطع شجر الحرم ونباته الأخضر ولقطته إلا لمن يعرفها لقول النبي : ((إن هذا البلد- يعني مكة- حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد)) متفق عليه. والمنشد هو الْمُعَرِّف، والخلا هو الحشيش الرطب، ومنى ومزدلفة من الحرم، وأما عرفة فمن الحل. فصل فيما يفعله الحاج عند دخول مكة وبيان ما يفعله بعد دخول المسجد الحرام من الطواف وصفته فإذا وصل المحرم إلى مكة استحب له أن يغتسل قبل دخولها؛ لأن النبي فعل ذلك؛ فإذا وصل إلى المسجد الحرام سن له تقديم رجله اليمنى ويقول: ((بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم اللهم افتح لي أبواب رحمتك)) ويقول ذلك عند دخول سائر المساجد وليس لدخول المسجد الحرام ذكر يخصه ثابت عن النبي فيما أعلم. فإذا وصل إلى الكعبة قطع التلبية قبل أن يشرع في الطواف إن كان متمتعا أو معتمرا، ثم قصد الحجر الأسود واستقبله، ثم يستلمه بيمينه ويقبله إن تيسر ذلك ولا يؤذي الناس بالمزاحمة، ويقول عند استلامه: "بسم الله والله أكبر". فإن شق التقبيل استلمه بيده أو عصا، وَقَبَّلَ ما استلمه به، فإن شق استلامه أشار إليه، وقال: "الله أكبر". ولا يقبل ما يشير به، ويجعل البيت عن يساره حال الطواف، وإن قال في ابتداء طوافه: ((اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد )) فهو حسن لأن ذلك قد روي عن النبي ويطوف سبعة أشواط ويرمل في جميع الثلاثة الأول من الطواف الأول وهو الطواف الذي يأتي به أول ما يقدم مكة، أي طواف القدوم سواء كان معتمرا أو متمتعا أو محرما بالحج وحده، أو قارنا بينه وبين العمرة، ويمشي في الأربعة الباقية، يبتدئ كل شوط بالحجر الأسود ويختم به، والرمل هو الإسراع في المشي مع مقاربة الخطى. ويستحب له أن يضطبع في جميع هذا الطواف دون غيره، والاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، وإن شك في عدد الأشواط بنى على اليقين وهو الأقل، فإذا شك هل طاف ثلاثة أشواط أو أربعة جعلها ثلاثة، وهكذا يفعل في السعي. وبعد فراغه من هذا الطواف يرتدي بردائه فيجعله على كتفيه وطرفيه على صدره قبل أن يصلي ركعتي الطواف. ومما ينبغي إنكاره على النساء وتحذيرهن منه: طوافهن بالزينة والروائح الطيبة وعدم التستر وهن عورة، فيجب عليهن التستر وترك الزينة حال الطواف وغيرها من الحالات التي يختلط فيها النساء مع الرجال؛ لأنهن عورة وفتنة، ووجه المرأة هو أظهر زينتها، فلا يجوز لها إبداؤه إلا لمحارمها لقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ}[15] الآية، فلا يجوز لهن كشف الوجه عند تقبيل الحجر الأسود إذا كان يراهن أحد من الرجال، وإذا لم يتيسر لهن فسحة لاستلام الحجر وتقبيله فلا يجوز لهن مزاحمة الرجال، بل يطفن من ورائهم وذلك خير لهن وأعظم أجرا من الطواف قرب الكعبة حال مزاحمتهن الرجال، ولا يشرع الرمل والاضطباع في غير هذا الطواف ولا في السعي ولا للنساء؛ لأن النبي لم يفعل الرمل والاضطباع إلا في طوافه الأول الذي أتى به حين قدم مكة، ويكون حال الطواف متطهرا من الأحداث والأخباث، خاضعا لربه متواضعا له. ويستحب له أن يكثر في طوافه من ذكر الله والدعاء، وإن قرأ فيه شيئا من القرآن فحسن، ولا يجب في هذا الطواف ولا غيره من الأطوفة. ولا في السعي ذكر مخصوص ولا دعاء مخصوص. وأما ما أحدثه بعض الناس من تخصيص كل شوط من الطواف أو السعي بأذكار مخصوصة أو أدعية مخصوصة فلا أصل له، بل مهما تيسر من الذكر والدعاء كفى فإذا حاذى الركن اليماني استلمه بيمينه وقال: "بسم الله والله أكبر" ولا يقبله، فإن شق عليه استلامه تركه ومضى في طوافه، ولا يشير إليه ولا يكبر عند محاذاته؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي فيما نعلم، ويستحب له أن يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[16]، وكلما حاذى الحجر الأسود استلمه وقبله وقال: "الله أكبر". فإن لم يتيسر استلامه وتقبيله أشار إليه كلما حاذاه وكبر. ولا بأس بالطواف من وراء زمزم والمقام ولا سيما عند الزحام والمسجد كله محل للطواف ولو طاف في أروقة المسجد أجزأه ذلك، ولكن طوافه قرب الكعبة أفضل إذا تيسر ذلك. فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف المقام إذا تيسر له ذلك، وإن لم يتيسر له ذلك لزحام ونحوه صلاهما في أي موضع من المسجد، ويسن أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[17] و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[18]، ثم يقصد الحجر الأسود فيستلمه بيمينه إن تيسر له ذلك اقتداء بالنبي في ذلك. ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيرقاه أو يقف عنده والرقي على الصفا أفضل إن تيسر، ويقرأ عند ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَآئِرِ اللَّهِ}[19] الآية. ويستحب أن يستقبل القبلة ويحمد الله ويكبره ويقول: "لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" ثم يدعو بما تيسر رافعا يديه، ويكرر هذا الذكر والدعاء ثلاث مرات ثم ينزل فيمشي إلى المروة حتى يصل إلى العلم الأول فيسرع الرجل في المشي إلى أن يصل إلى العلم الثاني، وأما المرأة فلا يشرع لها الإسراع بين العلمين لأنها عورة، وإنما المشروع لها المشي في السعي كله، ثم يمشي فيرقى المروة أو يقف عندها والرقي عليها أفضل إن تيسر ذلك، ويقول ويفعل على المروة كما قال وفعل على الصفا. ما عدا قراءة الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَآئِرِ اللَّهِ}[20]، فهذا إنما يشرع عند الصعود إلى الصفا في الشوط الأول فقط؛ تأسيا بالنبي ، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسرع في موضع الإسراع حتى يصل إلى الصفا، يفعل ذلك سبع مرات ذهابه شوط، ورجوعه شوط؛ لأن النبي فعل ما ذكر، وقال: ((خذوا عني مناسككم))، ويستحب أن يكثر في سعيه من الذكر والدعاء بما تيسر، وأن يكون متطهرا من الحدث الأكبر والأصغر، ولو سعى على غير طهارة أجزأه ذلك، وهكذا لو حاضت المرأة أو نفست بعد الطواف سعت وأجزأها ذلك؛ لأن الطهارة ليست شرطا في السعي، وإنما هي مستحبة كما تقدم. فإذا كمل السعي حلق رأسه أو قصره، والحلق للرجل أفضل فإن قصر وترك الحلق للحج فحسن، وإذا كان قدومه مكة قريبا من وقت الحج فالتقصير في حقه أفضل ليحلق بقية رأسه في الحج؛ لأن النبي لما قدم هو وأصحابه مكة في رابع ذي الحجة أمر من لم يسق الهدي أن يحل ويقصر، ولم يأمرهم بالحلق، ولا بد في التقصير من تعميم الرأس، ولا يكفي تقصير بعضه، كما أن حلق بعضه لا يكفي، والمرأة لا يشرع لها إلا التقصير، والمشروع لها أن تأخذ من كل ضفيرة قدر أنملة فأقل، والأنملة هي رأس الإصبع، ولا تأخذ المرأة زيادة على ذلك. فإذا فعل المحرم ما ذكر فقد تمت عمرته وحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، إلا أن يكون قد ساق الهدي من الحل فإنه يبقى على إحرامه حتى يحل من الحج والعمرة جميعا. وأما من أحرم بالحج مفردا أو بالحج والعمرة جميعا فيسن له أن يفسخ إحرامه إلى العمرة ويفعل ما يفعله المتمتع إلا أن يكون قد ساق الهدي؛ لأن النبي أمر أصحابه بذلك وقال: ((لولا أني سقت الهدي لأحللت معكم)). وإذا حاضت المرأة أو نفست بعد إحرامها بالعمرة لم تطف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر، فإذا طهرت طافت وسعت وقصرت من رأسها، وتمت عمرتها بذلك، فإن لم تطهر قبل يوم التروية أحرمت بالحج من مكانها الذي هي مقيمة فيه، وخرجت مع الناس إلى منى، وتصير بذلك قارنة بين الحج والعمرة، وتفعل ما يفعله الحاج من الوقوف بعرفة وعند المشعر ورمي الجمار والمبيت بمزدلفة ومنى ونحر الهدي والتقصير، فإذا طهرت طافت بالبيت وسعت بين الصفا والمروة طوافا واحدا وسعيا واحدا، وأجزأها ذلك عن حجها وعمرتها جميعا؛ لحديث عائشة أنها حاضت بعد إحرامها بالعمرة، فقال لها النبي : ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) متفق عليه. وإذا رمت الحائض والنفساء الجمرة يوم النحر وقصرت من شعرها حل لها كل شيء حرم عليها بالإحرام كالطيب ونحوه إلا الزوج حتى تكمل حجها كغيرها من النساء الطاهرات، فإذا طافت وسعت بعد الطهر حل لها زوجها. فصل في حكم الإحرام بالحج يوم الثامن من ذي الحجة والخروج إلى منى فإذا كان يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة استحب للمحلين بمكة ومن أراد الحج من أهلها الإحرام بالحج من مساكنهم، لأن أصحاب النبي أقاموا بالأبطح وأحرموا بالحج منه يوم التروية عن أمره ، ولم يأمرهم النبي أن يذهبوا إلى البيت فيحرموا عنده، أو عند الميزاب، وكذا لم يأمرهم بطواف الوداع عند خروجهم إلى منى، ولو كان ذلك مشروعا لعلمهم إياه، والخير كله في اتباع النبي وأصحابه رضي الله عنهم. ويستحب أن يغتسل ويتنظف ويتطيب عند إحرامه بالحج كما يفعل ذلك عند إحرامه من الميقات، وبعد إحرامهم بالحج يسن لهم التوجه إلى منى قبل الزوال أو بعده من يوم التروية، ويكثروا من التلبية إلى أن يرموا جمرة العقبة، ويصلون بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، والسنة أن يصلوا كل صلاة في وقتها قصرا بلا جمع إلا المغرب والفجر فلا يقصران. ولا فرق بين أهل مكة وغيرهم؛ لأن النبي صلى بالناس من أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة قصرا، ولم يأمر أهل مكة بالإتمام، ولو كان واجبا عليهم لبينه لهم. ثم بعد طلوع الشمس من يوم عرفة ي ا الحج الحمد لله الذي فرض الحج على عباده إلى بيته الحرام ورتب على ذلك جزيل الأجر ووافر الإنعام فمن حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه نقياً من الذنوب والآثام والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة دار السلام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وزكى وحج وصام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي و الأيام وسلم تسليما أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى وأدوا ما فرضه الله عليكم من الحج إلى بيته حيث استطعتم إليه سبيلا فقد قال الله عز وجل ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(آل عمران: من الآية97) وقال رسوله الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ـ لا تقعد تتسوك يا أخي ـ وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا وأخبر أن الإسلام بني على هذه الخمس فلا يتم إسلام عبدٍ حتى يحج ولا يستقيم بنيان إسلامه حتى يحج وعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال وقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جده أي غنىً ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين ففريضة الحج ثابتة بكتاب الله وبسنة رسوله وبإجماع المسلمين عليها إجماعاً قطعيا فمن أنكر فريضة الحج فقد كفر ومن أقر بها وتركها تهاوناً فهو على خطر فإن الله تعالى يقول بعد ذكر أيجاب الحج على الناس (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه كيف يبخل بالمال على نفسه في أداء هذه الفريضة وهو ينفق الكثير من ماله فيما تهواه نفسه كيف يوفر نفسه عن التعب في الحج وهو يرهق نفسه في التعب في أمور دنياه كيف يتثاقل فريضة الحج وهو لا يجب في العمر سوى مرة واحدة كيف يتراخى ويؤخر أداءه وهو لا يدري فلعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه فاتقوا الله عباد الله وأدوا ما فرض الله عليكم من الحج تعبداً له ورضا بحكمه وسمعاً وطاعة لأمره إن كنتم مؤمنين ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36) إن المؤمن إذا أدى الحج والعمرة بعد بلوغه مرة واحدة فقد أسقط الفريضة عن نفسه وأكمل بذلك أركان إسلامه ولم يجب عليه بعد ذلك حج ولا عمرة إلا أن ينذر الحج أو العمرة فيلزمه الوفاء بما نذر لقول النبي (من نذر أن يطيع الله فليطعه ) عباد الله إن من تمام رحمة ربكم ومن بالغ حكمته أن جعل لفرائضه حدوداً وشروطاً لتنضبط الفرائض وتتحدد المسئولية وجعل هذه الحدود والشروط في غاية المناسبة للفارق و الزمان والمكان ومن هذه الفرائض الحج فله حدود وشروط أحدها الإسلام وكنا بالأول نتحاشى الكلام على هذا الشرط لأن جميع من كانوا هنا كانوا مسلمين و لكن الآن لا بد من أن نتكلم على هذا الشرط فمن شروط وجوب الحج وصحته أن يكون الإنسان مسلماً فالكافر لا يجب عليه الحج حتى يسلم ولا يصح منه الحج حتى يسلم وعلى هذا فالذي لا يصلي إذا حج وهو مستمر على عدم الصلاة فحجه غير مقبول منه وهو مرفوض ومردود ولا تسقط فيه الفريضة فإذا هداه الله ورجع إلى الإسلام وصلى فيجب عليه أن يعيده مرة أخرى لأن الحج وهو لا يصلي حج من كافر فكما أن اليهودي إذا حج والنصراني إذا حج والوثني إذا حج لا يقبل منهم الحج فكذلك الذي لا يصلي لا يقبل منه الحج بل إني أقول أقولها بصراحة ووضوح ورفع صوت إنه لا يحل لمن لا يصلي أن يقرب المسجد الحرام لا يجوز أن يدخل مكة ولا حدود الحرم لقول الله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا )(التوبة: من الآية28) أيها المسلمون وإن من شروط الحج البلوغ ويحصل البلوغ في الذكور بواحد من أمور ثلاثة إنزال المني أو تمام خمسة عشر سنة أو نبات شعر العانة وفي الإناث يحصل بهذه الثلاثة وزيادة أمر رابع وهو الحيض فإذا حاضت المرأة ولو لم يكن لها إلا تسع سنين صارت امرأة كالكبيرة سواءا يلزمها ما يلزم الكبيرة من فرائض الله فمن لم يبلغ فلا حج عليه ولو كان غنياً لكن لو حج وهو صغير فحجه تطوعاً وله أجره فإذا بلغ أدى الفريضة لأن حجه قبل البلوغ لا يسقط به الفرض لأنه لم يفرض عليه بعد فهو كما لو تصدق بمال ينوي به الزكاة قبل أن يملك نصابه وعلى هذا فمن حج ومعه أبناءه الصغار أو بناته الصغار فإن حجوا معه كان له أجر ولهم ثواب الحج وإن لم يحجوا معه فلا شيء عليه ولا عليهم و إنني أقول أنه بمناسبة كثرة الناس اليوم وصعوبة الحج ومشقته أرى فإن كان رأيي صواباً فمن الله وله الفضل والمنّة بذلك وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان مني أقول إني أرى في هذا الوقت ومناسبة كثرة الناس أن لا يحجج الأولاد الصغار بمعنى أن لا يحرموا بالحج ولا بالعمرة ولو كانوا مع أهلهم لأن ذلك مشقة عليهم وعلى أهلهم وقد قال الله عز وجل (وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ولأنهم إذا أحرموا بالحج أو بالعمرة شق عليهم ذلك ومنع أهلهم من أن يأتوا بالمناسك على وجهها الأكمل ومن شروط وجوب الحج أن يكون مستطيعاً بماله وبدنه لأن الله تعالى شرط ذلك للوجوب في قوله من أستطاع إليه سبيلا فمن لم يكن مستطيعاً فلا حج عليه فالاستطاعة بالمال أن يملك الإنسان ما يكفي لحجه زائداً عن حوائج بيته وما يحتاجه من نفقة وكسوة له ولعياله وأجرة مسكن لمدة سنة وقضاء ديون حالة فمن كان عنده مال يحتاجه لما ذكر لم يجب عليه الحج ومن كان عليه دين حال لم يجب عليه الحج حتى يوفيه والدين كل ما ثبت في ذمة الإنسان من قرض وثمن مبيع وأجرة وغيرها فمن كان في ذمته درهم واحدٌ حال فهو مدين ولا يجب عليه الحج حتى يبرأ منه بوفاء أو إسقاط لأن قضاء الدين مهم جداً حتى إن الرجل ليقتل في سبيل الله شهيداً فتكفر عنه الشهادة كل شيء إلا الدين فإنها لا تكفره وحتى إن الرجل ليموت وعليه الدين فتعلق نفسه بدينه حتى يقضى عنه أما الدين المؤجل فإن كان موثقا برهن يكفيه لم يسقط به وجوب الحج فإذا كان على الإنسان دين قد أرهن به طالبه قد أرهن به طالبه ما يكفي الدين وبيده مال يمكنه أن يحج به فإنه يجب عليه الحج و على هذا فالدين الذي على البنك العقاري لا يسقط الحج لأن به رهنا يكفي لقضائه وهو البيت المرهون للبنك وعلى هذا فإذا كان بيد الإنسان مال يمكنه أن يحج به لم ينظر إلى الدين الذي عليه للبنك أما إذا كان الدين مؤجل غير موثق مؤجل برهن يكفيه فإن الحج لا يجب عليه حتى يبرأ من دينه وهذا من تيسير الله ورحمته بعباده والاستطاعة بالبدن أن يكون الإنسان قادرا على الوصول بنفسه إلى البيت أي إلى مكة بدون مشقة فإن كان لا يستطيع الوصول إلى البيت أو يستطيع الوصول لكن بمشقة شديدة كالمريض فإن كان يرجو الاستطاعة في المستقبل انتظر حتى يستطيع ثم يحج فإن مات حجّ عنه من تركته وإن كان لا يرجو الاستطاعة في المستقبل كالكبير والمريض الميؤس من ه فإنه يوكل من يحج عنه من أقاربه أو غيرهم فإن مات قبل التوكيل حج عنه من تركته وإذا لم يكن للمرأة محرم فليس عليها حج لأنها لا تستطيع السبيل إلى الحج فإنها ممنوعة شرعاً من السفر بدون محرم قال ابن عباس رضي الله عنهما سمعت النبي يخطب يقول لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتبت في غزوة كذا وكذا فقال النبي انطلق فحج مع امرأتك فأمره النبي أن يدع الغزو وأن يحج مع امرأته ولم يستفصل النبي منه هل كانت امرأته شابة أو كان معها نساء أو لا وهو دليل على أن المرأة يحرم عليها السفر بدون محرم على أي حال وعلى أي مركوب طائرة او سيارة الا اذا كان معها محرم وهو زوجها وكل من يحرم عليه نكاحها تحريما مؤبدا كالأب وإن علا والابن وإن نزل والأخ وابن الأخ وإن نزل وابن الأخت وإن نزل والعم والخال سواء كان ذلك من نسب أو رضاع وكأب الزوج وإن علا وابنه وإن نزل وزوج البنت وإن نزلت وزوج الأم وإن علت إذا كان قد دخل بها ولا بد أن يكون المحرم بالغاً عاقلا فمن كان دون البلوغ لا يكفي أن يكون محرماً لأن المقصود من المحرم حفظ المرأة وصيانتها وهيبتها وذلك لا يحصل بالصغير أيها الناس إن بعض الناس يخفي لنفسه بالنسبة للسفر بالطائرة ويقول إن المدة قصيرة ولا حرج أن تسافر المرأة إذا كانت آمنة وهذا خطأ ومعارضة لقول النبي في الرأي والنصوص لا ينبغي أن تعارض بالرأي ولا يجوز أن تعارض به وإذا كانت العادة أن الطيارة تقطع المسافة في ساعة أو نصف ساعة مثلاً فإنه تأتي أمور على خلاف العادة ربما تتيه الطائرة طريقها وربما لا يسمح لها بالمطار الذي توجهت إليه وربما تصاب بعطب فتضطر إلى أن تقع في مطار غير المطار الذي توجهت به وربما يكون المحرم الذي من المفروض أن يقابل المرأة في المطار ربما يحصل له مرض فلا يستطيع أن يحضر وربما يحصل على سيارته خلل فلا يستطيع أن يحضر وربما يحضر إلى المطار فعلاً ولكن تغيب عنه المرأة أو يتلقفها من يغرها ويخدعها كما جرى ذلك غير مرة فاتقوا الله عباد الله ولا تتهاونوا بأمر الله ورسوله فإنكم عباد لله والعبد لا بد أن يأتمر بأمر سيده ومولاه أيها المسلمون من رأى من نفسه أنه قد استكمل شروط وجوب الحج فليبادر به ولا يتأخر فإن أوامر الله ورسوله على الفور بدون تأخير قال ابن القيم رحمه الله وهو من أكبر تلاميذ شيخ الإسلام بن تيمية أو أكبرهم قال من ترك الحج عمداً مع القدرة عليه حتى مات أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع أن فعلهما بعد موته لا يبري ذمته ولا يقبل منه قال والحق أحق أن يتبع والإنسان لا يدري ما يحصل له في المستقبل وقد يسر الله وله الحمد لنا في هذه البلاد ما لم يوفره لغيرنا من سهولة الوصول إلى البيت وأداء المناسك فقابلوا هذه النعمة بشكرها وأداء فريضة الله عليكم قبل أن يأتي أحدكم الموت فيندم حين لا ينفع الندم واسمعوا قول الله عز وجل (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (الزمر:54) فاتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ومن حج على الوجه الشرعي مخلصاً لله متبعاً لرسوله فقد تم حجه سواء قد تمم له أم لا أما ما توهمه بعض العوام من أن من لم يتمم له فلا حج له فهو غير صحيح فلا علاقة بين التميمة والحج وكذلك يجوز أن يحج الإنسان ويعتمر وعليه شيء من قضاء صوم رمضان لأنه لا علاقة بين صوم رمضان والحج وفقني الله وإياكم للقيام بفرائضه والتزام حدوده وزودنا من فضله وكرمه وحسن عبادته ما تكمل به فرائضنا وتزداد به حسناتنا ويكمل به إيماننا ويرسخ به ثباتنا إنه جواد كريم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ... هذا لتزكية النفوس وكمال الإيمان ونوعها ما بين بدنية ومالية وجامعة بين الأموال و الأبدان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى الأنس والجان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وصلى وسلم تسليماً أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى وأعلموا أن الحج من أفضل العبادات وأعظمها ثواباً فقد صح عنه أنه قال ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس جزاء إلا الجنة ) وأنه قال من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه يعني نقياً من الذنوب وإن الحج عبادة بدنية وإن كان فيها شيء من المال كالهدي فهي في ذاتها عبادة بدنية يطلب من العبد فعلها بنفسه وقد جاءت السنة بالاستنابة فيها في الفريضة حال اليأس من فعلها ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع وأن امرأة أخرى قالت يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت فأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته قالت نعم قال أقضي الله فالله أحق بالوفاء فمن كان قادراً على الحج بنفسه فإنه لا يصح أن يوكل من يحج عنه من كان قادراً على الحج بنفسه فإنه لا يصح أن يوكل من يحج عنه وقد تساهل كثير من الناس في التوكيل في حج التطوع حتى أصبح بعض الناس لا يحدث نفسه أن يحج إلا بالتوكيل يوكل غيره أن يحج عنه وهو قادر على الحج فيحرم نفسه الخير الحاصل له بالحج بنفسه من أجل تعب العبادة وما يكون فيها من ذكر ودعاء وخشوع ومضاعفة أعمال ولقاءات نافعة وغير ذلك اعتماداً على توكيله من يحج عنه وقد منع الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في أحدى الروايتين عنه من توكيل القادر من يحج عنه في التطوع فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل في إنابة غيره في الحج عنه بل يحج بنفسه إن شاء أو يعين الحاج بشيء من المال ليشاركهم في الأجر من غير أن ينقص من أجورهم شيء أيها الناس إن الحج عبادة من العبادات يفعلها العبد تقرباً إلى الله تعالى و ابتغاء لثواب الآخرة فلا يجوز للعبد أن يصرف الحج إلى تكسب مادي يبتغي به المال وإنه من المؤسف أن كثيراً من الناس الذين يحجون عن غيرهم إنما يحجون من أجل كسب المال فقط وهذا حرام عليهم فإن العبادات لا يجوز للعبد أن يقصد بها الدنيا يقول الله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:16)وقال تعالى في الحجاج ( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(البقرة: من الآية200) فلا يقبل الله تعالى من عبد عبادة لا يبتغي بها وجهه ولقد حمى رسول الله صلى الله وعلى آله وسلم أمكان العبادة من التكسب للدنيا فقال (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك ) فإذا كان هذا فيمن جعل موضع العبادة مكانا للتكسب يدعى عليه أن لا يربح الله عليه تجارته فكيف بمن جعل العبادة نفسها غرضاً للتكسب الدنيوي كأن الحج سلعة أو عمل حرفة لبناء بيت أو إقامة جدار تجد الذي تعرض عليه النيابة يكاثر ويماكر يقول هذه دراهم قليلة هذه لا تكفي زد أعطاني فلان أكثر من كذا أو أعطي فلان حجة بكذا أو نحو هذا الكلام مما يقلب العبادة إلى حرفة وصناعة ولهذا صرح الفقهاء فقهاء الحنابلة رحمهم الله بأن تأجير الرجل ليحج عن غيره غير صحيح وأنه إذا استأجر إنسان ليحج عنه فحج عنه لغرض المال فإن الحج لا يصح ويجب عليه أن يرجع الفلوس كلها إلى من أعطاه إياها وقال شيخ الإسلام ابن تيميه من حج ليأخذ المال فليس له في الآخرة من خلاق لكن إذا أخذ النيابة لغرض ديني مثل أن يقصد نفع أخيه بالحج عنه أو يطلب زيادة الطاعة والدعاء والذكر في المشاعر فهذا لا بأس به وهي نية سليمة فإذاً إن على الذين يأخذون النيابة في الحج أن يخلصوا النية لله وأن تكون نيتهم قضاء وطرهم بالتعبد حول بيت الله وذكره ودعائه مع قضاء حاجة إخوانهم بالحج عنهم وأن يبتعدوا عن النية الدنيئة بقصد التكسب بالمال فإن لم يكن في نفوسهم إلا التكسب بالمال فإنه لا يحل لهم أخذ النيابة حينئذ فاتقوا الله عباد الله وجانبوا النية الباطل ولا تكن الدنيا أكبر همكم فتدخلوها في عباداتكم ومن أخذ النيابة بنية صالحة فالمال الذي يأخذه كله له إلا أن اشترط عليه رد ما بقي وكذلك يجب عليه أن ينوي العمرة والحج لمن وكله لأن هذا هو المعروف بين الناس إلا أن يشترط لنفسه أن العمرة له فله ما شرط ولا يحل لمن أخذ نيابة عن شخص أن يوكل غيره فيها لا بقليل ولا بكثير إلا برضى من صاحبها الذي أعطاه فثواب الأعمال أعنى الأعمال التي يفعلها الموكل ثواب الأعمال المتعقلة بالنسك كلها لمن وكله أما أجر الصلاة والطواف الذي يتطوع به خارجاً عن النسك وقراءة القرآن والدعاء فهو لمن حج لا للموكل ولكن ينبغي لمن أعطي نيابة أن يدعو لمن وكل له لأن ذلك من الإحسان إليه ويجب على الوكيل في الحج والعمرة أن يجتهد في اتمام أعمال النسك القولية والفعلية لأنه أمين على ذلك فليتق الله فيها ما استطاع ويقول في التلبية لبيك عن فلان فيسميه فإن نسيه نواه بقلبه وقال لبيك عن من أنابني في هذه العمرة أو في هذا الحج والله تعالى يعلمه وسيوصل إليه الثواب اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا إلا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا وأن ترزقنا الإخلاص في عبادتك وحسن العمل باتباع رسولك محمد ونسألك اللهم أن تعز الإسلام والمسلمين وتوفقهم لما فيه الخير والصلاح في معاشهم ومعادهم إنك جواد كريم ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين أمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلمكم تذكرون و وافوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون لقد سمعتم أيها الاخوة أنني قلت لمن يتسوك لا تتسوك في أثناء الخطبة وهذا صحيح لأن الإنسان إذا صار يتسوك انشغل عن سماع الخطبة والعبث في أثناء الخطبة مذموم لأنه يشغل عن استماعها لكن إذا أصاب الإنسان نوم وكان لا يتخلص من النعاس إلا بالتسوك فلا بأس بذلك ليطرد عنه النوم ويستمع إلى الخطبة استماعاً صحيحاً وكثيراً ما كنا ننبه أن الإنسان إذا جاء يوم الجمعة والمؤذن يؤذن بين يدي الخطيب فإنه يصلي تحية المسجد ولا ينتظر المؤذن فيجيبه لأن استماع الخطبة أهم من إجابة المؤذن فإن إجابة المؤذن سنة على القول الراجح وأما استماع الخطبة فإنه واجب ولا معارضة بين الواجب والمسنون ولكن إذا قام يستمع المؤذن فإنه لا يقوم وينصت كما يظهر من حال كثير من القائمين أمامنا ولكن إذا دخل المسجد وهو يؤذن في غير يوم الجمعة فإنه يقف و يتابع المؤذن ويدعو بالدعاء المأثور بعد فراغ الأذان ثم يأتي بتحية المسجد أو ما شاء من صلاة أرجو أن تنتبهوا للفرق بين الأذان في يوم الجمعة الذي يكون بين يدي الخطيب وبين الأذان في غير هذه الساعة واسأل أن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح أذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمة يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|