#1
|
||||||||||
|
||||||||||
* قلوب واقدار *
مرت سنتان ..
مع ذلك ما زالت , بخلاف الخلق , تبغض نيسان .. ! ثمة أمكنة نكرهها .. أو أزمنة نتشاءم منها .. لأنها ترتبط , في مخيلتنا , بذكرى أليمة .. خيبة أو فاجعة .. وثمة أزمنة نحِنّ إليها .. أو أمكنة نشعر نحوها بالحميمية وبألفة لذيذة .. لأنها كانت مسرحًا , أو شاهدًا , على لحظاتنا الحلوة .. ! في نيسان مواسم خصب للزهر وللقمر .. فيه يبلغ حمل الأرض غايته .. تدغدغ روائحه الشعور لتحرضه على الحلم .. وقتها بالضبط ظهر .. غريب لا يعرفه أحد .. ولا أحد يعلم من أين بالضبط جاء .. لم يشعر به أهل الحي إلا وقد استأجر الشقة المطلة على الجنوب , في الطبقة الثانية للبناية المقابلة تمامًا لشقتها .. لم يكن بينه وبينها سوى شارع ضيق وشجرة تفاح .. كثر حوله الهمس .. لكنه لم يلتصق بأحد .. يخرج باكرًا .. يختفي طيلة النهار .. وفي الأماسي كانت تراه يمر حذاء بلكونة دارها .. أنيقًا .. هادئًا كالطيف .. غامضًا كالمصير .. يتسلل بخفة إلى شقته , مثل لص أو عاشق .. إحساس لم تعرفه من قبل شدها نحوه .. خطر لها أكثر من مرة أن تلفت انتباهه بأي حيله .. أن تعترضه في الطريق مثلا .. لكن شجاعتها كانت دائمًا تخونها .. كل الذي قدرت عليه أنها كانت تسارع لتصنع لنفسها فنجان قهوة .. ثم تتظاهر كأنها تقرأ كتابًا .. أو تمسح شباكًا .. لتجلس على البلكونة ساعات طويلة .. وعبثًا تحاول أن تكتشف عنه أي شيء .. عدا تحركاته العادية في الشقة .. ذات أصيل رائع من أصائل نيسان .. مالت الشمس , مثل عذراء عاشقة , لتلقي نفسها بين ذراعي الأفق .. هبت من الغرب نسائم طرية ناعمة .. تمس الروح , وتحث على الحب .. جاءت ناديــا, أقرب صديقاتها , في زيارة .. أخذتها إلى البلكونة .. دون أن يحول ذلك بينها وبين مواصلة اختلاس النظر ومراقبة شقة الغريب .. فجأة لاحظته يسقي وردة حمراء على شباكه .. ثم…. ابتسم ..! شهق قلبها فرحًا .. كاد يسقط في الشارع .. تركت ناديــا , لكي لا تفتضح .. أو , على الأصح , لتتوحد مع فرحتها , وقامت إلى الداخل , كما لتحضر شيئًا .. في المطبخ أقسمت لنفسها ألف يمين أنه كان سيلوّح لها بيده , لو أنها كانت وحدها .. هو إذن , بكل حال , يحس بها .. بل لا بد أنه يبادلها ذات الشعور .. جاءها صوت ناديـا , لينتشلها من عوالم سحرية هامت فيها , معلنة أنه قد صار عليها أن تذهب .. لتذهب .. من يكترث لوجودها أصلا .. هي كانت أحوج ما تكون للاختلاء بنفسها .. استيقظت , في اليوم التالي , مبكرًا على غير عادتها .. تنفس الصبح عن أشعة ٍ بكر ٍ تسللت عبر زجاج النوافذ , كما لتمسح دموعًا تركها الندى فوق أوراق شجرة التفاح .. سرت في أوصالها رعشة دافئة .. كلمسة حبيب .. فهبت نحو البلكونة .. يا لحسن حظها .. بل يا لسخاء القدر معها .. رأته يقفل باب شقته ثم يمشي باتجاهها , ليجتاز الشارع .. أنيقًا كعادته .. خفيفًا كأنه خيال .. كم تمنت لو يرفع ناظريه صوبها .. كانت قد حزمت أمرها أنه لو فعل , فستبتسم له .. بل وستلوّح له بكلتا يديها .. لكنه لم يفعل .. أقنعت نفسها أن ذلك بالتأكيد لأنه لا يتوقع وجودها هناك في مثل هذه الساعة المبكره .. عندما حاذى بلكونتها فكرت لو تصفق له بيدها .. أو تحدث جلبة ما .. أو أن تكوّر ورقة وتلقيها في طريقه .. ولكن هذه المرة أيضًا خانتها شجاعتها .. تكررت زيارات ناديـا مرتين أو ثلاثًا في الأسبوع ذاته .. تكررت الجلسات الطويلة على البلكونة .. وفي كل مرة كانت ابتسامته تنشـّط دورتها الدموية .. لقد تمكن ببساطة, وعن بعد , من تحويل جميع أعضاء جسدها قلوبًا تحبه .. ! يوم السبت حضرت ناديـا كعادتها .. مشت وحدها نحو النافذة .. رأته يقفل باب شقته .. استدارت بسرعة لتقول : أنا آسفة , علي أن أخرج الآن .. عندي موعد .. سأحدثك لاحقًا .. لم تكن مواعيد ناديـا, خصوصًا هذه الأيام , تهمها في شيء .. قالت بلا مبالاة واضحة: موعد ؟ لم جئت إذن ..؟ أجابت ناديـا بحماس ونشوة : كان يجب أن أجيء .. اتفقنا أن ننطلق معًا مِن هنا .. قالت مستغربة : مِن هنا ..؟ اتفقت مع مَن ..؟ وهي تمسك أكرة الباب بيدها فرحة كفراشة , قالت ناديـا :جارك ‘عماد‘ .. سأمر عليك لاحقا .. وسأحكي لك كل شيء .. خرجت ناديـا.. فيما ارتمت هي على أحد المقاعد غائبة , بلا حراك , في أعماق اللا شيء ..
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|