11-17-2011, 01:08 PM | #11 | |
مشرف قسم
|
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) إن هذا الذي أنبأتك به من أمر عيسى لهو النبأ الحق الذي لا شك فيه, وما من معبود يستحق العبادة إلا الله وحده, وإن الله لهو العزيز في ملكه, الحكيم في تدبيره وفعله. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) فإن أعرضوا عن تصديقك واتباعك فهم المفسدون, والله عليم بهم, وسيجازيهم على ذلك قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) قل -أيها الرسول- لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: تعالَوْا إلى كلمة عدل وحق نلتزم بها جميعًا: وهي أن نَخُص الله وحده بالعبادة, ولا نتخذ أي شريك معه, من وثن أو صنم أو صليب أو طاغوت أو غير ذلك, ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة من دون الله. فإن أعرضوا عن هذه الدعوة الطيبة فقولوا لهم - أيها المؤمنون - : اشهدوا علينا بأنا مسلمون منقادون لربنا بالعبودية والإخلاص. والدعوة إلى كلمة سواء, كما تُوجَّه إلى اليهود والنصارى, توجَّه إلى من جرى مجراهم. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) يا أصحاب الكتب المنزلة من اليهود والنصارى, كيف يجادل كل منكم في أن إبراهيم عليه السلام كان على ملَّته, وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده؟ أفلا تفقهون خطأ قولكم: إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً, وقد علمتم أن اليهودية والنصرانية حدثت بعد وفاته بحين؟ هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ها أنتم يا هؤلاء جادلتم رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما لكم به علم مِن أمر دينكم, مما تعتقدون صحته في كتبكم, فلِمَ تجادلون فيما ليس لكم به علم من أمر إبراهيم؟ والله يعلم الأمور على خفائها, وأنتم لا تعلمون. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (67) ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً, فلم تكن اليهودية ولا النصرانية إلا من بعده, ولكن كان متبعًا لأمر الله وطاعته, مستسلمًا لربه, وما كان من المشركين. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) إنَّ أحق الناس بإبراهيم وأخصهم به, الذين آمنوا به وصدقوا برسالته واتبعوه على دينه, وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به. والله وليُّ المؤمنين به المتبعين شرعه. وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) تمنَّت جماعة من اليهود والنصارى لو يضلونكم - أيها المسلمون - عن الإسلام, وما يضلون إلا أنفسهم وأتباعهم, وما يدرون ذلك ولا يعلمونه. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أهل التوراة والإنجيل لم تجحدون آيات الله التي أنزلها على رسله في كتبهم, وفيها أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الرسول المنتظر, وأن ما جاءكم به هو الحق, وأنتم تشهدون بذلك؟ ولكنكم تنكرونه. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) يا أهل التوراة والإنجيل لِمَ تخلطون الحق في كتبكم بما حرفتموه وكتبتموه من الباطل بأيديكم, وتُخْفون ما فيهما من صفة محمد صلى الله عليه وسلم, وأن دينه هو الحق, وأنتم تعلمون ذلك؟ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وقالت جماعة من أهل الكتاب من اليهود: صدِّقوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا أول النهار واكفروا آخره; لعلهم يتشككون في دينهم, ويرجعون عنه. وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) ولا تصدِّقوا تصديقًا صحيحًا إلا لمَن تبع دينكم فكان يهودياً, قل لهم -أيها الرسول- : إن الهدى والتوفيق هدى الله وتوفيقه للإيمان الصحيح. وقالوا: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلمون منكم فيساووكم في العلم به, وتكون لهم الأفضلية عليكم, أو أن يتخذوه حجة عند ربكم يغلبونكم بها. قل لهم -أيها الرسول- : إن الفضل والعطاء والأمور كلها بيد الله وتحت تصرفه, يؤتيها من يشاء ممن آمن به وبرسوله. والله واسع عليم, يَسَعُ بعلمه وعطائه جميع مخلوقاته, ممن يستحق فضله ونعمه. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) إن الله يختص مِن خلقه مَن يشاء بالنبوة والهداية إلى أكمل الشرائع, والله ذو الفضل العظيم. وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) ومن أهل الكتاب من اليهود مَن إنْ تأمنه على كثير من المال يؤدِّه إليك من غير خيانة, ومنهم مَن إنْ تأمنه على دينار واحد لا يؤدِّه اليك, إلا إذا بذلت غاية الجهد في مطالبته. وسبب ذلك عقيدة فاسدة تجعلهم يستحلُّون أموال العرب بالباطل, ويقولون: ليس علينا في أكل أموالهم إثم ولا حرج; لأن الله أحلَّها لنا. وهذا كذب على الله, يقولونه بألسنتهم, وهم يعلمون أنهم كاذبون. بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) ليس الأمر كما زعم هؤلاء الكاذبون, فإن المتقي حقاً هو من أوفى بما عاهد الله عليه من أداء الأمانة والإيمان به وبرسله والتزم هديه وشرعه, وخاف الله عز وجل فامتثل أمره وانتهى عما نهى عنه. والله يحب المتقين الذين يتقون الشرك والمعاصي. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) إن الذين يستبدلون بعهد الله ووصيته التي أوصى بها في الكتب التي أنزلها على أنبيانهم, عوضًا وبدلا خسيسًا من عرض الدنيا وحطامها, أولئك لا نصيب لهم من الثواب في الآخرة, ولا يكلمهم الله بما يسرهم, ولا ينظر إليهم يوم القيامة بعين الرحمة, ولا يطهرهم من دنس الذنوب والكفر, ولهم عذاب موجع. وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) وإن مِن اليهود لَجماعةً يحرفون الكلام عن مواضعه, ويبدلون كلام الله; ليوهموا غيرهم أن هذا من الكلام المنزل, وهو التوراة, وما هو منها في شيء, ويقولون: هذا من عند الله أوحاه الله إلى نبيه موسى, وما هو من عند الله, وهم لأجل دنياهم يقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنهم كاذبون. مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) ما ينبغي لأحد من البشر أن يُنزِّل الله عليه كتابه ويجعله حكمًا بين خلقه ويختاره نبياً, ثم يقول للناس: اعبدوني من دون الله, ولكن يقول: كونوا حكماء فقهاء علماء بما كنتم تُعَلِّمونه غيركم من وحي الله تعالى, وبما تدرسونه منه حفظًا وعلمًا وفقهًا. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وما كان لأحد منهم أن يأمركم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا تعبدونهم من دون الله. أَيُعْقَلُ -أيها الناس- أن يأمركم بالكفر بالله بعد انقيادكم لأمره؟ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81) واذكر -أيها الرسول- إذ أخذ الله سبحانه العهد المؤكد على جميع الأنبياء: لَئِنْ آتيتكم من كتاب وحكمة, ثم جاءكم رسول من عندي, مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنَّه. فهل أقررتم واعترفتم بذلك وأخذتم على ذلك عهدي الموثق؟ قالوا: أقررنا بذلك, قال: فليشهدْ بعضكم على بعض, واشهدوا على أممكم بذلك, وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم. وفي هذا أن الله أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم, وأخذ الميثاق على أمم الأنبياء بذلك. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (82) فمن أعرض عن دعوة الإسلام بعد هذا البيان وهذا العهد الذي أخذه الله على أنبيائه, فأولئك هم الخارجون عن دين الله وطاعة ربهم. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) أيريد هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب غير دين الله -وهو الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم-، مع أن كل مَن في السموات والأرض استسلم وانقاد وخضع لله طواعية -كالمؤمنين- ورغمًا عنهم عند الشدائد, حين لا ينفعهم ذلك وهم الكفار, كما خضع له سائر الكائنات, وإليه يُرجَعون يوم المعاد, فيجازي كلا بعمله. وهذا تحذير من الله تعالى لخلقه أن يرجع إليه أحد منهم على غير ملة الإسلام. قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) قل لهم -أيها الرسول- : صدَّقنا بالله وأطعنا, فلا رب لنا غيره, ولا معبود لنا سواه, وآمنَّا بالوحي الذي أنزله الله علينا, والذي أنزله على إبراهيم خليل الله, وابنيه إسماعبل وإسحاق, وابن ابنه يعقوب بن إسحاق, والذي أنزله على الأسباط -وهم الأنبياء الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة مِن ولد يعقوب- وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والإنجيل, وما أنزله الله على أنبيائه, نؤمن بذلك كله, ولا نفرق بين أحد منهم, ونحن لله وحده منقادون بالطاعة, مُقِرُّون له بالربوبية والألوهية والعبادة. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85) ومن يطلب دينًا غير دين الإسلام الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة, والعبودية, ولرسوله النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان به وبمتابعته ومحبته ظاهرًا وباطنًا, فلن يُقبل منه ذلك, وهو في الآخرة من الخاسرين الذين بخسوا أنفسهم حظوظها. كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) كيف بوفق الله للإيمان به وبرسوله قومًا جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به, وشهدوا أن محمدًا صلى الله علبه وسلم حق وما جاء به هو الحق, وجاءهم الحجج من عند الله والدلائل بصحة ذلك؟ والله لا يوفق للحق والصواب الجماعة الظلمة, وهم الذين عدلوا عن الحق إلى الباطل, فاختاروا الكفر على الإيمان. أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) أولئك الظالمون جزاؤهم أنَّ عليهم لعنة الله والملائكة والناسِ أجمعين, فهم مطرودون من رحمة الله. خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) ماكثين في النار, لا يُرفع عنهم العذاب قليلا ليستريحوا, ولا يُؤخر عنهم لمعذرة يعتذرون بها. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إلا الذين رجعوا إلى ربهم بالتوبة النصوح من بعد كفرهم وظلمهم, وأصلحوا ما أفسدوه بتوبتهم فإن الله يقبلها, فهو غفور لذنوب عباده, رحيم بهم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ (90) إن الذين كفروا بعد إيمانهم واستمروا على الكفر إلى الممات لن تُقبل لهم توبة عند حضور الموت, وأولئك هم الذين ضلُّوا السبيل, فأخطَؤُوا منهجه. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) إن الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, وماتوا على الكفر بالله ورسوله, فلن يُقبل من أحدهم يوم القيامة ملء الأرض ذهبًا; ليفتدي به نفسه من عذاب الله, ولو افتدى به نفسه فِعْلا. أولئك لهم عذاب موجع, وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله. لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) لن تدركوا الجنة حتى تتصدقوا مما تحبون, وأي شيء تتصدقوا به مهما كان قليلا أو كثيرًا فإن الله به عليم, وسيجازي كل منفق بحسب عمله. كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) كل الأطعمة الطيِّبة كانت حلالا لأبناء يعقوب عليه السلام إلا ما حرَّم يعقوب على نفسه لمرض نزل به, وذلك مِن قبل أن تُنَزَّل التوراة. فلما نُزِّلت التوراة حرَّم الله على بني إسرائيل بعض الأطعمة التي كانت حلالا لهم; وذلك لظلمهم وبغيهم. قل لهم -أيها الرسول- : هاتوا التوراة, واقرؤوا ما فيها إن كنتم محقين في دعواكم أن الله أنزل فيها تحريم ما حرَّمه يعقوب على نفسه, حتى تعلموا صدق ما جاء في القرآن من أن الله لم يحرم على بني إسرائيل شيئًا من قبل نزول التوراة, إلا ما حرَّمه يعقوب على نفسه. فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (94) فمَن كذب على الله من بعد قراءة التوراة ووضوح الحقيقة, فأولئك هم الظالمون القائلون على الله بالباطل. قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (95) قل لهم -أيها الرسول- صَدَق الله فيما أخبر به وفيما شرعه. فإن كنتم صادقين في محبتكم وانتسابكم لخليل الله إبراهيم عليه السلام فاتبعوا ملَّته التي شرعها الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, فإنها الحق الذي لا شك فيه. وما كان إبراهيم عليه السلام من المشركين بالله في توحيده وعبادته أحدًا. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) إن أول بيت بُني لعبادة الله في الأرض لهو بيت الله الحرام الذي في "مكة", وهذا البيت مبارك تضاعف فيه الحسنات, وتتنزل فيه الرحمات, وفي استقباله في الصلاة, وقصده لأداء الحج والعمرة, صلاح وهداية للناس أجمعين. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) في هذا البيت دلالات ظاهرات أنه من بناء إبراهيم, وأن الله عظَّمه وشرَّفه, منها: مقام إبراهيم عليه السلام, وهو الحَجَر الذي كان يقف عليه حين كان يرفع القواعد من البيت هو وابنه إسماعيل, ومن دخل هذا البيت أَمِنَ على نفسه فلا يناله أحد بسوء. وقد أوجب الله على المستطيع من الناس في أي مكان قَصْدَ هذا البيت لأداء مناسك الحج. ومن جحد فريضة الحج فقد كفر, والله غني عنه وعن حجِّه وعمله, وعن سائر خَلْقه. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قل -أيها الرسول- لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: لِمَ تجحدون حجج الله التي دلَّتْ على أن دين الله هو الإسلام, وتنكرون ما في كتبهم من دلائل وبراهين على ذلك, وأنتم تعلمون؟ والله شهيد على صنيعكم. وفي ذلك تهديد ووعيد لهم. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) قل -أيها الرسول- لليهود والنصارى: لِمَ تمنعون من الإسلام من يريد الدخول فيه تطلبون له زيغًا وميلا عن القصد والاستقامة, وأنتم تعلمون أن ما جئتُ به هو الحق؟ وما الله بغافل عما تعملون, وسوف يجازيكم على ذلك. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن تطيعوا جماعة من اليهود والنصارى ممن آتاهم الله التوراة والإنجيل, يضلوكم, ويلقوا إليكم الشُّبَه في دينكم; لترجعوا جاحدين للحق بعد أن كنتم مؤمنين به, فلا تأمنوهم على دينكم, ولا تقبلوا لهم رأيًا أو مشورة. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) وكيف تكفرون بالله -أيها المؤمنون -، وآيات القرآن تتلى عليكم, وفيكم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يبلغها لكم؟ ومَن يتوكل على الله ويستمسك بالقرآن والسنة فقد وُفِّق لطريق واضح, ومنهاج مستقيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وعملوا بشرعه, خافوا الله حق خوفه: وذلك بأن يطاع فلا يُعصى, ويُشكَر فلا يكفر, ويُذكَر فلا ينسى, وداوموا على تمسككم بإسلامكم إلى آخر حياتكم; لتلقوا الله وأنتم عليه. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وتمسَّكوا جميعًا بكتاب ربكم وهدي نبيكم, ولا تفعلوا ما يؤدي إلى فرقتكم. واذكروا نعمة جليلة أنعم الله بها عليكم: إذ كنتم -أيها المؤمنون- قبل الإسلام أعداء, فجمع الله قلوبكم على محبته ومحبة رسوله, وألقى في قلوبكم محبة بعضكم لبعض, فأصبحتم -بفضله- إخوانا متحابين, وكنتم على حافة نار جهنم, فهداكم الله بالإسلام ونجَّاكم من النار. وكما بيَّن الله لكم معالم الإيمان الصحيح فكذلك يبيِّن لكم كل ما فيه صلاحكم; لتهتدوا إلى سبيل الرشاد, وتسلكوها, فلا تضلوا عنها. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104) ولتكن منكم -أيها المؤمنون- جماعة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف, وهو ما عُرف حسنه شرعًا وعقلا وتنهى عن المنكر, وهو ما عُرف قبحه شرعًا وعقلا وأولئك هم الفائزون بجنات النعيم. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) ولا تكونوا -أيها المؤمنون- كأهل الكتاب الذين وقعت بينهم العداوة والبغضاء فتفرَّقوا شيعًا وأحزابًا, واختلفوا في أصول دينهم من بعد أن اتضح لهم الحق, وأولئك مستحقون لعذابٍ عظيم موجع. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) يوم القيامة تَبْيَضُّ وجوه أهل السعادة الذين آمنوا بالله ورسوله, وامتثلوا أمره, وتَسْوَدُّ وجوه أهل الشقاوة ممن كذبوا رسوله, وعصوا أمره. فأما الذين اسودَّت وجوههم, فيقال لهم توبيخًا: أكفرتم بعد إيمانكم, فاخترتم الكفر على الإيمان؟ فذوقوا العذاب بسبب كفركم. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) وأما الذين ابيضَّتْ وجوهم بنضرة النعيم, وما بُشِّروا به من الخير, فهم في جنة الله ونعيمها, وهم باقون فيها, لا يخرجون منها أبدًا. تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) هذه آيات الله وبراهينه الساطعة, نتلوها ونقصُّها عليك -أيها الرسول- بالصدق واليقين. وما الله بظالم أحدًا من خلقه, ولا بمنقص شيئًا من أعمالهم; لأنه الحاكم العدل الذي لا يجور. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109) ولله ما في السموات وما في الأرض, ملكٌ له وحده خلقًا وتدبيرًا, ومصير جميع الخلائق إليه وحده, فيجازي كلا على قدر استحقاقه كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110) أنتم - يا أمة محمد - خير الأمم وأنفع الناس للناس, تأمرون بالمعروف, وهو ما عُرف حسنه شرعًا وعقلا وتنهون عن المنكر, وهو ما عُرف قبحه شرعًا وعقلا وتصدقون بالله تصديقًا جازمًا يؤيده العمل. ولو آمن أهل الكتاب من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله كما آمنتم, لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة, منهم المؤمنون المصدقون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم العاملون بها, وهم قليل, وأكثرهم الخارجون عن دين الله وطاعته. لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) لن يضركم هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب إلا ما يؤذي أسماعكم من ألفاظ الشرك والكفر وغير ذلك, فإن يقاتلوكم يُهْزَموا, ويهربوا مولِّين الأدبار, ثم لا ينصرون عليكم بأي حال. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) جعل الله الهوان والصغار أمرًا لازمًا لا يفارق اليهود, فهم أذلاء محتقرون أينما وُجِدوا, إلا بعهد من الله وعهد من الناس يأمنون به على أنفسهم وأموالهم, وذلك هو عقد الذمة لهم وإلزامهم أحكام الإسلام, ورجعوا بغضب من الله مستحقين له, وضُربت عليهم الذلَّة والمسكنة, فلا ترى اليهوديَّ إلا وعليه الخوف والرعب من أهل الإيمان; ذلك الذي جعله الله عليهم بسبب كفرهم بالله, وتجاوزهم حدوده, وقَتْلهم الأنبياء ظلمًا واعتداء, وما جرَّأهم على هذا إلا ارتكابهم للمعاصي, وتجاوزهم حدود الله. لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) ليس أهل الكتاب متساوين: فمنهم جماعة مستقيمة على أمر الله مؤمنة برسوله محمد صلى الله عليه وسلم, يقومون الليل مرتلين آيات القرآن الكريم, مقبلين على مناجاة الله في صلواتهم. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) يؤمنون بالله واليوم الآخر, ويأمرون بالخير كله, وينهون عن الشر كلِّه, ويبادرون إلى فعل الخيرات, وأولئك مِن عباد الله الصالحين. وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) وأيُّ عمل قلَّ أو كَثُر من أعمال الخير تعمله هذه الطائفة المؤمنة فلن يضيع عند الله, بل يُشكر لهم, ويجازون عليه. والله عليم بالمتقين الذين فعلوا الخيرات وابتعدوا عن المحرمات; ابتغاء رضوان الله, وطلبًا لثوابه. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) إن الذين كفروا بآيات الله, وكذبوا رسله, لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئًا من عذاب الله في الدنيا ولا في الآخرة, وأولئك أصحاب النار الملازمون لها, لا يخرجون منها. مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) مَثَلُ ما ينفق الكافرون في وجوه الخير في هذه الحياة الدنيا وما يؤملونه من ثواب, كمثل ريح فيها برد شديد هَبَّتْ على زرع قوم كانوا يرجون خيره, وبسبب ذنوبهم لم تُبْقِ الريح منه شيئًا. وهؤلاء الكافرون لا يجدون في الآخرة ثوابًا, وما ظلمهم الله بذلك, ولكنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وعصيانهم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين, تُطْلعونهم على أسراركم, فهؤلاء لا يَفْتُرون عن إفساد حالكم, وهم يفرحون بما يصيبكم من ضرر ومكروه, وقد ظهرت شدة البغض في كلامهم, وما تخفي صدورهم من العداوة لكم أكبر وأعظم. قد بيَّنَّا لكم البراهين والحجج, لتتعظوا وتحذروا, إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه. هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) ها هوذا الدليل على خطئكم في محبتهم, فأنتم تحبونهم وتحسنون إليهم, وهم لا يحبونكم ويحملون لكم العداوة والبغضاء, وأنتم تؤمنون بالكتب المنزلة كلها ومنها كتابهم, وهم لا يؤمنون بكتابكم, فكيف تحبونهم؟ وإذا لقوكم قالوا -نفاقًا- : آمنَّا وصدَّقْنا, وإذا خلا بعضهم إلى بعض بدا عليهم الغم والحزن, فعَضُّوا أطراف أصابعهم من شدة الغضب, لما يرون من ألفة المسلمين واجتماع كلمتهم, وإعزاز الإسلام, وإذلالهم به. قل لهم -أيها الرسول- : موتوا بشدة غضبكم. إن الله مطَّلِع على ما تخفي الصدور, وسيجازي كلا على ما قدَّم مِن خير أو شر. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) ومن عداوة هؤلاء أنكم -أيها المؤمنون- إن نزل بكم أمرٌ حسن مِن نصر وغنيمة ظهرت عليهم الكآبة والحزن, وإن وقع بكم مكروه من هزيمة أو نقص في الأموال والأنفس والثمرات فرحوا بذلك, وإن تصبروا على ما أصابكم, وتتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه, لا يضركم أذى مكرهم. والله بجميع ما يعمل هؤلاء الكفار من الفساد محيط, وسيجازيهم على ذلك. وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) واذكر -أيها الرسول- حين خَرَجْتَ من بيتك لابسًا عُدَّة الحرب, تنظم صفوف أصحابك, وتُنْزِل كل واحد في منزله للقاء المشركين في غزوة "أُحُد". والله سميع لأقوالكم, عليم بأفعالكم. إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (122) اذكر -أيها الرسول- ما كان من أمر بني سَلِمة وبني حارثة حين حدثتهم أنفسهم بالرجوع مع زعيمهم المنافق عبد الله بن أُبيٍّ; خوفًا من لقاء العدو, ولكن الله عصمهم وحفظهم, فساروا معك متوكلين على الله. وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون. وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) ولقد نصركم الله -أيها المؤمنون- بـ "بدر" على أعدائكم المشركين مع قلة عَدَدكم وعُدَدكم, فخافوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه; لعلكم تشكرون له نعمه. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) اذكر -أيها الرسول- ما كان من أمر أصحابك في "بدر" حين شقَّ عليهم أن يأتي مَدَد للمشركين, فأوحينا إليك أن تقول لهم: ألن تكفيكم معونة ربكم بأن يمدكم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنْزَلين من السماء إلى أرض المعركة, يثبتونكم, ويقاتلون معكم. بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) بلى يكفيكم هذا المَدَد. وبشارة أخرى لكم: إن تصبروا على لقاء العدو وتتقوا الله بفِعْل ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه, ويأت كفار "مكة" على الفور مسرعين لقتالكم, يظنون أنهم يستأصلونكم, فإن الله يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين أي: قد أعلموا أنفسهم وخيولهم بعلامات واضحات. وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) وما جعل الله هذا الإمداد بالملائكة إلا بشرى لكم يبشركم بها ولتطمئن قلوبكم, وتطيب بوعد الله لكم. وما النصر إلا من عند الله العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في تدبيره وفعله. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) وكان نصر الله لكم بـ "بدْر" ليهلك فريقًا من الكفار بالقتل, ومن نجا منهم من القتل رجع حزينًا قد ضاقت عليه نفسه, يَظْهر عليه الخزي والعار لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) ليس لك -أيها الرسول- من أمر العباد شيء, بل الأمر كله لله تعالى وحده لا شريك له, ولعل بعض هؤلاء الذين قاتلوك تنشرح صدورهم للإسلام فيسلموا, فيتوب الله عليهم. ومن بقي على كفره يعذبه الله في الدنيا والآخرة بسبب ظلمه وبغيه. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) ولله وحده ما في السموات وما في الأرض, يغفر لمن يشاء من عباده برحمته, ويعذب من يشاء بعدله. والله غفور لذنوب عباده, رحيم بهم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه احذروا الربا بجميع أنواعه, ولا تأخذوا في القرض زيادة على رؤوس أموالكم وإن قلَّت, فكيف إذا كانت هذه الزيادة تتضاعف كلما حان موعد سداد الدين؟ واتقوا الله بالتزام شرعه; لتفوزوا في الدنيا والآخرة. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) اجعلوا لأنفسكم وقاية بينكم وبين النار التي هُيِّئت للكافرين. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وأطيعوا الله -أيها المؤمنون- فيما أمركم به من الطاعات وفيما نهاكم عنه من أكل الربا وغيره من الأشياء, وأطيعوا الرسول; لترحموا, فلا تعذبوا. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) وبادروا بطاعتكم لله ورسوله لاغتنام مغفرة عظيمة من ربكم وجنة واسعة, عرضها السموات والأرض, أعدها الله للمتقين. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) الذين ينفقون أموالهم في اليسر والعسر, والذين يمسكون ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر, وإذا قَدَروا عَفَوا عمَّن ظلمهم. وهذا هو الإحسان الذي يحب الله أصحابه. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) والذين إذا ارتكبوا ذنبًا كبيرًا أو ظلموا أنفسهم بارتكاب ما دونه, ذكروا وعد الله ووعيده فلجأوا إلى ربهم تائبين, يطلبون منه أن يغفر لهم ذنوبهم, وهم موقنون أنه لا يغفر الذنرب إلا الله, فهم لذلك لا يقيمون على معصية, وهم يعلمون أنهم إن تابوا تاب الله عليهم . أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) أولئك الموصوفون بتلك الصفات العظيمة جزاؤهم أن يستر الله ذنوبهم, ولهم جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها المياه العذبة, خالدين فيها لا يخرجون منها أبدًا. ونِعْمَ أجر العاملين المغفرة والجنة. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) يخاطب الله المؤمنين لـمَّا أُصيبوا يوم "أُحد" تعزية لهم بأنه قد مضت من قبلكم أمم, ابتُلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين فكانت العاقبة لهم, فسيروا في الأرض معتبرين بما آل إليه أمر أولئك المكذبين بالله ورسله. هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) هذا القرآن بيان وإرشاد إلى طريق الحق, وتذكير تخشع له قلوب المتقين, وهم الذين يخشون الله, وخُصُّوا بذلك; لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) ولا تضْعُفوا -أيها المؤمنون- عن قتال عدوكم, ولا تحزنوا لما أصابكم في "أُحد", وأنتم الغالبون والعاقبة لكم, إن كنتم مصدقين بالله ورسوله متَّبعين شرعه. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) إن أصابتكم -أيها المؤمنون- جراح أو قتل في غزوة "أُحد" فحزنتم لذلك, فقد أصاب المشركين جراح وقتل مثل ذلك في غزوة "بدر". وتلك الأيام يُصَرِّفها الله بين الناس, نصر مرة وهزيمة أخرى, لما في ذلك من الحكمة, حتى يظهر ما علمه الله في الأزل ليميز الله المؤمن الصادق مِن غيره, ويُكْرِمَ أقوامًا منكم بالشهادة. والله لا يحب الذين ظلموا أنفسهم, وقعدوا عن القتال في سبيله. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) وهذه الهزيمة التي وقعت في "أُحد" كانت اختبارًا وتصفية للمؤمنين, وتخليصًا لهم من المنان وهلاكًا للكافرين. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) يا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أظننتم أن تدخلوا الجنة, ولم تُبْتَلوا بالقتال والشدائد؟ لا يحصل لكم دخولها حتى تُبْتلوا, ويعلم الله -علما ظاهرا للخلق- المجاهدين منكم في سبيله, والصابرين على مقاومة الأعداء. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) ولقد كنتم -أيها المؤمنون- قبل غزوة "أُحد" تتمنون لقاء العدو; لتنالوا شرف الجهاد والاستشهاد في سبيل الله الذي حَظِي به إخوانكم في غزوة "بدر", فها هو ذا قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه, فدونكم فقاتلوا وصابروا. وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وما محمد إلا رسول من جنس الرسل الذين قبله يبلغ رسالة ربه. أفإن مات بانقضاء أجله أو قُتِل كما أشاعه الأعداء رجعتم عن دينكم,, تركتم ما جاءكم به نبيكم؟ ومن يرجِعُ منكم عن دينه فلن يضر الله شيئًا, إنما يضر نفسه ضررًا عظيمًا. أما مَن ثبت على الإيمان وشكر ربه على نعمة الإسلام, فإن الله يجزيه أحسن الجزاء. وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) لن يموت أحد إلا بإذن الله وقدره وحتى يستوفي المدة التي قدرها الله له كتابًا مؤجَّلا. ومن يطلب بعمله عَرَض الدنيا, نعطه ما قسمناه له من رزق, ولا حظَّ له في الآخرة, ومن يطلب بعمله الجزاء من الله في الآخرة نمنحه ما طلبه, ونؤته جزاءه وافرًا مع ما لَه في الدنيا من رزق مقسوم, فهذا قد شَكَرَنا بطاعته وجهاده, وسنجزي الشاكرين خيرًا. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) كثير من الأنبياء السابقين قاتل معهم جموع كثيرة من أصحابهم, فما ضعفوا لِمَا نزل بهم من جروح أو قتل; لأن ذلك في سبيل ربهم, وما عَجَزوا, ولا خضعوا لعدوهم, إنما صبروا على ما أصابهم. والله يحب الصابرين. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) وما كان قول هؤلاء الصابرين إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا, وما وقع منا مِن تجاوزٍ في أمر ديننا, وثبِّت أقدامنا حتى لا نفرَّ من قتال عدونا, وانصرنا على مَن جحد وحدانيتك ونبوة أنبيائك. فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) فأعطى الله أولئك الصابرين جزاءهم في الدنيا بالنصر على أعدائهم, وبالتمكين لهم في الأرض, وبالجزاء الحسن العظيم في الآخرة, وهو جنات النعيم. والله يحب كلَّ مَن أحسن عبادته لربه ومعاملته لخلقه. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إن تطيعوا الذين جحدوا ألوهيتي, ولم يؤمنوا برسلي من اليهود والنصارى والمنان والمشركين فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه, يضلوكم عن طريق الحق, وترتدُّوا عن دينكم, فتعودوا بالخسران المبين والهلاك المحقق. بَلْ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) إنهم لن ينصروكم, بل الله ناصركم, وهو خير ناصر, فلا يحتاج معه إلى نصرة أحد. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) سنقذف في قلوب الذين كفروا أشدَّ الفزع والخوف بسبب إشراكهم بالله آلهة مزعومة, ليس لهم دليل أو برهان على استحقاقها للعبادة مع الله, فحالتهم في الدنيا: رعب وهلع من المؤمنين, أما مكانهم في الآخرة الذي يأوون إليه فهو النار; وذلك بسبب ظلمهم وعدوانهم, وساء هذا المقام مقامًا لهم. وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) ولقد حقق الله لكم ما وعدكم به من نصر, حين كنتم تقتلون الكفار في غزوة "أُحد" بإذنه تعالى, حتى إذا جَبُنتم وضعفتم عن القتال واختلفتم: هل تبقون في مواقعكم أو تتركونها لجمع الغنانم مع مَن يجمعها؟ وعصيتم أمر رسولكم حين أمركم ألا تفارفوا أماكنكم بأي حال, حلَّت بكم الهزيمة من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر, وتبيَّن أن منكم مَن يريد الغنائم, وأن منكم مَن يطلب الآخرة وثوابها, ثم صرف الله وجوهكم عن عدوكم; ليختبركم, وقد علم الله ندمكم وتوبتكم فعفا عنكم, والله ذو فضل عظيم على المؤمنين. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) اذكروا -يا أصحاب محمد- ما كان مِن أمركم حين أخذتم تصعدون الجبل هاربين من أعدائكم, ولا تلتفتون إلى أحد لِمَا اعتراكم من الدهشة والخوف والرعب, ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في الميدان يناديكم من خلفكم قائلا إليَّ عبادَ الله, وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون, فكان جزاؤكم أن أنزل الله بكم ألمًا وضيقًا وغمًّا; لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من نصر وغنيمة, ولا ما حلَّ بكم من خوف وهزيمة. والله خبير بجميع أعمالكم, لا يخفى عليه منها شيء. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) ثم كان من رحمة الله بالمؤمنين المخلصين أن ألقى في قلوبهم من بعد ما نزل بها من همٍّ وغمٍّ اطمئنانًا وثقة في وعد الله, وكان من أثره نعاس غَشِي طائفة منهم, وهم أهل الإخلاص واليقين, وطائفة أُخرى أهمَّهم خلاص أنفسهم خاصة, وضَعُفَتْ عزيمتهم وشُغِلوا بأنفسهم, وأساؤوا الظن بربهم وبدينه وبنبيه, وظنوا أن الله لا يُتِمُّ أمر رسوله, وأن الإسلام لن نقوم له قائمة, ولذلك تراهم نادمين على خروجهم, يقول بعضهم لبعض: هل كان لنا من اختيار في الخروج للقتال؟ قل لهم -أيها الرسول- : إن الأمر كلَّه لله, فهو الذي قدَّر خروجكم وما حدث لكم, وهم يُخْفون في أنفسهم ما لا يظهرونه لك من الحسرة على خروجهم للقتال, يقولون: لو كان لنا أدنى اختيار ما قُتِلنا هاهنا. قل لهم: إن الآجال بيد الله, ولو كنتم في بيوتكم, وقدَّر الله أنكم تموتون, لخرج الذين كتب الله عليهم الموت إلى حيث يُقْتلون, وما جعل الله ذلك إلا ليختبر ما في صدوركم من الشك والنفاق, وليميز الخبيث من الطيب, ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال. والله عليم بما في صدور خلقه, لا يخفى عليه شيء من أمورهم. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) إن الذين فرُّوا منكم -يا أصحاب- محمد عن القتال يوم التقى المؤمنون والمشركون في غزوة "أُحد", إنما أوقعهم الشيطان في هذا الذنب ببعض ما عملوا من الذنوب, ولقد تجاوز الله عنهم فلم يعاقبهم. إن الله غفور للمذنبين التائبين, حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تُشابهوا الكافرين الذين لا يؤمنون بربهم, فهم يقولون لإخوانهم من أهل الكفر إذا خرجوا يبحثون في أرض الله عن معاشهم أو كانوا مع الغزاة المقاتلين فماتوا أو قُتِلوا: لو لم يخرج هؤلاء ولم يقاتلوا وأقاموا معنا ما ماتوا وما قُتلوا. وهذا القول يزيدهم ألمًا وحزنًا وحسرة تستقر في قلوبهم, أما المؤمنون فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله فيهدي الله قلوبهم, ويخفف عنهم المصيبة, والله يحيي مَن قدَّر له الحياة -وإن كان مسافرًا أو غازيًا- ويميت مَنِ انتهى أجله -وإن كان مقيمًا- والله بكل ما تعملونه بصير, فيجازيكم به. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) ولئن قُتِلتم -أيها المؤمنون- وأتم تجاهدون في سبيل الله أو متم في أثناء القتال, ليغفرن الله لكم ذنوبكم, وليرحمنكم رحمة من عنده, فتفوزون بجنات النعيم, وذلك خير من الدنيا وما يجمعه أهلها. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) ولئن انقضت آجالكم في هذه الحياة الدنيا, فمتم على فُرُشكم, أو قتلتم في ساحة القتال, لإلى الله وحده تُحشرون, فيجازيكم بأعمالكم. فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) فبرحمة من الله لك ولأصحابك -أيها النبي- منَّ الله عليك فكنت رفيقًا بهم, ولو كنت سيِّئ الخُلق قاسي القلب, لانْصَرَفَ أصحابك من حولك, فلا تؤاخذهم بما كان منهم في غزوة "أُحد", واسأل الله -أيها النبي- أن يغفر لهم, وشاورهم في الأمور التي تحتاج إلى مشورة, فإذا عزمت على أمر من الأمور -بعد الاستشارة- فأَمْضِه معتمدًا على الله وحده, إن الله يحب المتوكلين عليه. إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160) إن يمددكم الله بنصره ومعونته فلا أحد يستطيع أن يغلبكم, وإن يخذلكم فمن هذا الذي يستطيع أن ينصركم من بعد خذلانه لكم؟ وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون. وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) وما كان لنبيٍّ أن يَخُونَ أصحابه بأن يأخذ شيئًا من الغنيمة غير ما اختصه الله به, ومن يفعل ذلك منكم يأت بما أخذه حاملا له يوم القيامة; ليُفضَح به في الموقف المشهود, ثم تُعطى كل نفس جزاءَ ما كسبت وافيًا غير منقوص دون ظلم. أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) لا يستوي من كان قصده رضوان الله ومن هو مُكِبٌ على المعاصي, مسخط لربه, فاستحق بذلك سكن جهنم, وبئس المصير. هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) أصحاب الجنة المتبعون لما يرضي الله متفاوتون في الدرجات, وأصحاب النار المتبعون لما يسخط الله متفاوتون في الدركات, لا يستوون. والله بصير بأعمالهم لا يخفى عليه منها شيء. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) لقد أنعم الله على المؤمنين من العرب; إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم, يتلو عليهم آيات القرآن, ويطهرهم من الشرك والأخلاق الفاسدة, ويعلمهم القرآن والسنة, وإن كانوا من قبل هذا الرسول لفي غيٍّ وجهل ظاهر. أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) أولما أصابتكم -أيها المؤمنون- مصيبة, وهي ما أُصيب منكم يوم "أُحد" قد أصبتم مثليها من المشركين في يوم "بدْر", قلتم متعجبين: كيف يكون هذا ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا وهؤلاء مشركون؟ قل لهم -أيها النبي- : هذا الذي أصابكم هو من عند أنفسكم بسبب مخالفتكم أمْرَ رسولكم وإقبالكم على جمع الغنائم. إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, لا معقِّب لحكمه. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وما وقع بكم مِن جراح أو قتل في غزوة "أُحد" يوم التقى جَمْعُ المؤمنين وجمع المشركين فكان النصر للمؤمنين أولا ثم للمشركين ثانيًا, فذلك كله بقضاء الله وقدره, وليظهر ما علمه الله في الأزل؛ ليميز المؤمنين الصادقين منكم. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) وليعلم المنان الذين كشف الله ما في قلوبهم حين قال المؤمنون لهم: تعالوا قاتلوا معنا في سبيل الله, أو كونوا عونًا لنا بتكثيركم سوادنا, فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون أحدًا لكنا معكم عليهم, هم للكفر في هذا اليوم أقرب منهم للإيمان; لأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. والله أعلم بما يُخفون في صدورهم. الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) هؤلاء المنافقون هم الذين قعدوا وقالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين يوم "أُحد": لو أطاعَنا هؤلاء ما قتلوا. قل لهم -أيها الرسول- : فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم لو أطاعوكم ما قتلوا, وأنكم قد نجوتم منه بقعودكم عن القتال. وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) ولا تظنَّنَّ -أيها النبي- أن الذين قتلوا في سبيل الله أموات لا يُحِسُّون شيئًا, بل هم أحياء حياة برزخية في جوار ربهم الذي جاهدوا من أجله, وماتوا في سبيله, يجري عليهم رزقهم في الجنة, ويُنعَّمون. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) لقد عَمَّتهم السعادة حين مَنَّ الله عليهم, فأعطاهم مِن عظيم جوده وواسع كرمه من النعيم والرضا ما تَقَرُّ به أعينهم, وهم يفرحون بإخوانهم المجاهدين الذين فارقوهم وهم أحياء; ليفوزوا كما فازوا, لِعِلْمِهم أنهم سينالون من الخير الذي نالوه, إذا استشهدوا في سبيل الله مخلصين له, وأن لا خوف عليهم فيما يستقبلون من أمور الآخرة, ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) وإنهم في فرحة غامرة بما أُعطوا من نعم الله وجزيل عطائه, وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين به, بل ينمِّيه ويزيده من فضله. الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الذين لبُّوا نداء الله ورسوله وخرجوا في أعقاب المشركين إلى "حمراء الأسد" بعد هزيمتهم في غزوة "أُحد" مع ما كان بهم من آلام وجراح, وبذلوا غاية جهدهم, والتزموا بهدي نبيهم, للمحسنين منهم والمتقين ثواب عظيم. الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) وهم الذين قال لهم بعض المشركين: إن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا أمرهم على الرجوع إليكم لاستئصالكم, فاحذروهم واتقوا لقاءهم, فإنه لا طاقة لكم بهم, فزادهم ذلك التخويف يقينًا وتصديقًا بوعد الله لهم, ولم يَثْنِهم ذلك عن عزمهم, فساروا إلى حيث شاء الله, وقالوا: حسبنا الله أي: كافينا, ونِعْم الوكيل المفوَّض إليه تدبير عباده. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) فرجعوا من "حمراء الأسد" إلى "المدينة" بنعمة من الله بالثواب الجزيل وبفضل منه بالمنزلة العالية, وقد ازدادوا إيمانًا ويقينًا, وأذلوا أعداء الله, وفازوا بالسلامة من القتل والقتال, واتبعوا رضوان الله بطاعتهم له ولرسوله. والله ذو فضل عظيم عليهم وعلى غيرهم. إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) إنَّما المثبِّط لكم في ذلك هو الشيطان جاءكم يخوِّفكم أنصاره, فلا تخافوا المشركين; لأنّهم ضعاف لا ناصر لهم, وخافوني بالإقبال على طاعتي إن كنتم مصدِّقين بي, ومتبعين رسولي. وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) لا يُدْخِل الحزنَ إلى قلبك -أيها الرسول- هؤلاء الكفارُ بمسارعتهم في الجحود والضلال, إنهم بذلك لن يضروا الله, إنما يضرون أنفسهم بحرمانها حلاوة الإيمان وعظيم الثواب, يريد الله ألا يجعل لهم ثوابًا في الآخرة; لأنهم انصرفوا عن دعوة الحق, ولهم عذاب شديد ، إن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئًا, بل ضرر فِعْلِهم يعود على أنفسهم, ولهم في الآخرة عذاب موجع. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) ولا يظننَّ الجاحدون أننا إذا أَطَلْنا أعمارهم, ومتعناهم بمُتع الدنيا, ولم تؤاخذهم بكفرهم وذنوبهم, أنهم قد نالوا بذلك خيرًا لأنفسهم, إنما نؤخر عذابهم وآجالهم; ليزدادوا ظلمًا وطغيانًا, ولهم عذاب يهينهم ويذلُّهم. مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) ما كان الله ليَدَعَكم أيها المصدقون بالله ورسوله العاملون بشرعه على ما أنتم عليه من التباس المؤمن منكم بالمنافق حتى يَمِيزَ الخبيث من الطيب, فيُعرف المنافق من المؤمن الصادق. وما كان مِن حكمة الله أن يطلعكم -أيها المؤمنون- على الغيب الذي يعلمه من عباده, فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق, ولكنه يميزهم بالمحن والابتلاء, غير أن الله تعالى يصطفي من رسله مَن يشاء؛ ليطلعه على بعض علم الغيب بوحي منه, فآمنوا بالله ورسوله, وإن تؤمنوا إيمانًا صادقًا وتتقوا ربكم بطاعته, فلكم أجر عظيم عند الله. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) ولا يظنن الذين يبخلون بما أنعم الله به عليهم تفضلا منه أن هذا البخل خير لهم, بل هو شرٌّ لهم; لأن هذا المال الذي جمعوه سيكون طوقًا من نار يوضع في أعناقهم يوم القيامة. والله سبحانه وتعالى هو مالك الملك, وهو الباقي بعد فناء جميع خلقه, وهو خبير بأعمالكم جميعها, وسيجازي كلا على قدر استحقاقه. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) لقد سمع الله قول اليهود الذين قالوا: إن الله ر إلينا يطلب منا أن نقرضه أموالا ونحن أغنياء. سنكتب هذا القول الذي قالوه, وسنكتب أنهم راضون بما كان مِن قَتْل آبائهم لأنبياء الله ظلمًا وعدوانًا, وسوف نؤاخذهم بذلك في الآخرة, ونقول لهم وهم في النار يعذبون: ذوقوا عذاب النار المحرقة. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) ذلك العذاب الشديد بسبب ما قدَّمتموه في حياتكم الدنيا من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية, وأن الله ليس بظلام للعببد. الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) هؤلاء اليهود حين دُعُوا إلى الإسلام قالوا: إن الله أوصانا في التوراة ألا نصدِّق مَن جاءنا يقول: إنه رسول من الله, حتى يأتينا بصدقة يتقرب بها إلى الله, فتنزل نار من السماء فتحرقها. قل لهم -أيها الرسول- : أنتم كاذبون في قولكم; لأنه قد جاء آباءكم رسلٌ من قِبلي بالمعجزات والدلائل على صدقهم, وبالذي قلتم من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار, فَلِمَ قَتَل آباؤكم هؤلاء الأنبياء إن كنتم صادقين في دعواكم؟ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) فإن كذَّبك -أيها الرسول- هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكفر, فقد كذَّب المبطلون كثيرًا من المرسلين مِن قبلك, جاءوا أقوامهم بالمعجزات الباهرات والحجج الواضحات, والكتب السماوية التي هي نور يكشف الظلمات, والكتابِ البيِّن الواضح. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) كل نفس لا بدَّ أن تذوق الموت, وبهذا يرجع جميع الخلق إلى ربهم; ليحاسبهم. وإنما تُوفَّون أجوركم على أعمالكم وافية غير منقوصة يوم القيامة, فمن أكرمه ربه ونجَّاه من النار وأدخله الجنة فقد نال غاية ما يطلب. وما الحياة الدنيا إلا متعة زائلة, فلا تغترُّوا بها. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) لَتُخْتَبَرُنَّ -أيها المؤمنون- في أموالكم بإخراج النفقات الواجبة والمستحبَّة, وبالجوائح التي تصيبها, وفي أنفسكم بما يجب عليكم من الطاعات, وما يحلُّ بكم من جراح أو قتل وفَقْد للأحباب, وذلك حتى يتميَّز المؤمن الصادق من غيره. ولتَسمعُنَّ من اليهود والنصارى والمشركين ما يؤذي أسماعكم من ألفاظ الشرك والطعن في دينكم . وإن تصبروا -أيها المؤمنون- على ذلك كله, وتتقوا الله بلزوم طاعته واجتناب معصيته, فإن ذلك من الأمور التي يُعزم عليها, وينافس فيها. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) واذكر -أيها الرسول- إذ أخذ الله العهد الموثق على الذين آتاهم الله الكتاب من اليهود والنصارى, فلليهود التوراة وللنصارى الإنجيل; ليعملوا بهما, ويبينوا للناس ما فيهما, ولا يكتموا ذلك ولا يخفوه, فتركوا العهد ولم يلتزموا به, وأخذوا ثمنا بخسًا مقابل كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب, فبئس الشراء يشترون, في تضييعهم الميثاق, وتبديلهم الكتاب. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) ولا تظنن الذين يفرحون بما أَتَوا من أفعال قبيحة كاليهود والمنان وغيرهم, ويحبون أن يثني عليهم الناس بما لم يفعلوا, فلا تظنهم ناجين من عذاب الله في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب موجع. وفي الآية وعيد شديد لكل آت لفعل السوء معجب به, ولكل مفتخر بما لم يعمل, ليُثنيَ عليه الناس ويحمدوه. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) ولله وحده ملك السموات والأرض وما فيهما, والله على كل شيء قدير. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) إن في خلق السموات والأرض على غير مثال سابق, وفي تعاقُب الليل والنهار, واختلافهما طولا وقِصَرًا لدلائل وبراهين عظيمة على وحدانية الله لأصحاب العقول السليمة. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) الذين يذكرون الله في جميع أحوالهم: قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم, وهم يتدبرون في خلق السموات والأرض, قائلين: يا ربنا ما أوجدت هذا الخلق عبثًا, فأنت منزَّه عن ذلك, فاصْرِف عنا عذاب النار. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) يا ربنا نجِّنا من النار, فإنك -يا ألله- مَن تُدخِلْه النار بذنوبه فقد فضحته وأهنته, وما للمذنبين الظالمين لأنفسهم من أحد يدفع عنهم عقاب الله يوم القيامة. رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) يا ربنا إننا سمعنا مناديا -هو نبيك محمد صلى الله عليه وسلم- ينادي الناس للتصديق بك, والإقرار بوحدانيتك, والعمل بشرعك, فأجبنا دعوته وصدَّقنا رسالته, فاغفر لنا ذنوبنا, واستر عيوبنا, وألحقنا بالصالحين. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) يا ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من نصر وتمكين وتوفيق وهداية, ولا تفضحنا بذنوبنا يوم القيامة, فإنك كريم لا تُخْلف وعدًا وَعَدْتَ به عبادك. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) فأجاب الله دعاءهم بأنه لا يضيع جهد مَن عمل منهم عملا صالحًا ذكرًا كان أو أنثى, وهم في أُخُوَّة الدين وقَبول الأعمال والجزاء عليها سواء, فالذين هاجروا رغبةً في رضا الله تعالى, وأُخرجوا من ديارهم, وأوذوا في طاعة ربهم وعبادتهم إيّاه, وقاتلوا وقُتِلوا في سبيل الله لإعلاء كلمته, ليسترنَّ الله عليهم ما ارتكبوه من المعاصي, كما سترها عليهم في الدنيا, فلا يحاسبهم عليها, وليدخلنَّهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار جزاء من عند الله, والله عنده حسن الثواب. لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) لا تغتر -أيها الرسول- بما عليه أهل الكفر بالله من بسطة في العيش, وسَعَة في الرزق, وانتقالهم من مكان إلى مكان للتجارات وطلب الأرباح والأموال, فعمَّا قليل يزول هذا كلُّه عنهم, ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) متاع قليل زائل, ثم يكون مصيرهم يوم القيامة إلى النار, وبئس الفراش. لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (198) لكن الذين خافوا ربهم, وامتثلوا أوامره, واجتنبوا نواهيه, قد أعدَّ الله لهم جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار, هي منزلهم الدائم لا يخرجون منه. وما عد الله أعظم وأفضل لأهل الطاعة مما يتقلب فيه الذين كفروا من نعيم الدنيا. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) وإن بعضًا من أهل الكتاب لَيصدِّق بالله ربًّا واحدًا وإلهًا معبودًا, وبما أُنزِل إليكم من هذا القرآن, وبما أُنزِل إليهم من التوراة والإنجيل متذللين لله, خاضعين له, لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا من حطام الدنيا, ولا يكتمون ما أنزل الله, ولا يحرفونه كغيرهم من اهل الكتاب. أولئك لهم ثواب عظيم عنده يوم يلقونه, فيوفيهم إياه غير منقوص. إنَّ الله سريع الحساب, لا يعجزه إحصاء أعمالهم, ومحاسبتهم عليها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اصبروا على طاعة ربكم, وعلى ما ينزل بكم من ضر وبلاء, وصابروا أعداءكم حتى لا يكونوا أشد صبرًا منكم, وأقيموا على جهاد عدوي وعدوكم, وخافوا الله في جميع أحوالكم; رجاء أن تفوزوا برضاه في الدنيا والآخرة. |
|
|
11-23-2011, 02:31 AM | #12 | |
مشرف قسم
|
سورة النساء - مدنية - عدد أياتها 176 يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) يا أيها الناس خافوا الله والتزموا أوامره, واجتنبوا نواهيه; فهو الذي خلقكم من نفس واحدة هي آدم عليه السلام, وخلق منها زوجها وهي حواء, ونشر منهما في أنحاء الأرض رجالا كثيرًا ونساء كثيرات, وراقبوا الله الذي يَسْأل به بعضكم بعضًا, واحذروا أن تقطعوا أرحامكم. إن الله مراقب لجميع أحوالكم. وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2) وأعطوا مَن مات آباؤهم وهم دون البلوغ, وكنتم عليهم أوصياء, أموالهم إذا وصلوا سن البلوغ, ورأيتم منهم قدرة على حفظ أموالهم, ولا تأخذوا الجيِّد من أموالهم, وتجعلوا مكانه الرديء من أموالكم, ولا تخلطوا أموالهم بأموالكم; لتحتالوا بذلك على أكل أموالهم. إن من تجرأ على ذلك فقد ارتكب إثمًا عظيمًا. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت أيديكم بأن لا تعطوهن مهورهن كغيرهن, فاتركوهن وانكحوا ما طاب لكم من النساء من غيرهن: اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا, فإن خشيتم ألا تعدلوا بينهن فاكتفوا بواحدة, أو بما عندكم من الإماء. ذلك الذي شرعته لكم في اليتيمات والزواج من واحدة إلى أربع, أو الاقتصار على واحدة أو ملك اليمين, أقرب إلى عدم الجَوْرِ والتعدي. وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وأعطوا النساء مهورهن, عطية واجبة وفريضة لازمة عن طيب نفس منكم. فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء من المهر فوهَبْنه لكم فخذوه, وتصرَّفوا فيه, فهو حلال طيب. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) ولا تؤتوا -أيها الأولياء- من يُبَذِّر من الرجال والنساء والصبيان أموالهم التي تحت أيديكم فيضعوها في غير وجهها, فهذه الأموال هي التي عليها قيام حياة الناس, وأنفقوا عليهم منها واكسوهم, وقولوا لهم قولا معروفًا من الكلام الطيب والخلق الحسن. وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) واختبروا مَن تحت أيديكم من اليتامى لمعرفة قدرتهم على حسن التصرت في أموالهم, حتى إذا وصلوا إلى سن البلوغ, وعَلمتم منهم صلاحًا في دينهم, وقدرة على حفظ أموالهم,فسلِّموها لهم, ولا تعتدوا عليها بإنفاقها في غير موضعها إسرافًا ومبادرة لأكلها قبل أن يأخذوها منكم. ومَن كان صاحب مال منكم فليستعفف بغناه, ولا يأخذ من مال اليتيم شيئًا, ومن كان رًا فليأخذ بقدر حاجته عند الضرورة. فإذا علمتم أنهم قادرون على حفظ أموالهم بعد بلوغهم الحُلُم وسلمتموها إليهم, فأَشْهِدوا عليهم; ضمانًا لوصول حقهم كاملا إليهم; لئلا ينكروا ذلك. ويكفيكم أن الله شاهد عليكم, ومحاسب لكم على ما فعلتم. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) للذكور -صغارًا أو كبارًا- نصيب +شرعه الله فيما تركه الوالدان والأقربون من المال, قليلا كان أو كثيرًا, في أنصبة محددة واضحة فرضها الله عز وجل لهؤلاء, وللنساء كذلك. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وإذا حضر قسمةَ الميراث أقاربُ الميت ممن لا حقَّ لهم في التركة, أو حضرها من مات آباؤهم وهم صغار, أو مَن لا مال لهم فأعطوهم شيئًا من المال على وجه الاستحباب قبل تقسيم التركة على أصحابها, وقولوا لهم قولا حسنًا غير فاحش ولا قبيح. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) ولْيَخَفِ الذين لو ماتوا وتركوا من خلفهم أبناء صغارًا ضعافًا خافوا عليهم الظلم والضياع, فليراقبوا الله فيمن تحت أيديهم من اليتامى وغيرهم, وذلك بحفظ أموالهم, وحسن تربيتهم, ودَفْع الأذى عنهم, وليقولوا لهم قولا موافقا للعدل والمعروف. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) إن الذين يعْتَدون على أموال اليتامى, فيأخذونها بغير حق, إنما يأكلون نارًا تتأجّج في بطونهم يوم القيامة, وسيدخلون نارا يقاسون حرَّها. يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماًحَكِيماً (11) يوصيكم الله ويأمركم في شأن أولادكم: إذا مات أحد منكم وترك أولادًا: ذكورًا وإناثًا, فميراثه كله لهم: للذكر مثل نصيب الأنثيين, إذا لم يكن هناك وارث غيرهم. فإن ترك بنات فقط فللبنتين فأكثر ثلثا ما ترك, وإن كانت ابنة واحدة, فلها النصف. ولوالِدَي الميت لكل واحد منهما السدس إن كان له ولد: ذكرًا كان أو أنثى, واحدًا أو أكثر. فإن لم يكن له ولد وورثه والداه فلأمه الثلث ولأبيه الباقي. فإن كان للميت إخوة اثنان فأكثر, ذكورًا كانوا أو إناثًا, فلأمه السدس, وللأب الباقي ولا شيء للإخوة. وهذا التقسيم للتركة إنما يكون بعد إخراج وصية الميت في حدود الثلث أو إخراج ما عليه من دَيْن. آباؤكم وأبْناؤكم الذين فُرِض لهم الإرث لا تعرفون أيهم أقرب لكم نفعًا في دنياكم وأخراكم, فلا تفضلوا واحدًا منهم على الآخر. هذا الذي أوصيتكم به مفروض عليكم من الله. إن الله كان عليمًا بخلقه, حكيمًا فيما شرعه لهم. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَمُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) ولكم -أيها الرجال- نصف ما ترك أزواجكم بعد وفاتهن إن لم يكن لهن ولد ذكرًا كان أو أنثى, فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن, ترثونه من بعد إنفاذ وصيتهن الجائزة, أو ما يكون عليهن من دَيْن لمستحقيه. ولأزواجكم - أيها الرجال - الربع مما تركتم, إن لم يكن لكم ابن أو ابنة منهن أو من غيرهن, فإن كان لكم ابن أو ابنة فلهن الثمن مما تركتم, يقسم الربع أو الثمن بينهن, فإن كانت زوجة واحدة كان هذا ميراثًا لها, من بعد إنفاذ ما كنتم أوصيتم به من الوصايا الجائزة, أو قضاء ما يكون عليكم من دَيْن. وإن مات رجل أو امراة وليس له أو لها ولد ولا والد, وله أو لها أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس. فإن كان الإخوة أو الأخوات لأم أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يقسم بينهم بالسوية لا فرق بين الذكر والأنثى, وهذا الذي فرضه الله للإخوة والأخوات لأم يأخذونه ميراثًا لهم من بعد قضاء ديون الميت, وإنفاذ وصيته إن كان قد أوصى بشيء لا ضرر فيه على الورثة. بهذا أوصاكم ربكم وصية نافعة لكم. والله عليم بما يصلح خلقه, حليم لا يعاجلهم بالعقوبة. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) تلك الأحكام الإلهية التي شرعها الله في اليتامى والنساء والمواريث, شرائعه الدالة على أنها مِن عند الله العلبم الحكيم. ومَن يطع الله ورسوله فيما شرع لعباده من هذه الأحكام وغيرها, يدخله جنات كثيرة الأشجار والقصور, تجري من تحتها الأنهار بمياهها العذبة, وهم باقون في هذا النعيم, لا يخرجون منه, وذلك الثواب هو الفلاح العظيم. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) ومَن يَعْصِ الله ورسوله, بإنكاره لأحكام الله, وتجاوزه ما شرعه الله لعباده بتغييرها, أو تعطيل العمل بها, يدخله نارًا ماكثًا فيها, وله عذاب يخزيه ويهينه. وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) واللاتي يزنين من نسائكم, فاستشهدوا -أيها الولاة والقضاة- عليهن أربعة رجال عدول من المسلمين, فإن شهدوا عليهن بذلك فاحبسوهن في البيوت حتى تنتهي حياتهن بالموت, أو يجعل الله لهن طريقًا للخلاص من ذلك. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) واللذان يقعان في فاحشة الزنى, فآذُوهما بالضرب والهجر والتوبيخ, فإن تابا عمَّا وقع منهما وأصلحا بما يقدِّمان من الأعمال الصالحة فاصفحوا عن أذاهما. ويستفاد من هذه الآية والتي قبلها أن الرجال إذا فعلوا الفاحشة يُؤْذَوْن, والنساء يُحْبَسْنَ ويُؤذَيْنَ, فالحبس غايتة الموت, والأذية نهايتها إلى التوبة والصلاح. وكان هذا في صدر الإسلام, ثم نُسخ بما شرع الله ورسوله, وهو الرجم للمحصن والمحصنة, وهما الحران البالغان العاقلان, اللذان جامعا في نكاح صحيح, والجلدُ مائة جلدة, وتغريب عام لغيرهما. إن الله كان توابا على عباده التائبين, رحيمًا بهم. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) إنَّما يقبل الله التوبة من الذين يرتكبون المعاصي والذنوب بجهل منهم لعاقبتها, وإيجابها لسخط الله -فكل عاص لله مخطئًا أو متعمِّدًا فهو جاهل بهذا الاعتبار, وإن كان عالمًا بالتحريم -ثم يرجعون إلى ربهم بالإنابة والطاعة قبل معاينة الموت, فأولئك يقبل الله توبتهم. وكان الله عليمًا بخلقه, حكيمًا في تدبيره وتقديره. وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) وليس قَبول التوبة للذين يُصِرُّون على ارتكاب المعاصي, ولا يرجعون إلى ربهم إلى أن تأتيهم سكرات الموت, فيقول أحدهم: إني تبت الآن, كما لا تُقبل توبة الذين يموتون وهم جاحدون, منكرون لوحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. أولئك المصرُّون على المعاصي إلى أن ماتوا, والجاحدون الذين يموتون وهم كفار, أعتدنا لهم عذابًا موجعًا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) يا أيها الذين آمنوا لا يجوز لكم أن تجعلوا نساء آبائكم من جملة تَرِكتهم, تتصرفون فيهن بالزواج منهن, أو المنع لهن, أو تزويجهن للآخرين, وهن كارهات لذلك كله, ولا يجوز لكم أن تصارُّوا أزواجكم وأنتم كارهون لهن; ليتنازلن عن بعض ما آتيتموهن من مهر ونحوه, إلا أن يرتكبن أمرا فاحشا كالزنى, فلكم حيننذ إمساكهن حتى تأخذوا ما أعطيتموهن. ولتكن مصاحبتكم لنسائكم مبنية على التكريم والمحبة, وأداء ما لهن من حقوق. فإن كرهتموهن لسبب من الأسباب الدنيوية فاصبروا; فعسى أن تكرهوا أمرًا من الأمور ويكون فيه خير كثير. وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وإن أردتم استبدال زوجة مكان أخرى, وكنتم قد أعطيتم مَن تريدون طلاقها مالا كثيرًا مهرًا لها, فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئًا, أتأخذونه كذبًا وافتراءً واضحًا؟ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (21) وكيف يحلُّ لكم أن تأخذوا ما أعطيتموهن من مهر, وقد استمتع كل منكما بالآخر بالجماع, وأخَذْنَ منكم ميثاقًا غليظًا من إمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان؟ وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً (22) ولا تتزوجوا مَن تزوجه آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف منكم ومضى في الجاهلية فلا مؤاخذة فيه. إن زواج الأبناء من زوجات آبائهم أمر قبيح يفحش ويعظم قبحه, وبغيض يمقت الله فاعله, وبئس طريقًا ومنهجًا ما كنتم تفعلونه في جاهليتكم. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) حرَّم الله عليكم نكاح أمهاتكم, ويدخل في ذلك الجدَّات مِن جهة الأب أو الأم, وبناتكم: ويشمل بنات الأولاد وإن نزلن, وأخواتكم الشقيقات أو لأب أو لأم, وعماتكم: أخوات آبائكم وأجدادكم, وخالاتكم: أخوات أمهاتكم وجداتكم, وبنات الأخ, وبنات الأخت: ويدخل في ذلك أولادهن, وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم, وأخواتكم من الرضاعة -وقد حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع ما يحرم من النسب- وأمهات نسائكم, سواء دخلتم بنسائكم, أم لم تدخلوا بهن, وبنات نسائكم من غيركم اللاتي يتربَّيْنَ غالبًا في بيوتكم وتحت رعايتكم, وهن مُحرَّمَات فإن لم يكنَّ في حجوركم, ولكن بشرط الدخول بأمهاتهن, فإن لم تكونوا دخلتم بأمهاتهن وطلقتموهن أو متْنَ قبل الدخول فلا جناح عليكم أن تنكحوهن, كما حرَّم الله عليكم أن تنكحوا زوجات أبنائكم الذين من أصلابكم, ومن أُلحق بهم مِن أبنائكم من الرضاع, وهذا التحريم يكون بالعقد عليها, دخل الابن بها أم لم يدخل, وحرَّم عليكم كذلك الجمع في وقت واحد بين الأختين بنسب أو رضاع إلا ما قد سلف ومضى منكم في الجاهلية. ولا يجوز كذلك الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها كما جاء في السنة. إن الله كان غفورًا للمذنبين إذا تابوا, رحيمًا بهم, فلا يكلفهم ما لا يطيقون. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) ويحرم عليكم نكاح المتزوجات من النساء, إلا مَنْ سَبَيْتُم منهن في الجهاد, فإنه يحل لكم نكاحهن, بعد استبراء أرحامهن بحيضة, كتب الله عليكم تحريم نكاح هؤلاء, وأجاز لكم نكاح مَن سواهن, ممَّا أحله الله لكم أن تطلبوا بأموالكم العفة عن اقتراف الحرام. فما استمتعتم به منهن بالنكاح الصحيح, فأعطوهن مهورهن, التي فرض الله لهن عليكم, ولا إثم عليكم فيما تمَّ التراضي به بينكم, من الزيادة أو النقصان في المهر, بعد ثبوت الفريضة. إن الله تعالى كان عليمًا بأمور عباده, حكيما في أحكامه وتدبيره. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) ومن لا قدرة له على مهور الحرائر المؤمنات, فله أن ينكح غيرهن, من فتياتكم المؤمنات المملوكات. والله تعالى هو العليم بحقيقة إيمانكم, بعضكم من بعض, فتزوجوهن بموافقة أهلهن, وأعطوهن مهورهن على ما تراضيتم به عن طيب نفس منكم, متعففات عن الحرام, غير مجاهرات بالزنى, ولا مسرات به باتخاذ أخلاء, فإذا تزوجن وأتين بفاحشة الزنى فعليهن من الحدِّ نصف ما على الحرائر. ذلك الذي أبيح مِن نكاح الإماء بالصفة المتقدمة إنما أبيح لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنى, وشق عليه الصبر عن الجماع, والصبر عن نكاح الإماء مع العفة أولى وأفضل. والله تعالى غفور لكم, رحيم بكم إذ أذن لكم في نكاحهن عند العجز عن نكاح الحرائر. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)ي ريد الله تعالى بهذه التشريعات, أن يوضح لكم معالم دينه القويم, وشرعه الحكيم, ويدلكم على طرق الأنبياء والصالحين من قبلكم في الحلال والحرام, ويتوب عليكم بالرجوع بكم إلى الطاعات, وهو سبحانه عليم بما يصلح شأن عباده, حكيم فيما شرعه لكم. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)[ /U] والله يريد أن يتوب عليكم, ويتجاوز عن خطاياكم, ويريد الذين ينقادون لشهواتهم وملذاتهم أن تنحرفوا عن الدين انحرافًا كبيرًا. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28) يريد الله تعالى بما شرعه لكم التيسير, وعدم التشديد عليكم; لأنكم خلقتم ضعفاء. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)ي ا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لا يحل لكم أن يأكل بعضكم مال بعض بغير حق, إلا أن يكون وَفْقَ الشرع والكسب الحلال عن تراض منكم, ولا يقتل بعضكم بعضًا فتهلكوا أنفسكم بارتكاب محارم الله ومعاصيه. إن الله كان بكم رحيمًا في كل ما أمركم به, ونهاكم عنه. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)[ /U]و من يرتكب ما نهى الله عنه من أخذ المال الحرام كالسرقة والغصب والغش معتديًا متجاوزًا حد الشرع, فسوف يدخله الله نارًا يقاسي حرَّها, وكان ذلك على الله يسيرًا. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) تبتعدوا -أيها المؤمنون- عن كبائر الذنوب كالإشراك بالله وعقوق الوالدين وقَتْلِ النفس بغير الحق وغير ذلك, نكفِّر عنكم ما دونها من الصغائر, وندخلكم مدخلا كريمًا, وهو الجنَّة. وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض, في المواهب والأرزاق وغير ذلك, فقد جعل الله للرجال نصيبًا مقدَّرًا من الجزاء بحسب عملهم, وجعل للنساء نصيبًا مما عملن, واسألوا الله الكريم الوهاب يُعْطِكم من فضله بدلا من التمني. إن الله كان بكل شيء عليمًا, وهو أعلم بما يصلح عباده فيما قسمه لهم من خير. وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) ولكل واحد منكم جعلنا ورثة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون, والذين تحالفتم معهم بالأيمان المؤكدة على النصرة وإعطائهم شيئًا من الميراث فأعطوهم ما قُدِّر لهم. والميراث بالتحالف كان في أول الإسلام, ثم رُفع حكمه بنزول آيات المواريث. إن الله كان مُطَّلِعًا على كل شيء من أعمالكم, وسيجازيكم على ذلك. الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (34) الرجال قوَّامون على توجيه النساء ورعايتهن, بما خصهم الله به من خصائص القِوامَة والتفضيل, وبما أعطوهن من المهور والنفقات. فالصالحات المستقيمات على شرع الله منهن, مطيعات لله تعالى ولأزواجهن, حافظات لكل ما غاب عن علم أزواجهن بما اؤتمنَّ عليه بحفظ الله وتوفيقه, واللاتي تخشون منهن ترفُّعهن عن طاعتكم, فانصحوهن بالكلمة الطيبة, فإن لم تثمر معهن الكلمة الطيبة, فاهجروهن في الفراش, ولا تقربوهن, فإن لم يؤثر فعل الهِجْران فيهن, فاضربوهن ضربًا لا ضرر فيه, فإن أطعنكم فاحذروا ظلمهن, فإن الله العليَّ الكبير وليُّهن, وهو منتقم ممَّن ظلمهنَّ وبغى عليهن. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وإن علمتم -يا أولياء الزوجين- شقاقًا بينهما يؤدي إلى الفراق, فأرسلوا إليهما حكمًا عد من أهل الزوج, وحكمًا عدلا من أهل الزوجة; لينظرا ويحكما بما فيه المصلحة لهما, وبسبب رغبة الحكمين في الإصلاح, واستعمالهما الأسلوب الطيب يوفق الله بين الزوجين. إن الله تعالى عليم, لا يخفى عليه شيء من أمر عباده, خبير بما تنطوي عليه نفوسهم. وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36) واعبدوا الله وانقادوا له وحده, ولا تجعلوا له شريكًا في الربوبية والعبادة, وأحسنوا إلى الوالدين, وأدُّوا حقوقهما, وحقوق الأقربين, واليتامى والمحتاجين, والجار القريب منكم والبعيد, والرفيق في السفر وفي الحضر, والمسافر المحتاج, والمماليك من فتيانكم وفتياتكم. إن الله تعالى لا يحب المتكبرين من عباده, المفتخرين على الناس. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (37) الذين يمتنعون عن الإنفاق والعطاء مما رزقهم الله, ويأمرون غيرهم بالبخل, ويجحدون نِعَمَ الله عليهم, ويخفون فضله وعطاءه. وأعددنا للجاحدين عذابًا مخزيًا. وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (38) وأعتدنا هذا العذاب كذلك للذين ينفقون أموالهم رياءً وسمعةً, ولا يصدقون بالله اعتقادًا وعملا ولا بيوم القيامة. وهذه الأعمال السيئة مما يدعو إليها الشيطان. ومن يكن الشيطان له ملازمًا فبئس الملازم والقرين. وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) وأيُّ ضرر يلحقهم لو صدَّقوا بالله واليوم الآخر اعتقادًا وعملا وأنفقوا مما أعطاهم الله باحتساب وإخلاص, والله تعالى عليم بهم وبما يعملون, وسيحاسبهم على ذلك. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) إن الله تعالى لا ينقص أحدًا من جزاء عمله مقدار ذرة, وإن تكن زنة الذرة حسنة فإنه سبحانه يزيدها ويكثرها لصاحبها, ويتفضل عليه بالمزيد, فيعطيه من عنده ثوابًا كبيرًا هو الجنة. فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً (41) فكيف يكون حال الناس يوم القيامة, إذا جاء الله من كل أمة برسولها ليشهد عليها بما عملت, وجاء بك -أيها الرسول- لتكون شهيدًا على أمتك أنك بلغتهم رسالة ربِّك. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ [U] [U]حَدِيثاً (42) يوم يكون ذلك, يتمنى الذين كفروا بالله تعالى وخالفوا الرسول ولم يطيعوه, لو يجعلهم الله والأرض سواء, فيصيرون ترابًا, حتى لا يبعثوا وهم لا يستطيعون أن يُخفوا عن الله شيئًا مما في أنفسهم, إذ ختم الله على أفواههم, وشَهِدَتْ عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون. |
|
|
11-23-2011, 02:32 AM | #13 | |
مشرف قسم
|
سورة النساء - مدنية - عدد أياتها 176 يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) يا أيها الناس خافوا الله والتزموا أوامره, واجتنبوا نواهيه; فهو الذي خلقكم من نفس واحدة هي آدم عليه السلام, وخلق منها زوجها وهي حواء, ونشر منهما في أنحاء الأرض رجالا كثيرًا ونساء كثيرات, وراقبوا الله الذي يَسْأل به بعضكم بعضًا, واحذروا أن تقطعوا أرحامكم. إن الله مراقب لجميع أحوالكم. وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2) وأعطوا مَن مات آباؤهم وهم دون البلوغ, وكنتم عليهم أوصياء, أموالهم إذا وصلوا سن البلوغ, ورأيتم منهم قدرة على حفظ أموالهم, ولا تأخذوا الجيِّد من أموالهم, وتجعلوا مكانه الرديء من أموالكم, ولا تخلطوا أموالهم بأموالكم; لتحتالوا بذلك على أكل أموالهم. إن من تجرأ على ذلك فقد ارتكب إثمًا عظيمًا. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت أيديكم بأن لا تعطوهن مهورهن كغيرهن, فاتركوهن وانكحوا ما طاب لكم من النساء من غيرهن: اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا, فإن خشيتم ألا تعدلوا بينهن فاكتفوا بواحدة, أو بما عندكم من الإماء. ذلك الذي شرعته لكم في اليتيمات والزواج من واحدة إلى أربع, أو الاقتصار على واحدة أو ملك اليمين, أقرب إلى عدم الجَوْرِ والتعدي. وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وأعطوا النساء مهورهن, عطية واجبة وفريضة لازمة عن طيب نفس منكم. فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء من المهر فوهَبْنه لكم فخذوه, وتصرَّفوا فيه, فهو حلال طيب. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) ولا تؤتوا -أيها الأولياء- من يُبَذِّر من الرجال والنساء والصبيان أموالهم التي تحت أيديكم فيضعوها في غير وجهها, فهذه الأموال هي التي عليها قيام حياة الناس, وأنفقوا عليهم منها واكسوهم, وقولوا لهم قولا معروفًا من الكلام الطيب والخلق الحسن. وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) واختبروا مَن تحت أيديكم من اليتامى لمعرفة قدرتهم على حسن التصرت في أموالهم, حتى إذا وصلوا إلى سن البلوغ, وعَلمتم منهم صلاحًا في دينهم, وقدرة على حفظ أموالهم,فسلِّموها لهم, ولا تعتدوا عليها بإنفاقها في غير موضعها إسرافًا ومبادرة لأكلها قبل أن يأخذوها منكم. ومَن كان صاحب مال منكم فليستعفف بغناه, ولا يأخذ من مال اليتيم شيئًا, ومن كان رًا فليأخذ بقدر حاجته عند الضرورة. فإذا علمتم أنهم قادرون على حفظ أموالهم بعد بلوغهم الحُلُم وسلمتموها إليهم, فأَشْهِدوا عليهم; ضمانًا لوصول حقهم كاملا إليهم; لئلا ينكروا ذلك. ويكفيكم أن الله شاهد عليكم, ومحاسب لكم على ما فعلتم. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) للذكور -صغارًا أو كبارًا- نصيب +شرعه الله فيما تركه الوالدان والأقربون من المال, قليلا كان أو كثيرًا, في أنصبة محددة واضحة فرضها الله عز وجل لهؤلاء, وللنساء كذلك. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وإذا حضر قسمةَ الميراث أقاربُ الميت ممن لا حقَّ لهم في التركة, أو حضرها من مات آباؤهم وهم صغار, أو مَن لا مال لهم فأعطوهم شيئًا من المال على وجه الاستحباب قبل تقسيم التركة على أصحابها, وقولوا لهم قولا حسنًا غير فاحش ولا قبيح. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) ولْيَخَفِ الذين لو ماتوا وتركوا من خلفهم أبناء صغارًا ضعافًا خافوا عليهم الظلم والضياع, فليراقبوا الله فيمن تحت أيديهم من اليتامى وغيرهم, وذلك بحفظ أموالهم, وحسن تربيتهم, ودَفْع الأذى عنهم, وليقولوا لهم قولا موافقا للعدل والمعروف. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) إن الذين يعْتَدون على أموال اليتامى, فيأخذونها بغير حق, إنما يأكلون نارًا تتأجّج في بطونهم يوم القيامة, وسيدخلون نارا يقاسون حرَّها. يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماًحَكِيماً (11) يوصيكم الله ويأمركم في شأن أولادكم: إذا مات أحد منكم وترك أولادًا: ذكورًا وإناثًا, فميراثه كله لهم: للذكر مثل نصيب الأنثيين, إذا لم يكن هناك وارث غيرهم. فإن ترك بنات فقط فللبنتين فأكثر ثلثا ما ترك, وإن كانت ابنة واحدة, فلها النصف. ولوالِدَي الميت لكل واحد منهما السدس إن كان له ولد: ذكرًا كان أو أنثى, واحدًا أو أكثر. فإن لم يكن له ولد وورثه والداه فلأمه الثلث ولأبيه الباقي. فإن كان للميت إخوة اثنان فأكثر, ذكورًا كانوا أو إناثًا, فلأمه السدس, وللأب الباقي ولا شيء للإخوة. وهذا التقسيم للتركة إنما يكون بعد إخراج وصية الميت في حدود الثلث أو إخراج ما عليه من دَيْن. آباؤكم وأبْناؤكم الذين فُرِض لهم الإرث لا تعرفون أيهم أقرب لكم نفعًا في دنياكم وأخراكم, فلا تفضلوا واحدًا منهم على الآخر. هذا الذي أوصيتكم به مفروض عليكم من الله. إن الله كان عليمًا بخلقه, حكيمًا فيما شرعه لهم. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَمُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) ولكم -أيها الرجال- نصف ما ترك أزواجكم بعد وفاتهن إن لم يكن لهن ولد ذكرًا كان أو أنثى, فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن, ترثونه من بعد إنفاذ وصيتهن الجائزة, أو ما يكون عليهن من دَيْن لمستحقيه. ولأزواجكم - أيها الرجال - الربع مما تركتم, إن لم يكن لكم ابن أو ابنة منهن أو من غيرهن, فإن كان لكم ابن أو ابنة فلهن الثمن مما تركتم, يقسم الربع أو الثمن بينهن, فإن كانت زوجة واحدة كان هذا ميراثًا لها, من بعد إنفاذ ما كنتم أوصيتم به من الوصايا الجائزة, أو قضاء ما يكون عليكم من دَيْن. وإن مات رجل أو امراة وليس له أو لها ولد ولا والد, وله أو لها أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس. فإن كان الإخوة أو الأخوات لأم أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يقسم بينهم بالسوية لا فرق بين الذكر والأنثى, وهذا الذي فرضه الله للإخوة والأخوات لأم يأخذونه ميراثًا لهم من بعد قضاء ديون الميت, وإنفاذ وصيته إن كان قد أوصى بشيء لا ضرر فيه على الورثة. بهذا أوصاكم ربكم وصية نافعة لكم. والله عليم بما يصلح خلقه, حليم لا يعاجلهم بالعقوبة. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) تلك الأحكام الإلهية التي شرعها الله في اليتامى والنساء والمواريث, شرائعه الدالة على أنها مِن عند الله العلبم الحكيم. ومَن يطع الله ورسوله فيما شرع لعباده من هذه الأحكام وغيرها, يدخله جنات كثيرة الأشجار والقصور, تجري من تحتها الأنهار بمياهها العذبة, وهم باقون في هذا النعيم, لا يخرجون منه, وذلك الثواب هو الفلاح العظيم. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) ومَن يَعْصِ الله ورسوله, بإنكاره لأحكام الله, وتجاوزه ما شرعه الله لعباده بتغييرها, أو تعطيل العمل بها, يدخله نارًا ماكثًا فيها, وله عذاب يخزيه ويهينه. وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) واللاتي يزنين من نسائكم, فاستشهدوا -أيها الولاة والقضاة- عليهن أربعة رجال عدول من المسلمين, فإن شهدوا عليهن بذلك فاحبسوهن في البيوت حتى تنتهي حياتهن بالموت, أو يجعل الله لهن طريقًا للخلاص من ذلك. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) واللذان يقعان في فاحشة الزنى, فآذُوهما بالضرب والهجر والتوبيخ, فإن تابا عمَّا وقع منهما وأصلحا بما يقدِّمان من الأعمال الصالحة فاصفحوا عن أذاهما. ويستفاد من هذه الآية والتي قبلها أن الرجال إذا فعلوا الفاحشة يُؤْذَوْن, والنساء يُحْبَسْنَ ويُؤذَيْنَ, فالحبس غايتة الموت, والأذية نهايتها إلى التوبة والصلاح. وكان هذا في صدر الإسلام, ثم نُسخ بما شرع الله ورسوله, وهو الرجم للمحصن والمحصنة, وهما الحران البالغان العاقلان, اللذان جامعا في نكاح صحيح, والجلدُ مائة جلدة, وتغريب عام لغيرهما. إن الله كان توابا على عباده التائبين, رحيمًا بهم. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) إنَّما يقبل الله التوبة من الذين يرتكبون المعاصي والذنوب بجهل منهم لعاقبتها, وإيجابها لسخط الله -فكل عاص لله مخطئًا أو متعمِّدًا فهو جاهل بهذا الاعتبار, وإن كان عالمًا بالتحريم -ثم يرجعون إلى ربهم بالإنابة والطاعة قبل معاينة الموت, فأولئك يقبل الله توبتهم. وكان الله عليمًا بخلقه, حكيمًا في تدبيره وتقديره. وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) وليس قَبول التوبة للذين يُصِرُّون على ارتكاب المعاصي, ولا يرجعون إلى ربهم إلى أن تأتيهم سكرات الموت, فيقول أحدهم: إني تبت الآن, كما لا تُقبل توبة الذين يموتون وهم جاحدون, منكرون لوحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. أولئك المصرُّون على المعاصي إلى أن ماتوا, والجاحدون الذين يموتون وهم كفار, أعتدنا لهم عذابًا موجعًا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) يا أيها الذين آمنوا لا يجوز لكم أن تجعلوا نساء آبائكم من جملة تَرِكتهم, تتصرفون فيهن بالزواج منهن, أو المنع لهن, أو تزويجهن للآخرين, وهن كارهات لذلك كله, ولا يجوز لكم أن تصارُّوا أزواجكم وأنتم كارهون لهن; ليتنازلن عن بعض ما آتيتموهن من مهر ونحوه, إلا أن يرتكبن أمرا فاحشا كالزنى, فلكم حيننذ إمساكهن حتى تأخذوا ما أعطيتموهن. ولتكن مصاحبتكم لنسائكم مبنية على التكريم والمحبة, وأداء ما لهن من حقوق. فإن كرهتموهن لسبب من الأسباب الدنيوية فاصبروا; فعسى أن تكرهوا أمرًا من الأمور ويكون فيه خير كثير. وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وإن أردتم استبدال زوجة مكان أخرى, وكنتم قد أعطيتم مَن تريدون طلاقها مالا كثيرًا مهرًا لها, فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئًا, أتأخذونه كذبًا وافتراءً واضحًا؟ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (21) وكيف يحلُّ لكم أن تأخذوا ما أعطيتموهن من مهر, وقد استمتع كل منكما بالآخر بالجماع, وأخَذْنَ منكم ميثاقًا غليظًا من إمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان؟ وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً (22) ولا تتزوجوا مَن تزوجه آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف منكم ومضى في الجاهلية فلا مؤاخذة فيه. إن زواج الأبناء من زوجات آبائهم أمر قبيح يفحش ويعظم قبحه, وبغيض يمقت الله فاعله, وبئس طريقًا ومنهجًا ما كنتم تفعلونه في جاهليتكم. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) حرَّم الله عليكم نكاح أمهاتكم, ويدخل في ذلك الجدَّات مِن جهة الأب أو الأم, وبناتكم: ويشمل بنات الأولاد وإن نزلن, وأخواتكم الشقيقات أو لأب أو لأم, وعماتكم: أخوات آبائكم وأجدادكم, وخالاتكم: أخوات أمهاتكم وجداتكم, وبنات الأخ, وبنات الأخت: ويدخل في ذلك أولادهن, وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم, وأخواتكم من الرضاعة -وقد حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع ما يحرم من النسب- وأمهات نسائكم, سواء دخلتم بنسائكم, أم لم تدخلوا بهن, وبنات نسائكم من غيركم اللاتي يتربَّيْنَ غالبًا في بيوتكم وتحت رعايتكم, وهن مُحرَّمَات فإن لم يكنَّ في حجوركم, ولكن بشرط الدخول بأمهاتهن, فإن لم تكونوا دخلتم بأمهاتهن وطلقتموهن أو متْنَ قبل الدخول فلا جناح عليكم أن تنكحوهن, كما حرَّم الله عليكم أن تنكحوا زوجات أبنائكم الذين من أصلابكم, ومن أُلحق بهم مِن أبنائكم من الرضاع, وهذا التحريم يكون بالعقد عليها, دخل الابن بها أم لم يدخل, وحرَّم عليكم كذلك الجمع في وقت واحد بين الأختين بنسب أو رضاع إلا ما قد سلف ومضى منكم في الجاهلية. ولا يجوز كذلك الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها كما جاء في السنة. إن الله كان غفورًا للمذنبين إذا تابوا, رحيمًا بهم, فلا يكلفهم ما لا يطيقون. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) ويحرم عليكم نكاح المتزوجات من النساء, إلا مَنْ سَبَيْتُم منهن في الجهاد, فإنه يحل لكم نكاحهن, بعد استبراء أرحامهن بحيضة, كتب الله عليكم تحريم نكاح هؤلاء, وأجاز لكم نكاح مَن سواهن, ممَّا أحله الله لكم أن تطلبوا بأموالكم العفة عن اقتراف الحرام. فما استمتعتم به منهن بالنكاح الصحيح, فأعطوهن مهورهن, التي فرض الله لهن عليكم, ولا إثم عليكم فيما تمَّ التراضي به بينكم, من الزيادة أو النقصان في المهر, بعد ثبوت الفريضة. إن الله تعالى كان عليمًا بأمور عباده, حكيما في أحكامه وتدبيره. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) ومن لا قدرة له على مهور الحرائر المؤمنات, فله أن ينكح غيرهن, من فتياتكم المؤمنات المملوكات. والله تعالى هو العليم بحقيقة إيمانكم, بعضكم من بعض, فتزوجوهن بموافقة أهلهن, وأعطوهن مهورهن على ما تراضيتم به عن طيب نفس منكم, متعففات عن الحرام, غير مجاهرات بالزنى, ولا مسرات به باتخاذ أخلاء, فإذا تزوجن وأتين بفاحشة الزنى فعليهن من الحدِّ نصف ما على الحرائر. ذلك الذي أبيح مِن نكاح الإماء بالصفة المتقدمة إنما أبيح لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنى, وشق عليه الصبر عن الجماع, والصبر عن نكاح الإماء مع العفة أولى وأفضل. والله تعالى غفور لكم, رحيم بكم إذ أذن لكم في نكاحهن عند العجز عن نكاح الحرائر. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)ي ريد الله تعالى بهذه التشريعات, أن يوضح لكم معالم دينه القويم, وشرعه الحكيم, ويدلكم على طرق الأنبياء والصالحين من قبلكم في الحلال والحرام, ويتوب عليكم بالرجوع بكم إلى الطاعات, وهو سبحانه عليم بما يصلح شأن عباده, حكيم فيما شرعه لكم. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)[ /U] والله يريد أن يتوب عليكم, ويتجاوز عن خطاياكم, ويريد الذين ينقادون لشهواتهم وملذاتهم أن تنحرفوا عن الدين انحرافًا كبيرًا. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28) يريد الله تعالى بما شرعه لكم التيسير, وعدم التشديد عليكم; لأنكم خلقتم ضعفاء. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)ي ا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لا يحل لكم أن يأكل بعضكم مال بعض بغير حق, إلا أن يكون وَفْقَ الشرع والكسب الحلال عن تراض منكم, ولا يقتل بعضكم بعضًا فتهلكوا أنفسكم بارتكاب محارم الله ومعاصيه. إن الله كان بكم رحيمًا في كل ما أمركم به, ونهاكم عنه. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)[ /U]و من يرتكب ما نهى الله عنه من أخذ المال الحرام كالسرقة والغصب والغش معتديًا متجاوزًا حد الشرع, فسوف يدخله الله نارًا يقاسي حرَّها, وكان ذلك على الله يسيرًا. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) تبتعدوا -أيها المؤمنون- عن كبائر الذنوب كالإشراك بالله وعقوق الوالدين وقَتْلِ النفس بغير الحق وغير ذلك, نكفِّر عنكم ما دونها من الصغائر, وندخلكم مدخلا كريمًا, وهو الجنَّة. وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض, في المواهب والأرزاق وغير ذلك, فقد جعل الله للرجال نصيبًا مقدَّرًا من الجزاء بحسب عملهم, وجعل للنساء نصيبًا مما عملن, واسألوا الله الكريم الوهاب يُعْطِكم من فضله بدلا من التمني. إن الله كان بكل شيء عليمًا, وهو أعلم بما يصلح عباده فيما قسمه لهم من خير. وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) ولكل واحد منكم جعلنا ورثة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون, والذين تحالفتم معهم بالأيمان المؤكدة على النصرة وإعطائهم شيئًا من الميراث فأعطوهم ما قُدِّر لهم. والميراث بالتحالف كان في أول الإسلام, ثم رُفع حكمه بنزول آيات المواريث. إن الله كان مُطَّلِعًا على كل شيء من أعمالكم, وسيجازيكم على ذلك. الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (34) الرجال قوَّامون على توجيه النساء ورعايتهن, بما خصهم الله به من خصائص القِوامَة والتفضيل, وبما أعطوهن من المهور والنفقات. فالصالحات المستقيمات على شرع الله منهن, مطيعات لله تعالى ولأزواجهن, حافظات لكل ما غاب عن علم أزواجهن بما اؤتمنَّ عليه بحفظ الله وتوفيقه, واللاتي تخشون منهن ترفُّعهن عن طاعتكم, فانصحوهن بالكلمة الطيبة, فإن لم تثمر معهن الكلمة الطيبة, فاهجروهن في الفراش, ولا تقربوهن, فإن لم يؤثر فعل الهِجْران فيهن, فاضربوهن ضربًا لا ضرر فيه, فإن أطعنكم فاحذروا ظلمهن, فإن الله العليَّ الكبير وليُّهن, وهو منتقم ممَّن ظلمهنَّ وبغى عليهن. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وإن علمتم -يا أولياء الزوجين- شقاقًا بينهما يؤدي إلى الفراق, فأرسلوا إليهما حكمًا عد من أهل الزوج, وحكمًا عدلا من أهل الزوجة; لينظرا ويحكما بما فيه المصلحة لهما, وبسبب رغبة الحكمين في الإصلاح, واستعمالهما الأسلوب الطيب يوفق الله بين الزوجين. إن الله تعالى عليم, لا يخفى عليه شيء من أمر عباده, خبير بما تنطوي عليه نفوسهم. وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36) واعبدوا الله وانقادوا له وحده, ولا تجعلوا له شريكًا في الربوبية والعبادة, وأحسنوا إلى الوالدين, وأدُّوا حقوقهما, وحقوق الأقربين, واليتامى والمحتاجين, والجار القريب منكم والبعيد, والرفيق في السفر وفي الحضر, والمسافر المحتاج, والمماليك من فتيانكم وفتياتكم. إن الله تعالى لا يحب المتكبرين من عباده, المفتخرين على الناس. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (37) الذين يمتنعون عن الإنفاق والعطاء مما رزقهم الله, ويأمرون غيرهم بالبخل, ويجحدون نِعَمَ الله عليهم, ويخفون فضله وعطاءه. وأعددنا للجاحدين عذابًا مخزيًا. وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (38) وأعتدنا هذا العذاب كذلك للذين ينفقون أموالهم رياءً وسمعةً, ولا يصدقون بالله اعتقادًا وعملا ولا بيوم القيامة. وهذه الأعمال السيئة مما يدعو إليها الشيطان. ومن يكن الشيطان له ملازمًا فبئس الملازم والقرين. وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) وأيُّ ضرر يلحقهم لو صدَّقوا بالله واليوم الآخر اعتقادًا وعملا وأنفقوا مما أعطاهم الله باحتساب وإخلاص, والله تعالى عليم بهم وبما يعملون, وسيحاسبهم على ذلك. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) إن الله تعالى لا ينقص أحدًا من جزاء عمله مقدار ذرة, وإن تكن زنة الذرة حسنة فإنه سبحانه يزيدها ويكثرها لصاحبها, ويتفضل عليه بالمزيد, فيعطيه من عنده ثوابًا كبيرًا هو الجنة. فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً (41) فكيف يكون حال الناس يوم القيامة, إذا جاء الله من كل أمة برسولها ليشهد عليها بما عملت, وجاء بك -أيها الرسول- لتكون شهيدًا على أمتك أنك بلغتهم رسالة ربِّك. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ [U] [U]حَدِيثاً (42) يوم يكون ذلك, يتمنى الذين كفروا بالله تعالى وخالفوا الرسول ولم يطيعوه, لو يجعلهم الله والأرض سواء, فيصيرون ترابًا, حتى لا يبعثوا وهم لا يستطيعون أن يُخفوا عن الله شيئًا مما في أنفسهم, إذ ختم الله على أفواههم, وشَهِدَتْ عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون. |
|
|
11-23-2011, 02:41 AM | #14 | |
مشرف قسم
|
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) يا أيها الذين صدَّقوا بالله ورسوله وعملوا بشرعه, لا تقربوا الصلاة ولا تقوموا إليها حال السكر حتى تميزوا وتعلموا ما تقولون, وقد كان هذا قبل التحريم القاطع للخمر في كل حال, ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة, ولا تقربوا مواضعها وهي المساجد, إلا من كان منكم مجتازًا من باب إلى باب, حتى تتطهروا. وإن كنتم في حال مرض لا تقدرون معه على استعمال الماء, أو حال سفر, أو جاء أحد منكم من الغائط, أو جامعتم النساء, فلم تجدوا ماء للطهارة فاقصدوا ترابًا طاهرًا, فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. إن الله تعالى كان عفوًّا عنكم, غفورًا لكم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) ألم تعلم -أيها الرسول- أمر اليهود الذين أُعطوا حظًّا من العلم مما جاءهم من التوراة, يستبدلون الضلالة بالهدى, ويتركون ما لديهم من الحجج والبراهين, الدالة على صدق رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم, ويتمنون لكم -أيها المؤمنون المهتدون- أن تنحرفوا عن الطريق المستقيم; لتكونوا ضالين مثلهم. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) والله سبحانه وتعالى أعلم منكم -أيها المؤمنون- بعداوة هؤلاء اليهود لكم, وكفى بالله وليًّا يتولاكم, وكفى به نصيرًا ينصركم على أعدائكم. مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) من اليهود فريق دأبوا على تبديل كلام الله وتغييره عمَّا هو عليه افتراء على الله, ويقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: سمعنا قولك وعصينا أمرك واسمع منَّا لا سمعت, ويقولون: راعنا سمعك أي: افهم عنا وأفهمنا, يلوون ألسنتهم بذلك, وهم يريدون الدعاء عليه بالرعونة حسب لغتهم, والطعن في دين الإسلام. ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا, بدل و"عصينا", واسمع دون "غير مسمع", وانظرنا بدل "راعنا" لكان ذلك خيرًا لهم عند الله وأعدل قولا ولكن الله طردهم من رحمته; بسبب كفرهم وجحودهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, فلا يصدقون بالحق إلا تصديقًا قليلا لا ينفعهم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) يا أهل الكتاب, صدِّقوا واعملوا بما نزَّلنا من القرآن, مصدقًا لما معكم من الكتب من قبل أن نأخذكم بسوء صنيعكم, فنمحو الوجوه ونحولها قِبَلَ الظهور, أو نلعن هؤلاء المفسدين بمسخهم قردة وخنازير, كما لعنَّا اليهود مِن أصحاب السبت, الذين نُهوا عن الصيد فيه فلم ينتهوا, فغضب الله عليهم, وطردهم من رحمته, وكان أمر الله نافذًا في كل حال. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) إن الله تعالى لا يغفر ولا يتجاوز عمَّن أشرك به أحدًا من مخلوقاته, أو كفر بأي نوع من أنواع الكفر الأكبر, ويتجاوز ويعفو عمَّا دون الشرك من الذنوب, لمن يشاء من عباده, ومن يشرك بالله غيره فقد اختلق ذنبًا عظيمًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك الذين يُثنون على أنفسهم وأعمالهم, ويصفونها بالطهر والبعد عن السوء؟ بل الله تعالى وحده هو الذي يثني على مَن يشاء مِن عباده, لعلمه بحقيقة أعمالهم, ولا يُنقَصون من أعمالهم شيئًا مقدار الخيط الذي يكون في شق نَواة التمرة. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) انظر إليهم -أيها الرسول- متعجبًا من أمرهم, كيف يختلقون على الله الكذب, وهو المنزَّه عن كل ما لا يليق به؟ وكفى بهذا الاختلاق ذنبًا كبيرًا كاشفًا عن فساد معتقدهم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك اليهود الذين أُعطوا حظًّا من العلم يصدقون بكل ما يُعبد من دون الله من الأصنام وشياطين الإنس والجن تصديقا يحملهم على التحاكم إلى غير شرع الله, ويقولون للذين كفروا بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الكافرون أقْومُ, وأعدلُ طريقًا من أولئك الذين آمنوا؟ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أولئك الذين كَثُرَ فسادهم وعمَّ ضلالهم, طردهم الله نعالى من رحمته, ومَن يطرده الله من رحمته فلن تجد له من ينصره, ويدفع عنه سوء العذاب. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) بل ألهم حظ من الملك, ولو أوتوه لما أعطوا أحدًا منه شيئًا, ولو كان مقدار النقرة التي تكون في ظهر النَّواة. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) بل أيحسدون محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما أعطاه الله من نعمة النبوة والرسالة, ويحسدون أصحابه على نعمة التوفيق إلى الإيمان, والتصديق بالرسالة, واتباع الرسول, والتمكين في الأرض, ويتمنون زوال هذا الفضل عنهم؟ فقد أعطينا ذرية إبراهيم عليه السلام -من قَبْلُ- الكتب, التي أنزلها الله عليهم وما أوحي إليهم مما لم يكن كتابا مقروءا, وأعطيناهم مع ذلك ملكا واسعا. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) فمن هؤلاء الذين أوتوا حظًّا من العلم, مَن صدَّق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم, وعمل بشرعه, ومنهم مَن أعرض ولم يستجب لدعوته, ومنع الناس من اتباعه. وحسبكم -أيها المكذبون- نار جهنم تسعَّر بكم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) إن الذين جحدوا ما أنزل الله من آياته ووحي كتابه ودلائله وحججه, سوف ندخلهم نارًا يقاسون حرَّها, كلما احترقت جلودهم بدَّلْناهم جلودًا أخرى; ليستمر عذابهم وألمهم. إن الله تعالى كان عزيزًا لا يمتنع عليه شيء, حكيمًا في تدبيره وقضائه. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) والذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان بالله تعالى والتصديق برسالة رسوله محمد ... صلى الله عليه وسلم, واستقاموا على الطاعة, سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار, ينعمون فيها أبدًا ولا يخرجون منها, ولهم فيها أزواج طهرها الله مِن كل أذى, وندخلهم ظلا كثيفًا ممتدًا في الجنة. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) إن الله تعالى يأمركم بأداء مختلف الأمانات, التي اؤتمنتم عليها إلى أصحابها, فلا تفرطوا فيها, ويأمركم بالقضاء بين الناس بالعدل والقسط, إذا قضيتم بينهم, ونِعْمَ ما يعظكم الله به ويهديكم إليه. إن الله تعالى كان سميعًا لأقوالكم, مُطَّلعًا على سائر أعمالكم, بصيرًا بها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, استجيبوا لأوامر الله تعالى ولا تعصوه, واستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الحق, وأطيعوا ولاة أمركم في غير معصية الله, فإن اختلفتم في شيء بينكم, فأرجعوا الحكم فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, إن كنتم تؤمنون حق الإيمان بالله تعالى وبيوم الحساب. ذلك الردُّ إلى الكتاب والسنة خير لكم من التنازع والقول بالرأي، وأحسن عاقبة ومآلا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك المنان الذين يدَّعون الإيمان بما أُنزل إليك -وهو القرآن- وبما أُنزل إلى الرسل من قبلك, وهم يريدون أن يتحاكموا في فَصْل الخصومات بينهم إلى غير ما شرع الله من الباطل, وقد أُمروا أن يكفروا بالباطل؟ ويريد الشيطان أن يبعدهم عن طريق الحق, بعدًا شديدًا. وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان الصادق, يقتضي الانقياد لشرع الله, والحكم به في كل أمر من الأمور, فمن زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله, فهو كاذب في زعمه. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) وإذا نُصح هؤلاء, وقيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله, وإلى الرسول محمد ... صلى الله عليه وسلم, وهديه, أبصَرْتَ الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر, يعرضون عنك إعراضًا. فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) فكيف يكون حال أولئك المناففين, إذا حلَّت بهم مصيبة بسبب ما اقترفوه بأيديهم, ثم جاؤوك -أيها الرسول- يعتذرون, ويؤكدون لك أنهم ما قصدوا بأعمالهم تلك إلا الإحسان والتوفيق بين الخصوم. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) أولئك هم الذين يعلم الله حقيقة ما في قلوبهم من النفاق, فتولَّ عنهم, وحذِّرهم من سوء ما هم عليه, وقل لهم قولا مؤثرًا فيهم زاجرًا لهم. وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) وما بعَثْنَا من رسول من رسلنا, إلا ليستجاب له, بأمر الله تعالى وقضائه. ولو أن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم باقتراف السيئات, جاؤوك -أيها الرسول- في حياتك تائبين سائلين الله أن يغفر لهم ذنوبهم, واستغفرت لهم, لوجدوا الله توابًا رحيمًا. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أن هؤلاء لا يؤمنون حقيقة حتى يجعلوك حكمًا فيما وقع بينهم من نزاع في حياتك, ويتحاكموا إلى سنتك بعد مماتك, ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا مما انتهى إليه حكمك, وينقادوا مع ذلك انقيادًا تاماً, فالحكم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة في كل شأن من شؤون الحياة من صميم الإيمان مع الرضا والتسليم. وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68) ولو أوجبنا على هؤلاء المنان المتحاكمين إلى الطاغوت أن يقتل بعضهم بعضًا, أو أن يخرجوا من ديارهم, ما استجاب لذلك إلا عدد قليل منهم, ولو أنهم استجابوا لما يُنصحون به لكان ذلك نافعًا لهم, وأقوى لإيمانهم, ولأعطيناهم من عندنا ثوابًا عظيمًا في الدنيا والآخرة, ولأرشدناهم ووفقناهم إلى طريق الله القويم. وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69) ومن يستجب لأوامر الله تعالى وهدي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فأولئك الذين عَظُمَ شأنهم وقدرهم, فكانوا في صحبة مَن أنعم الله تعالى عليهم بالجنة من الأنبياء والصديقين الذين كمُل تصديقهم بما جاءت به الرسل، اعتقادًا وقولا وعملا والشهداء في سبيل الله وصالح المؤمنين, وحَسُنَ هؤلاء رفقاء في الجنة. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) ذلك العطاء الجزيل من الله وحده. وكفى بالله عليما يعلم أحوال عباده, ومَن يَستحقُّ منهم الثواب الجزيل بما قام به من الأعمال الصالحة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً (71) يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم بالاستعداد لعدوكم, فاخرجوا لملاقاته جماعة بعد جماعة أو مجتمعين. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وإنَّ منكم لنفرًا يتأخر عن الخروج لملاقاة الأعداء متثاقلا ويثبط غيره عن عمد وإصرار, فإن قُدِّر عليكم وأُصِبتم بقتل وهزيمة, قال مستبشرًا: قد حفظني الله, حين لم أكن حاضرًا مع أولئك الذين وقع لهم ما أكرهه لنفسي, وسرَّه تخلفه عنكم. وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) ولئن نالكم فضل من الله وغنيمة, ليقولن -حاسدًا متحسرًا, كأن لم تكن بينكم وبينه مودة في الظاهر- : يا ليتني كنت معهم فأظفر بما ظَفِروا به من النجاة والنصرة والغنيمة. فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) فليجاهد في سبيل نصرة دين الله, وإعلاء كلمته, الذين يبيعون الحياة الدنيا بالدار الآخرة وثوابها. ومن يجاهد في سبيل الله مخلصًا, فيُقْتَلْ أو يَغْلِبْ, فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا. وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) وما الذي يمنعكم -أيها المؤمنون- عن الجهاد في سبيل نصرة دين الله, ونصرة عباده المستضعفين من الرجال والنساء والصغار الذين اعتُدي عليهم, ولا حيلة لهم ولا وسيلة لديهم إلا الاستغاثة بربهم, يدعونه قائلين: ربنا أخرجنا من هذه القرية -يعني "مكة "- التي ظَلَم أهلها أنفسهم بالكفر والمؤمنين بالأذى, واجعل لنا من عندك وليّاً يتولى أمورنا, ونصيرًا ينصرنا على الظالمين. الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) الذين صدَقُوا في إيمانهم اعتقادًا وعملا يجاهدون في سبيل نصرة الحق وأهله, والذين كفروا يقاتلون في سبيل البغي والفساد في الأرض, فقاتلوا أيها المؤمنون أهل الكفر والشرك الذين يتولَّون الشيطان, ويطيعون أمره, إن تدبير الشيطان لأوليائه كان ضعيفًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك الذين قيل لهم قبل الإذن بالجهاد: امنعوا أيديكم عن قتال أعدائكم من المشركين, وعليكم أداء ما فرضه الله عليكم من الصلاة, والزكاة, فلما فرض عليهم القتال إذا جماعة منهم قد تغير حالهم, فأصبحوا يخافون الناس ويرهبونهم, كخوفهم من الله أو أشد, ويعلنون عما اعتراهم من شدة الخوف, فيقولون: ربنا لِمَ أَوْجَبْتَ علينا القتال؟ هلا أمهلتنا إلى وقت قريب, رغبة منهم في متاع الحياة الدنيا, قل لهم -أيها الرسول- : متاع الدنيا قليل, والآخرة وما فيها أعظم وأبقى لمن اتقى, فعمل بما أُمر به, واجتنب ما نُهي عنه., لا يظلم ربك أحدًا شيئًا, ولو كان مقدار الخيط الذي يكون في شق نَواة التمرة. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) أينما تكونوا يلحقكم الموت في أي مكان كنتم فيه عند حلول آجالكم, ولو كنتم في حصون منيعة بعيدة عن ساحة المعارك والقتال. وإن يحصل لهم ما يسرُّهم من متاع هذه الحياة, ينسبوا حصوله إلى الله تعالى, وإن وقع عليهم ما يكرهونه ينسبوه إلى الرسول محمد .. صلى الله عليه وسلم جهالة وتشاؤمًا, وما علموا أن ذلك كله من عند الله وحده, بقضائه وقدره, فما بالهم لا يقاربون فَهْمَ أيِّ حديث تحدثهم به. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) ما أصابك -أيها الإنسان- مِن خير ونعمة فهو من الله تعالى وحده, فضلا وإحسانًا, وما أصابك من جهد وشدة فبسبب عملك السيئ, وما اقترفته يداك من الخطايا والسيئات. وبعثناك -أيها الرسول- لعموم الناس رسولا تبلغهم رسالة ربك, وكفى بالله شهيدًا على صدق رسالتك. مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) من يستجب للرسول صلى الله عليه وسلم, ويعمل بهديه, فقد استجاب لله تعالى وامتثل أمره, ومن أعرض عن طاعة الله ورسوله فما بعثناك -أيها الرسول- على هؤلاء المعترضين رقيبًا تحفظ أعمالهم وتحاسبهم عليها, فحسابهم علينا. وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) ويُظْهر هؤلاء المعرضون, وهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم, طاعتهم للرسول وما جاء به, فإذا ابتعدوا عنه وانصرفوا عن مجلسه, دبَّر جماعة منهم ليلا غير ما أعلنوه من الطاعة, وما علموا أن الله يحصي عليهم ما يدبرون, وسيجازيهم عليه أتم الجزاء, فتول عنهم -أيها الرسول- ولا تبال بهم, فإنهم لن يضروك, وتوكل على الله, وحسبك به وليّاً وناصرًا. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) أفلا ينظر هؤلاء في القرآن, وما جاء به من الحق, نظر تأمل وتدبر, حيث جاء على نسق محكم يقطع بأنه من عند الله وحده؟ ولو كان مِن عند غيره لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا. وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) وإذا جاء هؤلاء الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم أمْرٌ يجب كتمانه متعلقًا بالأمن الذي يعود خيره على الإسلام والمسلمين, أو بالخوف الذي يلقي في قلوبهم عدم الاطمئنان, أفشوه وأذاعوا به في الناس, ولو ردَّ هؤلاء ما جاءهم إلى رسول الله... صلى الله عليه وسلم وإلى أهل العلم والفقه لَعَلِمَ حقيقة معناه أهل الاستنباط منهم. ولولا أنْ تَفَضَّلَ الله عليكم ورحمكم لاتبعتم الشيطان ووساوسه إلا قليلا منكم. فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84) فجاهد -أيها النبي- في سبيل الله لإعلاء كلمته, لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به, وحُضَّ المؤمنين على القتال والجهاد, ورغِّبهم فيه, لعل الله يمنع بك وبهم بأس الكافرين وشدتهم. والله تعالى أشد قوة وأعظم عقوبة للكافرين. مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) من يَسْعَ لحصول غيره على الخير يكن له بشفاعته نصيب من الثواب, ومن يَسْعَ لإيصال الشر إلى غيره يكن له نصيب من الوزر والإثم. وكان الله على كل شيء شاهدًا وحفيظًا. وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) وإذا سلَّم عليكم المسلم فردُّوا عليه بأفضل مما سلَّم لفظًا وبشاشةً, أو ردوا عليه بمثل ما سلَّم, ولكل ثوابه وجزاؤه. إن الله تعالى كان على كل شيء مجازيًا. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً (87) الله وحده المتفرد بالألوهية لجميع الخلق, ليجمعنكم يوم القيامة, الذي لا شك فيه, للحساب والجزاء. ولا أحد أصدق من الله حديثًا فيما أخبر به. فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) فما لكم -أيها المؤمنون- في شأن المنان إذ اختلفتم فرقتين: فرقة تقول بقتالهم وأخرى لا تقول بذلك؟ والله تعالى قد أوقعهم في الكفر والضلال بسبب سوء أعمالهم. أتودون هداية من صرف الله تعالى قلبه عن دينه؟ ومن خذله الله عن دينه, واتباع ما أمره به, فلا طريق له إلى الهدى. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (89) تمنَّى المنافقون لكم أيها المؤمنون, لو تنكرون حقيقة ما آمنت به قلوبكم, مثلما أنكروه بقلوبهم, فتكونون معهم في الإنكار سواء, فلا تتخذوا منهم أصفياء لكم, حتى يهاجروا في سبيل الله, برهانًا على صدق إيمانهم, فإن أعرضوا عما دعوا إليه, فخذوهم أينما كانوا واقتلوهم, ولا تتخذوا منهم وليّاً من دون الله ولا نصيرًا تستنصرونه به. إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) لكن الذين يتصلون بقوم بينكم وبينهم عهد وميثاق فلا تقاتلوهم, وكذلك الذين أتَوا إليكم وقد ضاقت صدورهم وكرهوا أن يقاتلوكم, كما كرهوا أن يقاتلوا قومهم, فلم يكونوا معكم ولا مع قومهم, فلا تقاتلوهم, ولو شاء الله تعالى لسلَّطهم عليكم, فلقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين, ولكن الله تعالى صرفهم عنكم بفضله وقدرته, فإن تركوكم فلم يقاتلوكم, وانقادوا اليكم مستسلمين, فليس لكم عليهم من طريق لقتالهم. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (91) ستجدون قومًا آخرين من المنان يودون الاطمئنان على أنفسهم من جانبكم, فيظهرون لكم الإيمان, ويودون الاطمئنان على أنفسهم من جانب قومهم الكافرين, فيظهرون لهم الكفر, كلما أعيدوا إلى موطن الكفر والكافرين, وقعوا في أسوأ حال. فهؤلاء إن لم ينصرفوا عنكم, ويقدموا إليكم الاستسلام التام, ويمنعوا أنفسهم عن قتالكم فخذوهم بقوة واقتلوهم أينما كانوا, وأولئك الذين بلغوا في هذا المسلك السيِّئ حدّاً يميزهم عمَّن عداهم, فهم الذين جعلنا لكم الحجة البينة على قتلهم وأسرهم. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) ولا يحق لمؤمن الاعتداء على أخيه المؤمن وقتله بغير حق, إلا أن يقع منه ذلك على وجه الخطأ الذي لا عمد فيه, ومن وقع منه ذلك الخطأ فعليه عتق رقبة مؤمنة, وتسليم دية مقدرة إلى أوليائه, إلا أن يتصدقوا بها عليه ويعفوا عنه. فإن كان المقتول من قوم كفار أعداء للمؤمنين, وهو مؤمن بالله تعالى, وبما أنزل من الحق على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, فعلى قاتله عتق رقبة مؤمنة, وإن كان من قوم بينكم وبينهم عهد وميثاق, فعلى قاتله دية تسلم إلى أوليائه وعتق رقبة مؤمنة, فمن لم يجد القدرة على عتق رقبة مؤمنة, فعليه صيام شهرين متتابعين; ليتوب الله تعالى عليه. وكان الله تعالى عليما بحقيقة شأن عباده, حكيمًا فيما شرعه لهم. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) ومن يَعْتَدِ على مؤمن فيقتله عن عمد بغير حق فعاقبته جهنم, خالدًا فيها مع سخط الله تعالى عليه وطَرْدِهِ من رحمته, إن جازاه على ذنبه وأعدَّ الله له أشد العذاب بسبب ما ارتكبه من هذه الجناية العظيمة. ولكنه سبحانه يعفو ويتفضل على أهل الإيمان فلا يجازيهم بالخلود في جهنم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا خرجتم في الأرض مجاهدين في سبيل الله فكونوا على بينة مما تأتون وتتركون, ولا تنفوا الإيمان عمن بدا منه شيء من علامات الإسلام ولم يقاتلكم; لاحتمال أن يكون مؤمنًا يخفي إيمانه, طالبين بذلك متاع الحياة الدنيا, والله تعالى عنده من الفضل والعطاء ما يغنيكم به, كذلك كنتم في بدء الإسلام تخفون إيمانكم عن قومكم من المشركين فمَنَّ الله عليكم, وأعزَّكم بالإيمان والقوة, فكونوا على بيِّنة ومعرفة في أموركم. إن الله تعالى عليم بكل أعمالكم, مطَّلع على دقائق أموركم, وسيجازيكم عليها. لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) لا يتساوى المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله -غير أصحاب الأعذار منهم- والمجاهدون في سبيل الله, بأموالهم وأنفسهم, فضَّل الله تعالى المجاهدين على القاعدين, ورفع منزلتهم درجة عالية في الجنة, وقد وعد الله كلا من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم والقاعدين من أهل الأعذار الجنة لِما بذلوا وضحَّوا في سبيل الحق, وفضَّل الله تعالى المجاهدين على القاعدين ثوابًا جزيلا. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) هذا الثواب الجزيل منازل عالية في الجنات من الله تعالى لخاصة عباده المجاهدين في سبيله, ومغفرة لذنوبهم ورحمة واسعة ينعمون فيها. وكان الله غفورًا لمن تاب إليه وأناب, رحيمًا بأهل طاعته, المجاهدين في سبيله. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إن الذين توفَّاهم الملائكة وقد ظلموا أنفسهم بقعودهم في دار الكفر وترك الهجرة, تقول لهم الملائكة توبيخًا لهم: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ فيقولون: كنا ضعفاء في أرضنا, عاجزين عن دفع الظلم والقهر عنا, فيقولون لهم توبيخا: ألم تكن أرض الله واسعة فتخرجوا من أرضكم إلى أرض أخرى بحيث تأمنون على دينكم؟ فأولئك مثواهم النار, وقبح هذا المرجع والمآب. إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) ويعذر من ذاك المصير العجزة من الرجال والنساء والصغار الذين لا يقدرون على دفع القهر والظلم عنهم, ولا يعرفون طريقًا يخلصهم مما هم فيه من المعاناة. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) فهؤلاء الضعفاء هم الذين يُرجى لهم من الله تعالى العفو; لعلمه تعالى بحقيقة أمرهم. وكان الله عفوًا غفورًا. وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) ومَن يخرج من أرض الشرك إلى أرض الإسلام فرارًا بدينه, راجيًا فضل ربه, قاصدًا نصرة دينه, يجد في الأرض مكانًا ومتحولا ينعم فيه بما يكون سببًا في قوته وذلة أعدائه, مع السعة في رزقه وعيشه, ومن يخرج من بيته قاصدًا نصرة دين الله ورسوله.. صلى الله عليه وسلم, وإعلاء كلمة الله, ثم يدركه الموت قبل بلوغه مقصده, فقد ثبت له جزاء عمله على الله, فضلا منه وإحسانًا. وكان الله غفورًا رحيمًا بعباده. وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً (101) وإذا سافرتم -أيها المؤمنون- في أرض الله, فلا حرج ولا إثم عليكم في قصر الصلاة إن خفتم من عدوان الكفار عليكم في حال صلاتكم, وكانت غالب أسفار المسلمين في بدء الإسلام مخوفة, والقصر رخصة في السفر حال الأمن أو الخوف. إن الكافرين مجاهرون لكم بعداوتهم, فاحذروهم. وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (102) وإذا كنت -أيها النبي- في ساحة القتال, فأردت أن تصلي بهم, فلتقم جماعة منهم معك للصلاة, وليأخذوا سلاحهم, فإذا سجد هؤلاء فلتكن الجماعة الأخرى من خلفكم في مواجهة عدوكم, وتتم الجماعة الأولى ركعتهم الثانية ويُسلِّمون, ثم تأتي الجماعة الأخرى التي لم تبدأ الصلاة فليأتموا بك في ركعتهم الأولى, ثم يكملوا بأنفسهم ركعتهم الثانية, وليحذروا مِن عدوهم وليأخذوا أسلحتهم. ودَّ الجاحدون لدين الله أن تغفُلوا عن سلاحكم وزادكم; ليحملوا عليكم حملة واحلة فيقضوا عليكم, ولا إثم عليكم حيننذ إن كان بكم أذى من مطر, أو كنتم في حال مرض, أن تتركوا أسلحتكم, مع أخذ الحذر. إن الله تعالى أعدَّ للجاحدين لدينه عذابًا يهينهم, ويخزيهم. فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً (103) فإذا أدَّيتم الصلاة, فأديموا ذكر الله في جميع أحوالكم, فإذا زال الخوف فأدُّوا الصلاة كاملة, ولا تفرِّطوا فيها فإنها واجبة في أوقات معلومة في الشرع. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) ولا تضعفوا في طلب عدوكم وقتاله, إن تكونوا تتألمون من القتال وآثاره, فأعداؤكم كذلك يتألمون منه أشد الألم, ومع ذلك لا يكفون عن قتالكم, فأنتم أولى بذلك منهم, لما ترجونه من الثواب والنصر والتأييد, وهم لا يرجون ذلك. وكان الله عليمًا بكل أحوالكم, حكيمًا في أمره وتدبيره. إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) إنا أنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن مشتملا على الحق; لتفصل بين الناس جميعًا بما أوحى الله إليك, وبَصَّرك به, فلا تكن للذين يخونون أنفسهم -بكتمان الحق- مدافعًا عنهم بما أيدوه لك من القول المخالف للحقيقة. وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) واطلب من الله تعالى المغفرة في جميع أحوالك, إن الله تعالى كان غفورًا لمن يرجو فضله ونوال مغفرته, رحيمًا به. وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) ولا تدافع عن الذين يخونون أنفسهم بمعصية الله. إن الله -سبحانه- لا يحب مَن عَظُمَتْ خيانته, وكثر ذنبه. يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) يستترون من الناس خوفًا من اطلاعهم على أعمالهم السيئة, ولا يستترون من الله تعالى ولا يستحيون منه, وهو عزَّ شأنه معهم بعلمه, مطلع عليهم حين يدبِّرون -ليلا- ما لا يرضى من القول, وكان الله -تعالى- محيطًا بجميع أقوالهم وأفعالهم, لا يخفى عليه منها شيء. هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) ها أنتم -أيها المؤمنون- قد حاججتم عن هؤلاء الخائنين لأنفسهم في هذه الحياة الدنيا, فمن يحاجج الله تعالى عنهم يوم البعث والحساب؟ ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة؟ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) ومن يُقْدِمْ على عمل سيِّئ قبيح, أو يظلم نفسه بارتكاب ما يخالف حكم الله وشرعه, ثم يرجع إلى الله نادمًا على ما عمل, راجيًا مغفرته وستر ذنبه, يجد الله تعالى غفورًا له, رحيمًا به. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) ومن يعمد إلى ارتكاب ذنب فإنما يضر بذلك نفسه وحدها, وكان الله تعالى عليمًا بحقيقة أمر عباده, حكيمًا فيما يقضي به بين خلقه. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) ومن يعمل خطيئة بغير عمد, أو يرتكب ذنبًا متعمدًا ثم يقذف بما ارتكبه نفسًا بريئة لا جناية لها, فقد تحمَّل كذبًا وذنبًا بيّنا. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) ولولا أن الله تعالى قد مَنَّ عليك -أيها الرسول- ورحمك بنعمة النبوة, فعصمك بتوفيقه بما أوحى إليك, لعزمت جماعة من الذين يخونون أنفسهم أن يُزِلُّوكَ عن طريق الحق, وما يُزِلُّونَ بذلك إلا أنفسهم, وما يقدرون على إيذائك لعصمة الله لك, وأنزل الله عليك القرآن والسنة المبينة له, وهداك إلى علم ما لم تكن تعلمه مِن قبل, وكان ما خصَّك الله به من فضلٍ أمرًا عظيمًا. لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) لا نفع في كثير من كلام الناس سرّاً فيما بينهم, إلا إذا كان حديثًا داعيًا إلى بذل المعروف من الصدقة, أو الكلمة الطيبة, أو التوفيق بين الناس, ومن يفعل تلك الأمور طلبًا لرضا الله تعالى راجيًا ثوابه, فسوف نؤتيه ثوابًا جزيلا واسعًا. وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (115) ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما ظهر له الحق, ويسلك طريقًا غير طريق المؤمنين, وما هم عليه من الحق, نتركه وما توجَّه إليه, فلا نوفقه للخير, وندخله نار جهنم يقاسي حرَّها, وبئس هذا المرجع والمآل. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به, ويغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من عباده. ومن يجعل لله تعالى الواحد الأحد شريكًا من خلقه, فقد بَعُدَ عن الحق بعدًا كبيرًا. إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) ما يعبد المشركون من دون الله تعالى إلا أوثانًا لا تنفع ولا تضر, وما يعبدون إلا شيطانًا متمردًا على الله, بلغ في الفساد والإفساد حدّاً كبيرًا. لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) طرده الله تعالى من رحمته. وقال الشيطان: لأتخذن مِن عبادك جزءًا معلومًا في إغوائهم قولا وعملا. وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) ولأصرفَنَّ مَن تبعني منهم عن الحق, ولأعِدَنَّهم بالأماني الكاذبة, ولأدعونَّهم إلى تقطيع آذان الأنعام وتشقيقها لما أزينه لهم من الباطل, ولأدعونَّهم إلى تغيير خلق الله في الفطرة, وهيئة ما عليه الخلق. ومن يستجب للشيطان ويتخذه ناصرًا له من دون الله القوي العزيز, فقد هلك هلاكًا بيِّنًا. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) يعد الشيطان أتباعه بالوعود الكاذبة, ويغريهم بالأماني الباطلة الخادعة, وما يَعِدهم إلا خديعة لا صحة لها, ولا دليل عليها. أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) أولئك مآلهم جهنم, ولا يجدون عنها معدلا ولا ملجأً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً (122) والذين صَدَقوا في إيمانهم بالله تعالى, وأتبعوا الإيمان بالأعمال الصالحة سيدخلهم الله -بفضله- جنات تجري من نحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدًا, وعدا من الله تعالى الذي لا يخلف وعده. ولا أحد أصدق من الله تعالى في قوله ووعده. لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) لا يُنال هذا الفضل العظيم بالأماني التي تتمنونها أيها المسلمون, ولا بأماني أهل الكتاب من اليهود والنصارى, وإنما يُنال بالإيمان الصادق بالله تعالى, وإحسان العمل الذي يرضيه. ومن يعمل عملا سيئًا يجز به, ولا يجد له سوى الله تعالى وليّاً يتولى أمره وشأنه, ولا نصيرًا ينصره, ويدفع عنه سوء العذاب. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) ومن يعمل من الأعمال الصالحة من ذكر أو أنثى, وهو مؤمن بالله تعالى وبما أنزل من الحق, فأولئك يدخلهم الله الجنة دار النعيم المقيم, ولا يُنْقَصون من ثواب أعمالهم شيئًا, ولو كان مقدار النقرة في ظهر النواة. وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) لا أحد أحسن دينًا ممن انقاد بقلبه وسائر جوارحه لله تعالى وحده, وهو محسن, واتبع دين إبراهيم وشرعه, مائلا عن العقائد الفاسدة والشرائع الباطلة. وقد اصطفى الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- واتخذه صفيّاً من بين سائر خلقه. وفي هذه الآية, إثبات صفة الخُلّة لله -تعالى- وهي أعلى مقامات المحبة, والاصطفاء. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) ولله جميع ما في هذا الكون من المخلوقات, فهي ملك له تعالى وحده. وكان الله تعالى بكل شيء محيطًا, لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127) يطلب الناس منك -أيها النبي- أن تبين لهم ما أشكل عليهم فَهْمُه من قضايا النساء وأحكامهن, قل الله تعالى يبيِّن لكم أمورهن, وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تعطونهن ما فرض الله تعالى لهن من المهر والميراث وغير ذلك من الحقوق, وتحبون نكاحهن أو ترغبون عن نكاحهن, ويبيِّن الله لكم أمر الضعفاء من الصغار, ووجوب القيام لليتامى بالعدل وترك الجور عليهم في حقوقهم. وما تفعلوا من خير فإن الله تعالى كان به عليمًا, لا يخفى عليه شيء منه ولا من غيره. وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وإن علمت امرأة من زوجها ترفعًا عنها, وتعاليًا عليها أو انصرافًا عنها فلا إثم عليهما أن يتصالحا على ما تطيب به نفوسهما من القسمة أو النفقة, والصلح أولى وأفضل. وجبلت النفوس على الشح والبخل. وإن تحسنوا معاملة زوجاتكم وتخافوا الله فيهن, فإن الله كان بما تعملون من ذلك وغيره عالمًا لا يخفى عليه شيء, وسيجازيكم على ذلك. وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) ولن تقدروا -أيها الرجال- على تحقيق العدل التام بين النساء في المحبة وميل القلب, مهما بذلتم في ذلك من الجهد, فلا تعرضوا عن المرغوب عنها كل الإعراض, فتتركوها كالمرأة التي ليست بذات زوج ولا هي مطلقة فتأثموا. وإن تصلحوا أعمالكم فتعدلوا في قَسْمكم بين زوجاتكم, وتراقبوا الله تعالى وتخشوه فيهن, فإن الله تعالى كان غفورًا لعباده, رحيمًا بهم. وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130) وإن وقعت الفرقة بين الرجل وامرأته, فإن الله تعالى يغني كلا منهما من فضله وسعته; فإنه سبحانه وتعالى واسع الفضل والمنة, حكيم فيما يقضي به بين عباده. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131) ولله ملك ما في السموات وما في الأرض وما بينهما. ولقد عهدنا إلى الذين أُعطوا الكتاب من قبلكم من اليهود والنصارى, وعهدنا إليكم كذلك -يا أمة محمد- بتقوى الله تعالى, والقيام بأمره واجتناب نهيه, وبيَّنَّا لكم أنكم إن تجحدوا وحدانية الله تعالى وشرعه فإنه سبحانه غني عنكم; لأن له جميع ما في السموات والأرض . وكان الله غنيّاً عن خلقه, حميدًا في صفاته وأفعاله. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) ولله ملك ما في هذا الكون من الكائنات, وكفى به سبحانه قائمًا بشؤون خلقه حافظًا لها. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً (133) إن يشأ الله يُهلكُّم أيها الناس, ويأت بقوم آخرين غيركم. وكان الله على ذلك قديرًا. مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) من يرغب منكم -أيها الناس- في ثواب الدنيا ويعرض عن الآخرة, فعند الله وحده ثواب الدنيا والآخرة, فليطلب من الله وحده خيري الدنيا والآخرة, فهو الذي يملكهما. وكان الله سميعًا لأقوال عباده, بصيرًا بأعمالهم ونياتهم, وسيجازيهم على ذلك. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, كونوا قائمين بالعدل, مؤدين للشهادة لوجه الله تعالى, ولو كانت على أنفسكم, أو على آبائكم وأمهاتكم, أو على أقاربكم, مهما كان شأن المشهود عليه غنيًّا أو رًا; فإن الله تعالى أولى بهما منكم, وأعلم بما فيه صلاحهما, فلا يحملنَّكم الهوى والتعصب على ترك العدل, وإن تحرفوا الشهادة بألسنتكم فتأتوا بها على غير حقيقتها, أو تعرضوا عنها بترك أدائها أو بكتمانها, فإن الله تعالى كان عليمًا بدقائق أعمالكم, وسيجازيكم بها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه داوموا على ما أنتم عليه من التصديق الجازم بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم, ومن طاعتهما, وبالقرآن الذي نزله عليه, وبجميع الكتب التي أنزلها الله على الرسل. ومن يكفر بالله تعالى, وملائكته المكرمين, وكتبه التي أنزلها لهداية خلقه, ورسله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته, واليوم الآخر الذي يقوم الناس فيه بعد موتهم للعرض والحساب, فقد خرج من الدين, وبَعُدَ بعدًا كبيرًا عن طريق الحق. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) إن الذين دخلوا في الإيمان, ثم رجعوا عنه إلى الكفر, ثم عادوا إلى الإيمان, ثم رجعوا إلى الكفر مرة أخرى, ثم أصرُّوا على كفرهم واستمروا عليه, لم يكن الله ليغفر لهم, ولا ليدلهم على طريق من طرق الهداية, التي ينجون بها من سوء العاقبة. بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) بشّر -أيها الرسول- المنان -وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر- بأن لهم عذابًا موجعًا. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) الذين يوالون الكافرين, ويتخذونهم أعوانًا لهم, ويتركون ولاية المؤمنين, ولا يرغبون في مودتهم. أيطلبون بذلك النصرة والمنعة عند الكافرين؟ إنهم لا يملكون ذلك, فالنصرة والعزة والقوة جميعها لله تعالى وحده. وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) وقد نزل عليكم -أيها المؤمنون- في كتاب ربكم أنه إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها فلا تجلسوا مع الكافرين والمستهزئين, إلا إذا أخذوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بآيات الله. إنكم إذا جالستموهم, وهم على ما هم عليه, فأنتم مثلهم; لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم, والراضي بالمعصية كالفاعل لها. إن الله تعالى جامع المنان والكافرين في نار جهنم جميعًا, يلْقَون فيها سوء العذاب. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) المنافقون هم الذين ينتظرون ما يحلُّ بكم -أيها المؤمنون- من الفتن والحرب, فإن منَّ الله عليكم بفضله, ونصركم على عدوكم وغنمتم, قالوا لكم: ألم نكن معكم نؤازركم؟ وإن كان للجاحدين لهذا الدين قَدْرٌ من النصر والغنيمة, قالوا لهم: ألم نساعدكم بما قدَّمناه لكم ونَحْمِكُم من المؤمنين؟ فالله تعالى يقضي بينكم وبينهم يوم القيامة, ولن يجعل الله للكافرين طريقًا للغلبة على عباده الصالحين, فالعاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة. إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) إنَّ طريقة هؤلاء المنان مخادعة الله تعالى, بما يظهرونه من الإيمان وما يبطنونه من الكفر, ظنًّا أنه يخفى على الله, والحال أن الله خادعهم ومجازيهم بمثل عملهم, وإذا قام هؤلاء المنافقون لأداء الصلاة, قاموا إليها في فتور, يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة, ولا يذكرون الله تعالى إلا ذكرًا قليلا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) إنَّ مِن شأن هؤلاء المنان التردد والحَيْرة والاضطراب, لا يستقرون على حال, فلا هم مع المؤمنين ولا هم مع الكافرين. ومن يصرف الله قلبه عن الإيمان به والاستمساك بهديه, فلن تجد له طريقًا إلى الهداية واليقين. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (144) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لا توالوا الجاحدين لدين الله, وتتركوا موالاة المؤمنين ومودتهم. أتريدون بمودَّة أعدائكم أن تجعلوا لله تعالى عليكم حجة ظاهرة على عدم صدقكم في إيمانكم؟ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إن المنان في أسفل منازل النار يوم القيامة, ولن تجد لهم -أيها الرسول- ناصرًا يدفع عنهم سوء هذا المصير. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) إلا الذين رجعوا إلى الله تعالى وتابوا إليه, وأصلحوا ما أفسدوا من أحوالهم باطنًا وظاهرًا, ووالوا عباده المؤمنين, واستمسكوا بدين الله, وأخلصوا له سبحانه, فأولئك مع المؤمنين في الدنيا والآخرة, وسوف يعطي الله المؤمنين ثوابًا عظيمًا. مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) ما يفعل الله بعذابكم إن أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله, فإن الله سبحانه غني عمَّن سواه, وإنما يعذب العباد بذنوبهم. وكان الله شاكرًا لعباده على طاعتهم له, عليمًا بكل شيء. لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) لا يُحِبُّ الله أن يَجهر أحدٌ بقول السوء, لكن يُباح للمظلوم أن يَذكُر ظالمه بما فيه من السوء; ِّن مَظْلمته. وكان الله سميعًا لما تجهرون به, عليمًا بما تخفون من ذلك. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (149) نَدَب الله تعالى إلى العفو, ومهَّد له بأنَّ المؤمن: إمَّا أن يُظهر الخير, وإمَّا أن يُخفيه, وكذلك مع الإساءة: إما أن يظهرها في حال الانتصاف من المسيء, وإما أن يعفو ويصفح, والعفوُ أفضلُ; فإن من صفاته تعالى العفو عن عباده مع قدرته عليهم. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) إن الذين يكفرون بالله ورسله من اليهود والنصارى, ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله بأن يؤمنوا بالله ويكذبوا رسله الذين أرسلهم إلى خلقه, أو يعترفوا بصدق بعض الرسل دون بعض, ويزعموا أنَّ بعضهم افتروا على ربِّهم, ويريدون أن يتخذوا طريقًا إلى الضلالة التي أحدثوها والبدعة التي ابتدعوها. أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (151) أولئك هم أهل الكفر المحقَّق الذي لا شك فيه, وأعتدنا للكافرين عذابًا يخزيهم ويهينهم. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) والذين صَدَّقوا بوحدانية الله, وأقرُّوا بنبوَّة رسله أجمعين, ولم يفرقوا بين أحد منهم, وعملوا بشريعة الله, أولئك سوف يعطيهم جزاءهم وثوابهم على إيمانهم به وبرسله. وكان الله غفورًا رحيمًا. يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً (153) يسألك اليهود -أيها الرسول- معجزة مثل معجزة موسى تشهد لك بالصدق: بأن تنزل عليهم صُحُفًا من الله مكتوبةً, مثل مجيء موسى بالألواح من عند الله, فلا تعجب -أيها الرسول- فقد سأل أسلافهم موسى -عليه السلام- ما هو أعظم: سألوه أن يريهم الله علانيةً, فَصُعِقوا بسبب ظلمهم أنفسهم حين سألوا أمرًا ليس من حقِّهم. وبعد أن أحياهم الله بعد الصعق, وشاهدوا الآيات البينات على يد موسى القاطعة بنفي الشرك, عبدوا العجل من دون الله, فعَفونا عن عبادتهم العجل بسبب توبتهم, وآتينا موسى حجة عظيمة تؤيِّد صِدق نُبُوَّتِه. وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (154) ورفعنا فوق رؤوسهم جبل الطور حين امتنعوا عن الالتزام بالعهد المؤكد الذي أعطوه بالعمل بأحكام التوراة, وأمرناهم أن يدخلوا باب "بيت المقدس" سُجَّدًا, فدخلوا يزحفون على أستاههم, وأمرناهم ألا يَعْتَدُوا بالصيد في يوم السبت فاعتدَوا, وصادوا, وأخذنا عليهم عهدًا مؤكدًا, فنقضوه. فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) فلعنَّاهم بسبب نقضهم للعهود, وكفرهم بآيات الله الدالة على صدق رسله, وقتلهم للأنبياء ظلمًا واعتداءً, وقولهم: قلوبنا عليها أغطية فلا تفقه ما تقول, بل طمس الله عليها بسبب كفرهم, فلا يؤمنون إلا إيمانًا قليلا لا ينفعهم. وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وكذلك لعنَّاهم بسبب كفرهم وافترائهم على مريم بما نسبوه إليها من الزنى, وهي بريئة منه. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) وبسبب قولهم -على سبيل التهكم والاستهزاء- : هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب (قتلناه), وما قتلوا عيسى وما صلبوه, بل صلبوا رجلا شبيهًا به ظنًّا منهم أنه عيسى. ومن ادَّعى قَتْلَهُ من اليهود, ومن أسلمه إليهم من النصارى, كلهم واقعون في شك وحَيْرَة, لا عِلْمَ لديهم إلا اتباع الظن, وما قتلوه متيقنين بل شاكين متوهمين. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) بل رفع الله عيسى إليه ببدنه وروحه حيًّا, وطهَّره من الذين كفروا. وكان الله عزيزًا في ملكه, حكيمًا في تدبيره وقضائه. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وإنه لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب بعد نزول عيسى آخر الزمان إلا آمن به قبل موته عليه السلام, ويوم القيامة يكون عيسى -عليه السلام- شهيدًا بتكذيب مَن كذَّبه, وتصديق مَن صدَّقه. فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) فبسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حَرَّم الله عليهم طيبات من المأكل كانت حلالا لهم, وبسبب صدِّهم أنفسهم وغيرهم عن دين الله القويم. وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (161) وبسبب تناولهم الربا الذي نهوا عنه, واستحلالهم أموال الناس بغير استحقاق, وأعتدنا للكافرين بالله ورسوله مِن هؤلاء اليهود عذابًا موجعًا في الآخرة. لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) لكنِ المتمكنون في العلم بأحكام الله من اليهود, والمؤمنون بالله ورسوله, يؤمنون بالذي أنزله الله إليك -أيها الرسول- وهو القرآن, وبالذي أنزل إلى الرسل من قبلك كالتوراة والإنجيل, ويؤدُّون الصلاة في أوقاتها, ويخرجون زكاة أموالهم, ويؤمنون بالله وبالبعث والجزاء, أولئك سيعطيهم الله ثوابًا عظيمًا, وهو الجنة. إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (163) إنا أوحينا اليك -أيها الرسول- بتبليغ الرسالة كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده, وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط -وهم الأنبياء الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة من ولد يعقوب- وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان. وآتينا داود زبورًا, وهو كتاب وصحف مكتوبة. وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك في القرآن من قبل هذه الآية, ورسلا لم نقصصهم عليك لحكمة أردناها. وكلم الله موسى تكليمًا؛ تشريفًا له بهذه الصفة. وفي هذه الآية الكريمة, إثبات صفة الكلام لله -تعالى- كما يليق بجلاله, وأنه سبحانه كلم نبيه موسى -عليه السلام- حقيقة بلا وساطة. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) أرسَلْتُ رسلا إلى خَلْقي مُبشِّرين بثوابي, ومنذرين بعقابي; لئلا يكون للبشر حجة يعتذرون بها بعد إرسال الرسل. وكان الله عزيزًا في ملكه, حكيمًا في تدبيره. لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إن يكفر بك اليهود وغيرهم -أيها الرسول- فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أَنْزَلَ عليه القرآن العظيم, أنزله بعلمه, وكذلك الملائكة يشهدون بصدق ما أوحي إليك, وشهادة الله وحدها كافية. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إن الذين جحدوا نُبُوَّتك, وصدوا الناس عن الإسلام, قد بَعُدوا عن طريق الحق بُعْدًا شديدًا. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إن الذين كفروا بالله وبرسوله, وظلموا باستمرارهم على الكفر, لم يكن الله ليغفر ذنوبهم, ولا ليدلهم على طريق ينجيهم. إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) إلا طريق جهنم ماكثين فيها أبدًا, وكان ذلك على الله يسيرًا, فلا يعجزه شيء. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أيها الناس قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام دين الحق من ربكم, فَصَدِّقوه واتبعوه, فإن الإيمان به خيرلكم, وإن تُصرُّوا على كفركم فإن الله غني عنكم وعن إيمانكم; لأنه مالك ما في السموات والأرض. وكان الله عليمًا بأقوالكم وأفعالكم, حكيمًا في تشريعه وأمره. فإذا كانت السموات والأرض قد خضعتا لله تعالى كونًا وقدرًا خضوع سائر ملكه, فأولى بكم أن تؤمنوا بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وبالقرآن الذي أنزله عليه, وأن تنقادوا لذلك شرعًا حتى يكون الكون كلُّه خاضعًا لله قدرًا وشرعًا. وفي الآية دليل على عموم رسالة نبي الله ورسوله محمد ... صلى الله عليه وسلم. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) يا أهل الإنجيل لا تتجاوزوا الاعتقاد الحق في دينكم, ولا تقولوا على الله إلا الحق, فلا تجعلوا له صاحبةً ولا ولدًا. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله أرسله الله بالحق, وخَلَقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم, وهي قوله: "كن", فكان, وهي نفخة من الله تعالى نفخها جبريل بأمر ربه, فَصدِّقوا بأن الله واحد وأسلموا له, وصدِّقوا رسله فيما جاؤوكم به من عند الله واعملوا به, ولا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين. انتهوا عن هذه المقالة خيرًا لكم مما أنتم عليه, إنما الله إله واحد سبحانه. ما في السموات والأرض مُلْكُه, فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد؟ وكفى بالله وكيلا على تدبير خلقه وتصريف معاشهم, فتوكَّلوا عليه وحده فهو كافيكم. لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) لن يَأْنف ولن يمتنع المسيح أن يكون عبدًا لله, وكذلك لن يأنَفَ الملائكة المُقَرَّبون من الإقرار بالعبودية لله تعالى. ومن يأنف عن الانقياد والخضوع ويستكبر فسيحشرهم كلهم إليه يوم القيامة, ويفصلُ بينهم بحكمه العادل, ويجازي كلا بما يستحق. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (173) فأمَّا الذين صَدَّقوا بالله اعتقادًا وقولا وعملا واستقاموا على شريعته فيوفيهم ثواب أعمالهم, ويزيدُهم من فضله, وأما الذين امتنعوا عن طاعة الله, واستكبروا عن التذلل له فيعذبهم عذابًا موجعًا, ولا يجدون لهم وليًّا ينجيهم من عذابه, ولا ناصرًا ينصرهم من دون الله. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم, وهو رسولنا محمد, وما جاء به من البينات والحجج القاطعة, وأعظمها القرآن الكريم, مما يشهد بصدق نبوته ورسالته الخاتمة, وأنزلنا إليكم القرآن هدًى ونورًا مبينًا. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (175) فأمَّا الذين صدَّقوا بالله اعتقادًا وقولا وعملا واستمسكوا بالنور الذي أُنزل إليهم, فسيدخلهم الجنة رحمة منه وفضلا ويوفقهم إلى سلوك الطريق المستقيم المفضي إلى روضات الجنات. يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) يسألونك -أيها الرسول- عن حكم ميراث الكلالة, وهو من مات وليس له ولدٌ ولا والد, قل: الله يُبيِّن لكم الحكم فيها: إن مات امرؤ ليس له ولد ولا والد, وله أخت لأبيه وأمه, أو لأبيه فقط, فلها نصف تركته, ويرث أخوها شقيقًا كان أو لأب جميع مالها إذا ماتت وليس لها ولد ولا والد. فإن كان لمن مات كلالةً أختان فلهما الثلثان مما ترك. وإذا اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم مع الإناث فللذكر مثل نصيب الأنثيين من أخواته. يُبيِّن الله لكم قسمة المواريث وحكم الكلالة, لئلا تضلوا عن الحقِّ في أمر المواريث. والله عالم بعواقب الأمور, وما فيها من الخير لعباده. تم بحمدالله تفسير سورة النساء .. |
|
|
11-23-2011, 02:41 AM | #15 | |
مشرف قسم
|
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) يا أيها الذين صدَّقوا بالله ورسوله وعملوا بشرعه, لا تقربوا الصلاة ولا تقوموا إليها حال السكر حتى تميزوا وتعلموا ما تقولون, وقد كان هذا قبل التحريم القاطع للخمر في كل حال, ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة, ولا تقربوا مواضعها وهي المساجد, إلا من كان منكم مجتازًا من باب إلى باب, حتى تتطهروا. وإن كنتم في حال مرض لا تقدرون معه على استعمال الماء, أو حال سفر, أو جاء أحد منكم من الغائط, أو جامعتم النساء, فلم تجدوا ماء للطهارة فاقصدوا ترابًا طاهرًا, فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. إن الله تعالى كان عفوًّا عنكم, غفورًا لكم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) ألم تعلم -أيها الرسول- أمر اليهود الذين أُعطوا حظًّا من العلم مما جاءهم من التوراة, يستبدلون الضلالة بالهدى, ويتركون ما لديهم من الحجج والبراهين, الدالة على صدق رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم, ويتمنون لكم -أيها المؤمنون المهتدون- أن تنحرفوا عن الطريق المستقيم; لتكونوا ضالين مثلهم. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) والله سبحانه وتعالى أعلم منكم -أيها المؤمنون- بعداوة هؤلاء اليهود لكم, وكفى بالله وليًّا يتولاكم, وكفى به نصيرًا ينصركم على أعدائكم. مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) من اليهود فريق دأبوا على تبديل كلام الله وتغييره عمَّا هو عليه افتراء على الله, ويقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: سمعنا قولك وعصينا أمرك واسمع منَّا لا سمعت, ويقولون: راعنا سمعك أي: افهم عنا وأفهمنا, يلوون ألسنتهم بذلك, وهم يريدون الدعاء عليه بالرعونة حسب لغتهم, والطعن في دين الإسلام. ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا, بدل و"عصينا", واسمع دون "غير مسمع", وانظرنا بدل "راعنا" لكان ذلك خيرًا لهم عند الله وأعدل قولا ولكن الله طردهم من رحمته; بسبب كفرهم وجحودهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, فلا يصدقون بالحق إلا تصديقًا قليلا لا ينفعهم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) يا أهل الكتاب, صدِّقوا واعملوا بما نزَّلنا من القرآن, مصدقًا لما معكم من الكتب من قبل أن نأخذكم بسوء صنيعكم, فنمحو الوجوه ونحولها قِبَلَ الظهور, أو نلعن هؤلاء المفسدين بمسخهم قردة وخنازير, كما لعنَّا اليهود مِن أصحاب السبت, الذين نُهوا عن الصيد فيه فلم ينتهوا, فغضب الله عليهم, وطردهم من رحمته, وكان أمر الله نافذًا في كل حال. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) إن الله تعالى لا يغفر ولا يتجاوز عمَّن أشرك به أحدًا من مخلوقاته, أو كفر بأي نوع من أنواع الكفر الأكبر, ويتجاوز ويعفو عمَّا دون الشرك من الذنوب, لمن يشاء من عباده, ومن يشرك بالله غيره فقد اختلق ذنبًا عظيمًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك الذين يُثنون على أنفسهم وأعمالهم, ويصفونها بالطهر والبعد عن السوء؟ بل الله تعالى وحده هو الذي يثني على مَن يشاء مِن عباده, لعلمه بحقيقة أعمالهم, ولا يُنقَصون من أعمالهم شيئًا مقدار الخيط الذي يكون في شق نَواة التمرة. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) انظر إليهم -أيها الرسول- متعجبًا من أمرهم, كيف يختلقون على الله الكذب, وهو المنزَّه عن كل ما لا يليق به؟ وكفى بهذا الاختلاق ذنبًا كبيرًا كاشفًا عن فساد معتقدهم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك اليهود الذين أُعطوا حظًّا من العلم يصدقون بكل ما يُعبد من دون الله من الأصنام وشياطين الإنس والجن تصديقا يحملهم على التحاكم إلى غير شرع الله, ويقولون للذين كفروا بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الكافرون أقْومُ, وأعدلُ طريقًا من أولئك الذين آمنوا؟ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أولئك الذين كَثُرَ فسادهم وعمَّ ضلالهم, طردهم الله نعالى من رحمته, ومَن يطرده الله من رحمته فلن تجد له من ينصره, ويدفع عنه سوء العذاب. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) بل ألهم حظ من الملك, ولو أوتوه لما أعطوا أحدًا منه شيئًا, ولو كان مقدار النقرة التي تكون في ظهر النَّواة. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) بل أيحسدون محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما أعطاه الله من نعمة النبوة والرسالة, ويحسدون أصحابه على نعمة التوفيق إلى الإيمان, والتصديق بالرسالة, واتباع الرسول, والتمكين في الأرض, ويتمنون زوال هذا الفضل عنهم؟ فقد أعطينا ذرية إبراهيم عليه السلام -من قَبْلُ- الكتب, التي أنزلها الله عليهم وما أوحي إليهم مما لم يكن كتابا مقروءا, وأعطيناهم مع ذلك ملكا واسعا. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) فمن هؤلاء الذين أوتوا حظًّا من العلم, مَن صدَّق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم, وعمل بشرعه, ومنهم مَن أعرض ولم يستجب لدعوته, ومنع الناس من اتباعه. وحسبكم -أيها المكذبون- نار جهنم تسعَّر بكم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) إن الذين جحدوا ما أنزل الله من آياته ووحي كتابه ودلائله وحججه, سوف ندخلهم نارًا يقاسون حرَّها, كلما احترقت جلودهم بدَّلْناهم جلودًا أخرى; ليستمر عذابهم وألمهم. إن الله تعالى كان عزيزًا لا يمتنع عليه شيء, حكيمًا في تدبيره وقضائه. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) والذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان بالله تعالى والتصديق برسالة رسوله محمد ... صلى الله عليه وسلم, واستقاموا على الطاعة, سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار, ينعمون فيها أبدًا ولا يخرجون منها, ولهم فيها أزواج طهرها الله مِن كل أذى, وندخلهم ظلا كثيفًا ممتدًا في الجنة. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) إن الله تعالى يأمركم بأداء مختلف الأمانات, التي اؤتمنتم عليها إلى أصحابها, فلا تفرطوا فيها, ويأمركم بالقضاء بين الناس بالعدل والقسط, إذا قضيتم بينهم, ونِعْمَ ما يعظكم الله به ويهديكم إليه. إن الله تعالى كان سميعًا لأقوالكم, مُطَّلعًا على سائر أعمالكم, بصيرًا بها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, استجيبوا لأوامر الله تعالى ولا تعصوه, واستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الحق, وأطيعوا ولاة أمركم في غير معصية الله, فإن اختلفتم في شيء بينكم, فأرجعوا الحكم فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, إن كنتم تؤمنون حق الإيمان بالله تعالى وبيوم الحساب. ذلك الردُّ إلى الكتاب والسنة خير لكم من التنازع والقول بالرأي، وأحسن عاقبة ومآلا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك المنان الذين يدَّعون الإيمان بما أُنزل إليك -وهو القرآن- وبما أُنزل إلى الرسل من قبلك, وهم يريدون أن يتحاكموا في فَصْل الخصومات بينهم إلى غير ما شرع الله من الباطل, وقد أُمروا أن يكفروا بالباطل؟ ويريد الشيطان أن يبعدهم عن طريق الحق, بعدًا شديدًا. وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان الصادق, يقتضي الانقياد لشرع الله, والحكم به في كل أمر من الأمور, فمن زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله, فهو كاذب في زعمه. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) وإذا نُصح هؤلاء, وقيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله, وإلى الرسول محمد ... صلى الله عليه وسلم, وهديه, أبصَرْتَ الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر, يعرضون عنك إعراضًا. فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) فكيف يكون حال أولئك المناففين, إذا حلَّت بهم مصيبة بسبب ما اقترفوه بأيديهم, ثم جاؤوك -أيها الرسول- يعتذرون, ويؤكدون لك أنهم ما قصدوا بأعمالهم تلك إلا الإحسان والتوفيق بين الخصوم. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) أولئك هم الذين يعلم الله حقيقة ما في قلوبهم من النفاق, فتولَّ عنهم, وحذِّرهم من سوء ما هم عليه, وقل لهم قولا مؤثرًا فيهم زاجرًا لهم. وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) وما بعَثْنَا من رسول من رسلنا, إلا ليستجاب له, بأمر الله تعالى وقضائه. ولو أن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم باقتراف السيئات, جاؤوك -أيها الرسول- في حياتك تائبين سائلين الله أن يغفر لهم ذنوبهم, واستغفرت لهم, لوجدوا الله توابًا رحيمًا. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أن هؤلاء لا يؤمنون حقيقة حتى يجعلوك حكمًا فيما وقع بينهم من نزاع في حياتك, ويتحاكموا إلى سنتك بعد مماتك, ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا مما انتهى إليه حكمك, وينقادوا مع ذلك انقيادًا تاماً, فالحكم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة في كل شأن من شؤون الحياة من صميم الإيمان مع الرضا والتسليم. وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68) ولو أوجبنا على هؤلاء المنان المتحاكمين إلى الطاغوت أن يقتل بعضهم بعضًا, أو أن يخرجوا من ديارهم, ما استجاب لذلك إلا عدد قليل منهم, ولو أنهم استجابوا لما يُنصحون به لكان ذلك نافعًا لهم, وأقوى لإيمانهم, ولأعطيناهم من عندنا ثوابًا عظيمًا في الدنيا والآخرة, ولأرشدناهم ووفقناهم إلى طريق الله القويم. وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69) ومن يستجب لأوامر الله تعالى وهدي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فأولئك الذين عَظُمَ شأنهم وقدرهم, فكانوا في صحبة مَن أنعم الله تعالى عليهم بالجنة من الأنبياء والصديقين الذين كمُل تصديقهم بما جاءت به الرسل، اعتقادًا وقولا وعملا والشهداء في سبيل الله وصالح المؤمنين, وحَسُنَ هؤلاء رفقاء في الجنة. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) ذلك العطاء الجزيل من الله وحده. وكفى بالله عليما يعلم أحوال عباده, ومَن يَستحقُّ منهم الثواب الجزيل بما قام به من الأعمال الصالحة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً (71) يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم بالاستعداد لعدوكم, فاخرجوا لملاقاته جماعة بعد جماعة أو مجتمعين. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وإنَّ منكم لنفرًا يتأخر عن الخروج لملاقاة الأعداء متثاقلا ويثبط غيره عن عمد وإصرار, فإن قُدِّر عليكم وأُصِبتم بقتل وهزيمة, قال مستبشرًا: قد حفظني الله, حين لم أكن حاضرًا مع أولئك الذين وقع لهم ما أكرهه لنفسي, وسرَّه تخلفه عنكم. وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) ولئن نالكم فضل من الله وغنيمة, ليقولن -حاسدًا متحسرًا, كأن لم تكن بينكم وبينه مودة في الظاهر- : يا ليتني كنت معهم فأظفر بما ظَفِروا به من النجاة والنصرة والغنيمة. فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) فليجاهد في سبيل نصرة دين الله, وإعلاء كلمته, الذين يبيعون الحياة الدنيا بالدار الآخرة وثوابها. ومن يجاهد في سبيل الله مخلصًا, فيُقْتَلْ أو يَغْلِبْ, فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا. وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) وما الذي يمنعكم -أيها المؤمنون- عن الجهاد في سبيل نصرة دين الله, ونصرة عباده المستضعفين من الرجال والنساء والصغار الذين اعتُدي عليهم, ولا حيلة لهم ولا وسيلة لديهم إلا الاستغاثة بربهم, يدعونه قائلين: ربنا أخرجنا من هذه القرية -يعني "مكة "- التي ظَلَم أهلها أنفسهم بالكفر والمؤمنين بالأذى, واجعل لنا من عندك وليّاً يتولى أمورنا, ونصيرًا ينصرنا على الظالمين. الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) الذين صدَقُوا في إيمانهم اعتقادًا وعملا يجاهدون في سبيل نصرة الحق وأهله, والذين كفروا يقاتلون في سبيل البغي والفساد في الأرض, فقاتلوا أيها المؤمنون أهل الكفر والشرك الذين يتولَّون الشيطان, ويطيعون أمره, إن تدبير الشيطان لأوليائه كان ضعيفًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك الذين قيل لهم قبل الإذن بالجهاد: امنعوا أيديكم عن قتال أعدائكم من المشركين, وعليكم أداء ما فرضه الله عليكم من الصلاة, والزكاة, فلما فرض عليهم القتال إذا جماعة منهم قد تغير حالهم, فأصبحوا يخافون الناس ويرهبونهم, كخوفهم من الله أو أشد, ويعلنون عما اعتراهم من شدة الخوف, فيقولون: ربنا لِمَ أَوْجَبْتَ علينا القتال؟ هلا أمهلتنا إلى وقت قريب, رغبة منهم في متاع الحياة الدنيا, قل لهم -أيها الرسول- : متاع الدنيا قليل, والآخرة وما فيها أعظم وأبقى لمن اتقى, فعمل بما أُمر به, واجتنب ما نُهي عنه., لا يظلم ربك أحدًا شيئًا, ولو كان مقدار الخيط الذي يكون في شق نَواة التمرة. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) أينما تكونوا يلحقكم الموت في أي مكان كنتم فيه عند حلول آجالكم, ولو كنتم في حصون منيعة بعيدة عن ساحة المعارك والقتال. وإن يحصل لهم ما يسرُّهم من متاع هذه الحياة, ينسبوا حصوله إلى الله تعالى, وإن وقع عليهم ما يكرهونه ينسبوه إلى الرسول محمد .. صلى الله عليه وسلم جهالة وتشاؤمًا, وما علموا أن ذلك كله من عند الله وحده, بقضائه وقدره, فما بالهم لا يقاربون فَهْمَ أيِّ حديث تحدثهم به. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) ما أصابك -أيها الإنسان- مِن خير ونعمة فهو من الله تعالى وحده, فضلا وإحسانًا, وما أصابك من جهد وشدة فبسبب عملك السيئ, وما اقترفته يداك من الخطايا والسيئات. وبعثناك -أيها الرسول- لعموم الناس رسولا تبلغهم رسالة ربك, وكفى بالله شهيدًا على صدق رسالتك. مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) من يستجب للرسول صلى الله عليه وسلم, ويعمل بهديه, فقد استجاب لله تعالى وامتثل أمره, ومن أعرض عن طاعة الله ورسوله فما بعثناك -أيها الرسول- على هؤلاء المعترضين رقيبًا تحفظ أعمالهم وتحاسبهم عليها, فحسابهم علينا. وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) ويُظْهر هؤلاء المعرضون, وهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم, طاعتهم للرسول وما جاء به, فإذا ابتعدوا عنه وانصرفوا عن مجلسه, دبَّر جماعة منهم ليلا غير ما أعلنوه من الطاعة, وما علموا أن الله يحصي عليهم ما يدبرون, وسيجازيهم عليه أتم الجزاء, فتول عنهم -أيها الرسول- ولا تبال بهم, فإنهم لن يضروك, وتوكل على الله, وحسبك به وليّاً وناصرًا. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) أفلا ينظر هؤلاء في القرآن, وما جاء به من الحق, نظر تأمل وتدبر, حيث جاء على نسق محكم يقطع بأنه من عند الله وحده؟ ولو كان مِن عند غيره لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا. وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) وإذا جاء هؤلاء الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم أمْرٌ يجب كتمانه متعلقًا بالأمن الذي يعود خيره على الإسلام والمسلمين, أو بالخوف الذي يلقي في قلوبهم عدم الاطمئنان, أفشوه وأذاعوا به في الناس, ولو ردَّ هؤلاء ما جاءهم إلى رسول الله... صلى الله عليه وسلم وإلى أهل العلم والفقه لَعَلِمَ حقيقة معناه أهل الاستنباط منهم. ولولا أنْ تَفَضَّلَ الله عليكم ورحمكم لاتبعتم الشيطان ووساوسه إلا قليلا منكم. فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84) فجاهد -أيها النبي- في سبيل الله لإعلاء كلمته, لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به, وحُضَّ المؤمنين على القتال والجهاد, ورغِّبهم فيه, لعل الله يمنع بك وبهم بأس الكافرين وشدتهم. والله تعالى أشد قوة وأعظم عقوبة للكافرين. مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) من يَسْعَ لحصول غيره على الخير يكن له بشفاعته نصيب من الثواب, ومن يَسْعَ لإيصال الشر إلى غيره يكن له نصيب من الوزر والإثم. وكان الله على كل شيء شاهدًا وحفيظًا. وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) وإذا سلَّم عليكم المسلم فردُّوا عليه بأفضل مما سلَّم لفظًا وبشاشةً, أو ردوا عليه بمثل ما سلَّم, ولكل ثوابه وجزاؤه. إن الله تعالى كان على كل شيء مجازيًا. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً (87) الله وحده المتفرد بالألوهية لجميع الخلق, ليجمعنكم يوم القيامة, الذي لا شك فيه, للحساب والجزاء. ولا أحد أصدق من الله حديثًا فيما أخبر به. فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) فما لكم -أيها المؤمنون- في شأن المنان إذ اختلفتم فرقتين: فرقة تقول بقتالهم وأخرى لا تقول بذلك؟ والله تعالى قد أوقعهم في الكفر والضلال بسبب سوء أعمالهم. أتودون هداية من صرف الله تعالى قلبه عن دينه؟ ومن خذله الله عن دينه, واتباع ما أمره به, فلا طريق له إلى الهدى. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (89) تمنَّى المنافقون لكم أيها المؤمنون, لو تنكرون حقيقة ما آمنت به قلوبكم, مثلما أنكروه بقلوبهم, فتكونون معهم في الإنكار سواء, فلا تتخذوا منهم أصفياء لكم, حتى يهاجروا في سبيل الله, برهانًا على صدق إيمانهم, فإن أعرضوا عما دعوا إليه, فخذوهم أينما كانوا واقتلوهم, ولا تتخذوا منهم وليّاً من دون الله ولا نصيرًا تستنصرونه به. إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) لكن الذين يتصلون بقوم بينكم وبينهم عهد وميثاق فلا تقاتلوهم, وكذلك الذين أتَوا إليكم وقد ضاقت صدورهم وكرهوا أن يقاتلوكم, كما كرهوا أن يقاتلوا قومهم, فلم يكونوا معكم ولا مع قومهم, فلا تقاتلوهم, ولو شاء الله تعالى لسلَّطهم عليكم, فلقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين, ولكن الله تعالى صرفهم عنكم بفضله وقدرته, فإن تركوكم فلم يقاتلوكم, وانقادوا اليكم مستسلمين, فليس لكم عليهم من طريق لقتالهم. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (91) ستجدون قومًا آخرين من المنان يودون الاطمئنان على أنفسهم من جانبكم, فيظهرون لكم الإيمان, ويودون الاطمئنان على أنفسهم من جانب قومهم الكافرين, فيظهرون لهم الكفر, كلما أعيدوا إلى موطن الكفر والكافرين, وقعوا في أسوأ حال. فهؤلاء إن لم ينصرفوا عنكم, ويقدموا إليكم الاستسلام التام, ويمنعوا أنفسهم عن قتالكم فخذوهم بقوة واقتلوهم أينما كانوا, وأولئك الذين بلغوا في هذا المسلك السيِّئ حدّاً يميزهم عمَّن عداهم, فهم الذين جعلنا لكم الحجة البينة على قتلهم وأسرهم. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) ولا يحق لمؤمن الاعتداء على أخيه المؤمن وقتله بغير حق, إلا أن يقع منه ذلك على وجه الخطأ الذي لا عمد فيه, ومن وقع منه ذلك الخطأ فعليه عتق رقبة مؤمنة, وتسليم دية مقدرة إلى أوليائه, إلا أن يتصدقوا بها عليه ويعفوا عنه. فإن كان المقتول من قوم كفار أعداء للمؤمنين, وهو مؤمن بالله تعالى, وبما أنزل من الحق على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, فعلى قاتله عتق رقبة مؤمنة, وإن كان من قوم بينكم وبينهم عهد وميثاق, فعلى قاتله دية تسلم إلى أوليائه وعتق رقبة مؤمنة, فمن لم يجد القدرة على عتق رقبة مؤمنة, فعليه صيام شهرين متتابعين; ليتوب الله تعالى عليه. وكان الله تعالى عليما بحقيقة شأن عباده, حكيمًا فيما شرعه لهم. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) ومن يَعْتَدِ على مؤمن فيقتله عن عمد بغير حق فعاقبته جهنم, خالدًا فيها مع سخط الله تعالى عليه وطَرْدِهِ من رحمته, إن جازاه على ذنبه وأعدَّ الله له أشد العذاب بسبب ما ارتكبه من هذه الجناية العظيمة. ولكنه سبحانه يعفو ويتفضل على أهل الإيمان فلا يجازيهم بالخلود في جهنم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا خرجتم في الأرض مجاهدين في سبيل الله فكونوا على بينة مما تأتون وتتركون, ولا تنفوا الإيمان عمن بدا منه شيء من علامات الإسلام ولم يقاتلكم; لاحتمال أن يكون مؤمنًا يخفي إيمانه, طالبين بذلك متاع الحياة الدنيا, والله تعالى عنده من الفضل والعطاء ما يغنيكم به, كذلك كنتم في بدء الإسلام تخفون إيمانكم عن قومكم من المشركين فمَنَّ الله عليكم, وأعزَّكم بالإيمان والقوة, فكونوا على بيِّنة ومعرفة في أموركم. إن الله تعالى عليم بكل أعمالكم, مطَّلع على دقائق أموركم, وسيجازيكم عليها. لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) لا يتساوى المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله -غير أصحاب الأعذار منهم- والمجاهدون في سبيل الله, بأموالهم وأنفسهم, فضَّل الله تعالى المجاهدين على القاعدين, ورفع منزلتهم درجة عالية في الجنة, وقد وعد الله كلا من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم والقاعدين من أهل الأعذار الجنة لِما بذلوا وضحَّوا في سبيل الحق, وفضَّل الله تعالى المجاهدين على القاعدين ثوابًا جزيلا. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) هذا الثواب الجزيل منازل عالية في الجنات من الله تعالى لخاصة عباده المجاهدين في سبيله, ومغفرة لذنوبهم ورحمة واسعة ينعمون فيها. وكان الله غفورًا لمن تاب إليه وأناب, رحيمًا بأهل طاعته, المجاهدين في سبيله. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إن الذين توفَّاهم الملائكة وقد ظلموا أنفسهم بقعودهم في دار الكفر وترك الهجرة, تقول لهم الملائكة توبيخًا لهم: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ فيقولون: كنا ضعفاء في أرضنا, عاجزين عن دفع الظلم والقهر عنا, فيقولون لهم توبيخا: ألم تكن أرض الله واسعة فتخرجوا من أرضكم إلى أرض أخرى بحيث تأمنون على دينكم؟ فأولئك مثواهم النار, وقبح هذا المرجع والمآب. إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) ويعذر من ذاك المصير العجزة من الرجال والنساء والصغار الذين لا يقدرون على دفع القهر والظلم عنهم, ولا يعرفون طريقًا يخلصهم مما هم فيه من المعاناة. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) فهؤلاء الضعفاء هم الذين يُرجى لهم من الله تعالى العفو; لعلمه تعالى بحقيقة أمرهم. وكان الله عفوًا غفورًا. وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) ومَن يخرج من أرض الشرك إلى أرض الإسلام فرارًا بدينه, راجيًا فضل ربه, قاصدًا نصرة دينه, يجد في الأرض مكانًا ومتحولا ينعم فيه بما يكون سببًا في قوته وذلة أعدائه, مع السعة في رزقه وعيشه, ومن يخرج من بيته قاصدًا نصرة دين الله ورسوله.. صلى الله عليه وسلم, وإعلاء كلمة الله, ثم يدركه الموت قبل بلوغه مقصده, فقد ثبت له جزاء عمله على الله, فضلا منه وإحسانًا. وكان الله غفورًا رحيمًا بعباده. وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً (101) وإذا سافرتم -أيها المؤمنون- في أرض الله, فلا حرج ولا إثم عليكم في قصر الصلاة إن خفتم من عدوان الكفار عليكم في حال صلاتكم, وكانت غالب أسفار المسلمين في بدء الإسلام مخوفة, والقصر رخصة في السفر حال الأمن أو الخوف. إن الكافرين مجاهرون لكم بعداوتهم, فاحذروهم. وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (102) وإذا كنت -أيها النبي- في ساحة القتال, فأردت أن تصلي بهم, فلتقم جماعة منهم معك للصلاة, وليأخذوا سلاحهم, فإذا سجد هؤلاء فلتكن الجماعة الأخرى من خلفكم في مواجهة عدوكم, وتتم الجماعة الأولى ركعتهم الثانية ويُسلِّمون, ثم تأتي الجماعة الأخرى التي لم تبدأ الصلاة فليأتموا بك في ركعتهم الأولى, ثم يكملوا بأنفسهم ركعتهم الثانية, وليحذروا مِن عدوهم وليأخذوا أسلحتهم. ودَّ الجاحدون لدين الله أن تغفُلوا عن سلاحكم وزادكم; ليحملوا عليكم حملة واحلة فيقضوا عليكم, ولا إثم عليكم حيننذ إن كان بكم أذى من مطر, أو كنتم في حال مرض, أن تتركوا أسلحتكم, مع أخذ الحذر. إن الله تعالى أعدَّ للجاحدين لدينه عذابًا يهينهم, ويخزيهم. فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً (103) فإذا أدَّيتم الصلاة, فأديموا ذكر الله في جميع أحوالكم, فإذا زال الخوف فأدُّوا الصلاة كاملة, ولا تفرِّطوا فيها فإنها واجبة في أوقات معلومة في الشرع. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) ولا تضعفوا في طلب عدوكم وقتاله, إن تكونوا تتألمون من القتال وآثاره, فأعداؤكم كذلك يتألمون منه أشد الألم, ومع ذلك لا يكفون عن قتالكم, فأنتم أولى بذلك منهم, لما ترجونه من الثواب والنصر والتأييد, وهم لا يرجون ذلك. وكان الله عليمًا بكل أحوالكم, حكيمًا في أمره وتدبيره. إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) إنا أنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن مشتملا على الحق; لتفصل بين الناس جميعًا بما أوحى الله إليك, وبَصَّرك به, فلا تكن للذين يخونون أنفسهم -بكتمان الحق- مدافعًا عنهم بما أيدوه لك من القول المخالف للحقيقة. وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) واطلب من الله تعالى المغفرة في جميع أحوالك, إن الله تعالى كان غفورًا لمن يرجو فضله ونوال مغفرته, رحيمًا به. وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) ولا تدافع عن الذين يخونون أنفسهم بمعصية الله. إن الله -سبحانه- لا يحب مَن عَظُمَتْ خيانته, وكثر ذنبه. يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) يستترون من الناس خوفًا من اطلاعهم على أعمالهم السيئة, ولا يستترون من الله تعالى ولا يستحيون منه, وهو عزَّ شأنه معهم بعلمه, مطلع عليهم حين يدبِّرون -ليلا- ما لا يرضى من القول, وكان الله -تعالى- محيطًا بجميع أقوالهم وأفعالهم, لا يخفى عليه منها شيء. هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) ها أنتم -أيها المؤمنون- قد حاججتم عن هؤلاء الخائنين لأنفسهم في هذه الحياة الدنيا, فمن يحاجج الله تعالى عنهم يوم البعث والحساب؟ ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة؟ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) ومن يُقْدِمْ على عمل سيِّئ قبيح, أو يظلم نفسه بارتكاب ما يخالف حكم الله وشرعه, ثم يرجع إلى الله نادمًا على ما عمل, راجيًا مغفرته وستر ذنبه, يجد الله تعالى غفورًا له, رحيمًا به. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) ومن يعمد إلى ارتكاب ذنب فإنما يضر بذلك نفسه وحدها, وكان الله تعالى عليمًا بحقيقة أمر عباده, حكيمًا فيما يقضي به بين خلقه. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) ومن يعمل خطيئة بغير عمد, أو يرتكب ذنبًا متعمدًا ثم يقذف بما ارتكبه نفسًا بريئة لا جناية لها, فقد تحمَّل كذبًا وذنبًا بيّنا. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) ولولا أن الله تعالى قد مَنَّ عليك -أيها الرسول- ورحمك بنعمة النبوة, فعصمك بتوفيقه بما أوحى إليك, لعزمت جماعة من الذين يخونون أنفسهم أن يُزِلُّوكَ عن طريق الحق, وما يُزِلُّونَ بذلك إلا أنفسهم, وما يقدرون على إيذائك لعصمة الله لك, وأنزل الله عليك القرآن والسنة المبينة له, وهداك إلى علم ما لم تكن تعلمه مِن قبل, وكان ما خصَّك الله به من فضلٍ أمرًا عظيمًا. لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) لا نفع في كثير من كلام الناس سرّاً فيما بينهم, إلا إذا كان حديثًا داعيًا إلى بذل المعروف من الصدقة, أو الكلمة الطيبة, أو التوفيق بين الناس, ومن يفعل تلك الأمور طلبًا لرضا الله تعالى راجيًا ثوابه, فسوف نؤتيه ثوابًا جزيلا واسعًا. وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (115) ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما ظهر له الحق, ويسلك طريقًا غير طريق المؤمنين, وما هم عليه من الحق, نتركه وما توجَّه إليه, فلا نوفقه للخير, وندخله نار جهنم يقاسي حرَّها, وبئس هذا المرجع والمآل. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به, ويغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من عباده. ومن يجعل لله تعالى الواحد الأحد شريكًا من خلقه, فقد بَعُدَ عن الحق بعدًا كبيرًا. إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) ما يعبد المشركون من دون الله تعالى إلا أوثانًا لا تنفع ولا تضر, وما يعبدون إلا شيطانًا متمردًا على الله, بلغ في الفساد والإفساد حدّاً كبيرًا. لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) طرده الله تعالى من رحمته. وقال الشيطان: لأتخذن مِن عبادك جزءًا معلومًا في إغوائهم قولا وعملا. وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) ولأصرفَنَّ مَن تبعني منهم عن الحق, ولأعِدَنَّهم بالأماني الكاذبة, ولأدعونَّهم إلى تقطيع آذان الأنعام وتشقيقها لما أزينه لهم من الباطل, ولأدعونَّهم إلى تغيير خلق الله في الفطرة, وهيئة ما عليه الخلق. ومن يستجب للشيطان ويتخذه ناصرًا له من دون الله القوي العزيز, فقد هلك هلاكًا بيِّنًا. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) يعد الشيطان أتباعه بالوعود الكاذبة, ويغريهم بالأماني الباطلة الخادعة, وما يَعِدهم إلا خديعة لا صحة لها, ولا دليل عليها. أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) أولئك مآلهم جهنم, ولا يجدون عنها معدلا ولا ملجأً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً (122) والذين صَدَقوا في إيمانهم بالله تعالى, وأتبعوا الإيمان بالأعمال الصالحة سيدخلهم الله -بفضله- جنات تجري من نحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدًا, وعدا من الله تعالى الذي لا يخلف وعده. ولا أحد أصدق من الله تعالى في قوله ووعده. لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) لا يُنال هذا الفضل العظيم بالأماني التي تتمنونها أيها المسلمون, ولا بأماني أهل الكتاب من اليهود والنصارى, وإنما يُنال بالإيمان الصادق بالله تعالى, وإحسان العمل الذي يرضيه. ومن يعمل عملا سيئًا يجز به, ولا يجد له سوى الله تعالى وليّاً يتولى أمره وشأنه, ولا نصيرًا ينصره, ويدفع عنه سوء العذاب. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) ومن يعمل من الأعمال الصالحة من ذكر أو أنثى, وهو مؤمن بالله تعالى وبما أنزل من الحق, فأولئك يدخلهم الله الجنة دار النعيم المقيم, ولا يُنْقَصون من ثواب أعمالهم شيئًا, ولو كان مقدار النقرة في ظهر النواة. وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) لا أحد أحسن دينًا ممن انقاد بقلبه وسائر جوارحه لله تعالى وحده, وهو محسن, واتبع دين إبراهيم وشرعه, مائلا عن العقائد الفاسدة والشرائع الباطلة. وقد اصطفى الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- واتخذه صفيّاً من بين سائر خلقه. وفي هذه الآية, إثبات صفة الخُلّة لله -تعالى- وهي أعلى مقامات المحبة, والاصطفاء. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) ولله جميع ما في هذا الكون من المخلوقات, فهي ملك له تعالى وحده. وكان الله تعالى بكل شيء محيطًا, لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127) يطلب الناس منك -أيها النبي- أن تبين لهم ما أشكل عليهم فَهْمُه من قضايا النساء وأحكامهن, قل الله تعالى يبيِّن لكم أمورهن, وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تعطونهن ما فرض الله تعالى لهن من المهر والميراث وغير ذلك من الحقوق, وتحبون نكاحهن أو ترغبون عن نكاحهن, ويبيِّن الله لكم أمر الضعفاء من الصغار, ووجوب القيام لليتامى بالعدل وترك الجور عليهم في حقوقهم. وما تفعلوا من خير فإن الله تعالى كان به عليمًا, لا يخفى عليه شيء منه ولا من غيره. وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وإن علمت امرأة من زوجها ترفعًا عنها, وتعاليًا عليها أو انصرافًا عنها فلا إثم عليهما أن يتصالحا على ما تطيب به نفوسهما من القسمة أو النفقة, والصلح أولى وأفضل. وجبلت النفوس على الشح والبخل. وإن تحسنوا معاملة زوجاتكم وتخافوا الله فيهن, فإن الله كان بما تعملون من ذلك وغيره عالمًا لا يخفى عليه شيء, وسيجازيكم على ذلك. وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) ولن تقدروا -أيها الرجال- على تحقيق العدل التام بين النساء في المحبة وميل القلب, مهما بذلتم في ذلك من الجهد, فلا تعرضوا عن المرغوب عنها كل الإعراض, فتتركوها كالمرأة التي ليست بذات زوج ولا هي مطلقة فتأثموا. وإن تصلحوا أعمالكم فتعدلوا في قَسْمكم بين زوجاتكم, وتراقبوا الله تعالى وتخشوه فيهن, فإن الله تعالى كان غفورًا لعباده, رحيمًا بهم. وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130) وإن وقعت الفرقة بين الرجل وامرأته, فإن الله تعالى يغني كلا منهما من فضله وسعته; فإنه سبحانه وتعالى واسع الفضل والمنة, حكيم فيما يقضي به بين عباده. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131) ولله ملك ما في السموات وما في الأرض وما بينهما. ولقد عهدنا إلى الذين أُعطوا الكتاب من قبلكم من اليهود والنصارى, وعهدنا إليكم كذلك -يا أمة محمد- بتقوى الله تعالى, والقيام بأمره واجتناب نهيه, وبيَّنَّا لكم أنكم إن تجحدوا وحدانية الله تعالى وشرعه فإنه سبحانه غني عنكم; لأن له جميع ما في السموات والأرض . وكان الله غنيّاً عن خلقه, حميدًا في صفاته وأفعاله. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) ولله ملك ما في هذا الكون من الكائنات, وكفى به سبحانه قائمًا بشؤون خلقه حافظًا لها. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً (133) إن يشأ الله يُهلكُّم أيها الناس, ويأت بقوم آخرين غيركم. وكان الله على ذلك قديرًا. مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) من يرغب منكم -أيها الناس- في ثواب الدنيا ويعرض عن الآخرة, فعند الله وحده ثواب الدنيا والآخرة, فليطلب من الله وحده خيري الدنيا والآخرة, فهو الذي يملكهما. وكان الله سميعًا لأقوال عباده, بصيرًا بأعمالهم ونياتهم, وسيجازيهم على ذلك. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, كونوا قائمين بالعدل, مؤدين للشهادة لوجه الله تعالى, ولو كانت على أنفسكم, أو على آبائكم وأمهاتكم, أو على أقاربكم, مهما كان شأن المشهود عليه غنيًّا أو رًا; فإن الله تعالى أولى بهما منكم, وأعلم بما فيه صلاحهما, فلا يحملنَّكم الهوى والتعصب على ترك العدل, وإن تحرفوا الشهادة بألسنتكم فتأتوا بها على غير حقيقتها, أو تعرضوا عنها بترك أدائها أو بكتمانها, فإن الله تعالى كان عليمًا بدقائق أعمالكم, وسيجازيكم بها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه داوموا على ما أنتم عليه من التصديق الجازم بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم, ومن طاعتهما, وبالقرآن الذي نزله عليه, وبجميع الكتب التي أنزلها الله على الرسل. ومن يكفر بالله تعالى, وملائكته المكرمين, وكتبه التي أنزلها لهداية خلقه, ورسله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته, واليوم الآخر الذي يقوم الناس فيه بعد موتهم للعرض والحساب, فقد خرج من الدين, وبَعُدَ بعدًا كبيرًا عن طريق الحق. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) إن الذين دخلوا في الإيمان, ثم رجعوا عنه إلى الكفر, ثم عادوا إلى الإيمان, ثم رجعوا إلى الكفر مرة أخرى, ثم أصرُّوا على كفرهم واستمروا عليه, لم يكن الله ليغفر لهم, ولا ليدلهم على طريق من طرق الهداية, التي ينجون بها من سوء العاقبة. بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) بشّر -أيها الرسول- المنان -وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر- بأن لهم عذابًا موجعًا. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) الذين يوالون الكافرين, ويتخذونهم أعوانًا لهم, ويتركون ولاية المؤمنين, ولا يرغبون في مودتهم. أيطلبون بذلك النصرة والمنعة عند الكافرين؟ إنهم لا يملكون ذلك, فالنصرة والعزة والقوة جميعها لله تعالى وحده. وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) وقد نزل عليكم -أيها المؤمنون- في كتاب ربكم أنه إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها فلا تجلسوا مع الكافرين والمستهزئين, إلا إذا أخذوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بآيات الله. إنكم إذا جالستموهم, وهم على ما هم عليه, فأنتم مثلهم; لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم, والراضي بالمعصية كالفاعل لها. إن الله تعالى جامع المنان والكافرين في نار جهنم جميعًا, يلْقَون فيها سوء العذاب. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) المنافقون هم الذين ينتظرون ما يحلُّ بكم -أيها المؤمنون- من الفتن والحرب, فإن منَّ الله عليكم بفضله, ونصركم على عدوكم وغنمتم, قالوا لكم: ألم نكن معكم نؤازركم؟ وإن كان للجاحدين لهذا الدين قَدْرٌ من النصر والغنيمة, قالوا لهم: ألم نساعدكم بما قدَّمناه لكم ونَحْمِكُم من المؤمنين؟ فالله تعالى يقضي بينكم وبينهم يوم القيامة, ولن يجعل الله للكافرين طريقًا للغلبة على عباده الصالحين, فالعاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة. إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) إنَّ طريقة هؤلاء المنان مخادعة الله تعالى, بما يظهرونه من الإيمان وما يبطنونه من الكفر, ظنًّا أنه يخفى على الله, والحال أن الله خادعهم ومجازيهم بمثل عملهم, وإذا قام هؤلاء المنافقون لأداء الصلاة, قاموا إليها في فتور, يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة, ولا يذكرون الله تعالى إلا ذكرًا قليلا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) إنَّ مِن شأن هؤلاء المنان التردد والحَيْرة والاضطراب, لا يستقرون على حال, فلا هم مع المؤمنين ولا هم مع الكافرين. ومن يصرف الله قلبه عن الإيمان به والاستمساك بهديه, فلن تجد له طريقًا إلى الهداية واليقين. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (144) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لا توالوا الجاحدين لدين الله, وتتركوا موالاة المؤمنين ومودتهم. أتريدون بمودَّة أعدائكم أن تجعلوا لله تعالى عليكم حجة ظاهرة على عدم صدقكم في إيمانكم؟ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إن المنان في أسفل منازل النار يوم القيامة, ولن تجد لهم -أيها الرسول- ناصرًا يدفع عنهم سوء هذا المصير. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) إلا الذين رجعوا إلى الله تعالى وتابوا إليه, وأصلحوا ما أفسدوا من أحوالهم باطنًا وظاهرًا, ووالوا عباده المؤمنين, واستمسكوا بدين الله, وأخلصوا له سبحانه, فأولئك مع المؤمنين في الدنيا والآخرة, وسوف يعطي الله المؤمنين ثوابًا عظيمًا. مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) ما يفعل الله بعذابكم إن أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله, فإن الله سبحانه غني عمَّن سواه, وإنما يعذب العباد بذنوبهم. وكان الله شاكرًا لعباده على طاعتهم له, عليمًا بكل شيء. لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) لا يُحِبُّ الله أن يَجهر أحدٌ بقول السوء, لكن يُباح للمظلوم أن يَذكُر ظالمه بما فيه من السوء; ِّن مَظْلمته. وكان الله سميعًا لما تجهرون به, عليمًا بما تخفون من ذلك. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (149) نَدَب الله تعالى إلى العفو, ومهَّد له بأنَّ المؤمن: إمَّا أن يُظهر الخير, وإمَّا أن يُخفيه, وكذلك مع الإساءة: إما أن يظهرها في حال الانتصاف من المسيء, وإما أن يعفو ويصفح, والعفوُ أفضلُ; فإن من صفاته تعالى العفو عن عباده مع قدرته عليهم. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) إن الذين يكفرون بالله ورسله من اليهود والنصارى, ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله بأن يؤمنوا بالله ويكذبوا رسله الذين أرسلهم إلى خلقه, أو يعترفوا بصدق بعض الرسل دون بعض, ويزعموا أنَّ بعضهم افتروا على ربِّهم, ويريدون أن يتخذوا طريقًا إلى الضلالة التي أحدثوها والبدعة التي ابتدعوها. أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (151) أولئك هم أهل الكفر المحقَّق الذي لا شك فيه, وأعتدنا للكافرين عذابًا يخزيهم ويهينهم. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) والذين صَدَّقوا بوحدانية الله, وأقرُّوا بنبوَّة رسله أجمعين, ولم يفرقوا بين أحد منهم, وعملوا بشريعة الله, أولئك سوف يعطيهم جزاءهم وثوابهم على إيمانهم به وبرسله. وكان الله غفورًا رحيمًا. يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً (153) يسألك اليهود -أيها الرسول- معجزة مثل معجزة موسى تشهد لك بالصدق: بأن تنزل عليهم صُحُفًا من الله مكتوبةً, مثل مجيء موسى بالألواح من عند الله, فلا تعجب -أيها الرسول- فقد سأل أسلافهم موسى -عليه السلام- ما هو أعظم: سألوه أن يريهم الله علانيةً, فَصُعِقوا بسبب ظلمهم أنفسهم حين سألوا أمرًا ليس من حقِّهم. وبعد أن أحياهم الله بعد الصعق, وشاهدوا الآيات البينات على يد موسى القاطعة بنفي الشرك, عبدوا العجل من دون الله, فعَفونا عن عبادتهم العجل بسبب توبتهم, وآتينا موسى حجة عظيمة تؤيِّد صِدق نُبُوَّتِه. وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (154) ورفعنا فوق رؤوسهم جبل الطور حين امتنعوا عن الالتزام بالعهد المؤكد الذي أعطوه بالعمل بأحكام التوراة, وأمرناهم أن يدخلوا باب "بيت المقدس" سُجَّدًا, فدخلوا يزحفون على أستاههم, وأمرناهم ألا يَعْتَدُوا بالصيد في يوم السبت فاعتدَوا, وصادوا, وأخذنا عليهم عهدًا مؤكدًا, فنقضوه. فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) فلعنَّاهم بسبب نقضهم للعهود, وكفرهم بآيات الله الدالة على صدق رسله, وقتلهم للأنبياء ظلمًا واعتداءً, وقولهم: قلوبنا عليها أغطية فلا تفقه ما تقول, بل طمس الله عليها بسبب كفرهم, فلا يؤمنون إلا إيمانًا قليلا لا ينفعهم. وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وكذلك لعنَّاهم بسبب كفرهم وافترائهم على مريم بما نسبوه إليها من الزنى, وهي بريئة منه. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) وبسبب قولهم -على سبيل التهكم والاستهزاء- : هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب (قتلناه), وما قتلوا عيسى وما صلبوه, بل صلبوا رجلا شبيهًا به ظنًّا منهم أنه عيسى. ومن ادَّعى قَتْلَهُ من اليهود, ومن أسلمه إليهم من النصارى, كلهم واقعون في شك وحَيْرَة, لا عِلْمَ لديهم إلا اتباع الظن, وما قتلوه متيقنين بل شاكين متوهمين. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) بل رفع الله عيسى إليه ببدنه وروحه حيًّا, وطهَّره من الذين كفروا. وكان الله عزيزًا في ملكه, حكيمًا في تدبيره وقضائه. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وإنه لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب بعد نزول عيسى آخر الزمان إلا آمن به قبل موته عليه السلام, ويوم القيامة يكون عيسى -عليه السلام- شهيدًا بتكذيب مَن كذَّبه, وتصديق مَن صدَّقه. فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) فبسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حَرَّم الله عليهم طيبات من المأكل كانت حلالا لهم, وبسبب صدِّهم أنفسهم وغيرهم عن دين الله القويم. وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (161) وبسبب تناولهم الربا الذي نهوا عنه, واستحلالهم أموال الناس بغير استحقاق, وأعتدنا للكافرين بالله ورسوله مِن هؤلاء اليهود عذابًا موجعًا في الآخرة. لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) لكنِ المتمكنون في العلم بأحكام الله من اليهود, والمؤمنون بالله ورسوله, يؤمنون بالذي أنزله الله إليك -أيها الرسول- وهو القرآن, وبالذي أنزل إلى الرسل من قبلك كالتوراة والإنجيل, ويؤدُّون الصلاة في أوقاتها, ويخرجون زكاة أموالهم, ويؤمنون بالله وبالبعث والجزاء, أولئك سيعطيهم الله ثوابًا عظيمًا, وهو الجنة. إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (163) إنا أوحينا اليك -أيها الرسول- بتبليغ الرسالة كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده, وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط -وهم الأنبياء الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة من ولد يعقوب- وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان. وآتينا داود زبورًا, وهو كتاب وصحف مكتوبة. وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك في القرآن من قبل هذه الآية, ورسلا لم نقصصهم عليك لحكمة أردناها. وكلم الله موسى تكليمًا؛ تشريفًا له بهذه الصفة. وفي هذه الآية الكريمة, إثبات صفة الكلام لله -تعالى- كما يليق بجلاله, وأنه سبحانه كلم نبيه موسى -عليه السلام- حقيقة بلا وساطة. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) أرسَلْتُ رسلا إلى خَلْقي مُبشِّرين بثوابي, ومنذرين بعقابي; لئلا يكون للبشر حجة يعتذرون بها بعد إرسال الرسل. وكان الله عزيزًا في ملكه, حكيمًا في تدبيره. لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إن يكفر بك اليهود وغيرهم -أيها الرسول- فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أَنْزَلَ عليه القرآن العظيم, أنزله بعلمه, وكذلك الملائكة يشهدون بصدق ما أوحي إليك, وشهادة الله وحدها كافية. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إن الذين جحدوا نُبُوَّتك, وصدوا الناس عن الإسلام, قد بَعُدوا عن طريق الحق بُعْدًا شديدًا. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إن الذين كفروا بالله وبرسوله, وظلموا باستمرارهم على الكفر, لم يكن الله ليغفر ذنوبهم, ولا ليدلهم على طريق ينجيهم. إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) إلا طريق جهنم ماكثين فيها أبدًا, وكان ذلك على الله يسيرًا, فلا يعجزه شيء. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أيها الناس قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام دين الحق من ربكم, فَصَدِّقوه واتبعوه, فإن الإيمان به خيرلكم, وإن تُصرُّوا على كفركم فإن الله غني عنكم وعن إيمانكم; لأنه مالك ما في السموات والأرض. وكان الله عليمًا بأقوالكم وأفعالكم, حكيمًا في تشريعه وأمره. فإذا كانت السموات والأرض قد خضعتا لله تعالى كونًا وقدرًا خضوع سائر ملكه, فأولى بكم أن تؤمنوا بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وبالقرآن الذي أنزله عليه, وأن تنقادوا لذلك شرعًا حتى يكون الكون كلُّه خاضعًا لله قدرًا وشرعًا. وفي الآية دليل على عموم رسالة نبي الله ورسوله محمد ... صلى الله عليه وسلم. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) يا أهل الإنجيل لا تتجاوزوا الاعتقاد الحق في دينكم, ولا تقولوا على الله إلا الحق, فلا تجعلوا له صاحبةً ولا ولدًا. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله أرسله الله بالحق, وخَلَقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم, وهي قوله: "كن", فكان, وهي نفخة من الله تعالى نفخها جبريل بأمر ربه, فَصدِّقوا بأن الله واحد وأسلموا له, وصدِّقوا رسله فيما جاؤوكم به من عند الله واعملوا به, ولا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين. انتهوا عن هذه المقالة خيرًا لكم مما أنتم عليه, إنما الله إله واحد سبحانه. ما في السموات والأرض مُلْكُه, فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد؟ وكفى بالله وكيلا على تدبير خلقه وتصريف معاشهم, فتوكَّلوا عليه وحده فهو كافيكم. لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) لن يَأْنف ولن يمتنع المسيح أن يكون عبدًا لله, وكذلك لن يأنَفَ الملائكة المُقَرَّبون من الإقرار بالعبودية لله تعالى. ومن يأنف عن الانقياد والخضوع ويستكبر فسيحشرهم كلهم إليه يوم القيامة, ويفصلُ بينهم بحكمه العادل, ويجازي كلا بما يستحق. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (173) فأمَّا الذين صَدَّقوا بالله اعتقادًا وقولا وعملا واستقاموا على شريعته فيوفيهم ثواب أعمالهم, ويزيدُهم من فضله, وأما الذين امتنعوا عن طاعة الله, واستكبروا عن التذلل له فيعذبهم عذابًا موجعًا, ولا يجدون لهم وليًّا ينجيهم من عذابه, ولا ناصرًا ينصرهم من دون الله. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم, وهو رسولنا محمد, وما جاء به من البينات والحجج القاطعة, وأعظمها القرآن الكريم, مما يشهد بصدق نبوته ورسالته الخاتمة, وأنزلنا إليكم القرآن هدًى ونورًا مبينًا. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (175) فأمَّا الذين صدَّقوا بالله اعتقادًا وقولا وعملا واستمسكوا بالنور الذي أُنزل إليهم, فسيدخلهم الجنة رحمة منه وفضلا ويوفقهم إلى سلوك الطريق المستقيم المفضي إلى روضات الجنات. يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) يسألونك -أيها الرسول- عن حكم ميراث الكلالة, وهو من مات وليس له ولدٌ ولا والد, قل: الله يُبيِّن لكم الحكم فيها: إن مات امرؤ ليس له ولد ولا والد, وله أخت لأبيه وأمه, أو لأبيه فقط, فلها نصف تركته, ويرث أخوها شقيقًا كان أو لأب جميع مالها إذا ماتت وليس لها ولد ولا والد. فإن كان لمن مات كلالةً أختان فلهما الثلثان مما ترك. وإذا اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم مع الإناث فللذكر مثل نصيب الأنثيين من أخواته. يُبيِّن الله لكم قسمة المواريث وحكم الكلالة, لئلا تضلوا عن الحقِّ في أمر المواريث. والله عالم بعواقب الأمور, وما فيها من الخير لعباده. تم بحمدالله تفسير سورة النساء .. |
|
|
12-01-2011, 10:27 AM | #16 | |
مشرف قسم
|
- سورة المائدة -
مدنية - عدد أياتها 120 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, أتِمُّوا عهود الله الموثقة, من الإيمان بشرائع الدين, والانقياد لها, وأَدُّوا العهود لبعضكم على بعض من الأمانات, والبيوع وغيرها, مما لم يخالف كتاب الله, وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أحَلَّ الله لكم البهيمة من الأنعام, وهي الإبلُ والبقر والغنم, إلا ما بيَّنه لكم من تحريم الميتة والدم وغير ذلك, ومن تحريم الصيد وأنتم محرمون. إن الله يحكم ما يشاء وَفْق حكمته وعدله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تتعدَّوا حدود الله ومعالمه, ولا تستحِلُّوا القتال في الأشهر الحرم, وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب, وكان ذلك في صدر الإسلام, ولا تستحِلُّوا حرمة الهَدْي, ولا ما قُلِّدَ منه; إذ كانوا يضعون القلائد, وهي ضفائر من صوف أو وَبَر في الرقاب علامةً على أن البهيمة هَدْيٌ وأن الرجل يريد الحج, ولا تَسْتَحِلُّوا قتال قاصدي البيت الحرام الذين يبتغون من فضل الله ما يصلح معايشهم ويرضي ربهم. وإذا حللتم من إحرامكم حلَّ لكم الصيد, ولا يحمِلَنَّكم بُغْض قوم من أجل أن منعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام -كما حدث عام "الحديبية"- على ترك العدل فيهم. وتعاونوا -أيها المؤمنون فيما بينكم- على فِعْل الخير, وتقوى الله, ولا تعاونوا على ما فيه إثم ومعصية وتجاوز لحدود الله, واحذروا مخالفة أمر الله فإنه شديد العقاب. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) حرَّم الله عليكم الميتة, وهي الحيوان الذي تفارقه الحياة بدون ذكاة, وحرَّم عليكم الدم السائل المُراق, ولحم الخنزير, وما ذُكِر عليه غير اسم الله عند الذبح, والمنخنقة التي حُبِس نَفَسُها حتى ماتت, والموقوذة وهي التي ضُربت بعصا أو حجر حتى ماتت, والمُتَرَدِّية وهي التي سقطت من مكان عال أو هَوَت في بئر فماتت, والنطيحة وهي التي ضَرَبَتْها أخرى بقرنها فماتت, وحرَّم الله عليكم البهيمة التي أكلها السبُع, كالأسد والنمر والذئب, ونحو ذلك. واستثنى -سبحانه- مما حرَّمه من المنخنقة وما بعدها ما أدركتم ذكاته قبل أن يموت فهو حلال لكم, وحرَّم الله عليكم ما ذُبِح لغير الله على ما يُنصب للعبادة من حجر أو غيره, وحرَّم الله عليكم أن تطلبوا عِلْم ما قُسِم لكم أو لم يقسم بالأزلام, وهي القداح التي كانوا يستقسمون بها إذا أرادوا أمرًا قبل أن يقدموا عليه. ذلكم المذكور في الآية من المحرمات -إذا ارتُكبت- خروج عن أمر الله وطاعته إلى معصيته. الآن انقطع طمع الكفار من دينكم أن ترتدوا عنه إلى الشرك بعد أن نصَرْتُكم عليهم, فلا تخافوهم وخافوني. اليوم أكملت لكم دينكم دين الإسلام بتحقيق النصر وإتمام الشريعة, وأتممت عليكم نعمتي بإخراجكم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان, ورضيت لكم الإسلام دينًا فالزموه, ولا تفارقوه. فمن اضطرَّ في مجاعة إلى أكل الميتة, وكان غير مائل عمدًا لإثم, فله تناوله, فإن الله غفور له, رحيم به. يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) يسألك أصحابك -أيها النبي- : ماذا أُحِلَّ لهم أَكْلُه؟ قل لهم: أُحِلَّ لكم الطيبات وصيدُ ما دَرَّبتموه من ذوات المخالب والأنياب من الكلاب والفهود والصقور ونحوها مما يُعَلَّم, تعلمونهن طلب الصيد لكم, مما علمكم الله, فكلوا مما أمسكن لكم, واذكروا اسم الله عند إرسالها للصيد, وخافوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه. إن الله سريع الحساب. الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (5) ومن تمام نعمة الله عليكم اليوم -أيها المؤمنون- أن أَحَلَّ لكم الحلال الطيب, وذبائحُ اليهود والنصارى -إن ذكَّوها حَسَبَ شرعهم- حلال لكم وذبائحكم حلال لهم. وأَحَلَّ لكم -أيها المؤمنون- نكاح المحصنات, وهُنَّ الحرائر من النساء المؤمنات, العفيفات عن الزنى, وكذلك نكاحَ الحرائر العفيفات من اليهود والنصارى إذا أعطيتموهُنَّ مهورهن, وكنتم أعِفَّاء غير مرتكبين للزنى, ولا متخذي عشيقات, وأمِنتم من التأثر بدينهن. ومن يجحد شرائع الإيمان فقد بطل عمله, وهو يوم القيامة من الخاسرين. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة, وأنتم على غير طهارة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم مع المرافق (والمِرْفَق: المِفْصَل الذي بين الذراع والعَضُد) وامسحوا رؤوسكم, واغسلوا أرجلكم مع الكعبين (وهما: العظمان البارزان عند ملتقى الساق بالقدم) . وإن أصابكم الحدث الأكبر فتطهروا بالاعتسال منه قبل الصلاة. فإن كنتم مرضى, أو على سفر في حال الصحة, أو قضى أحدكم حاجته, أو جامع زوجته فلم تجدوا ماء فاضربوا بأيديكم وجه الأرض, وامسحوا وجوهكم وأيديكم منه. ما يريد الله في أمر الطهارة أن يُضَيِّق عليكم, بل أباح التيمم توسعةً عليكم, ورحمة بكم, إذ جعله بديلا للماء في الطهارة, فكانت رخصة التيمُّم من تمام النعم التي تقتضي شكر المنعم; بطاعته فيما أمر وفيما نهى. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) واذكروا نعمة الله عليكم فيما شَرَعه لكم, واذكروا عهده الذي أخذه تعالى عليكم من الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, والسمع والطاعة لهما, واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه. إن الله عليمٌ بما تُسِرُّونه في نفوسكم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) يا أيها الذين آمَنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كونوا قوَّامين بالحق, ابتغاء وجه الله, شُهداء بالعدل, ولا يحملنكم بُغْضُ قوم على ألا تعدلوا, اعدِلوا بين الأعداء والأحباب على درجة سواء, فذلك العدل أقرب لخشية الله, واحذروا أن تجوروا. إن الله خبير بما تعملون, وسيجازيكم به. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وعد الله الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات أن يغفر لهم ذنوبهم, وأن يثيبهم على ذلك الجنة, والله لا يخلف وعده. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) والذين جحدوا وحدانية الله الدالة على الحق المبين, وكذَّبوا بأدلته التي جاءت بها الرسل, هم أهل النار الملازمون لها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (11) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اذكروا ما أنعم الله به عليكم من نعمة الأمنِ, وإلقاءِ الرعب في قلوب أعدائكم الذين أرادوا أن يبطشوا بكم, فصرفهم الله عنكم, وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم, واتقوا الله واحذروه, وتوكلوا على الله وحده في أموركم الدينية والدنيوية, وثِقوا بعونه ونصره. وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) ولقد أخذ الله العهد المؤكَّد على بني إسرائيل أن يخلصوا له العبادة وحده, وأمر الله موسى أن يجعل عليهم اثني عشر عريفًا بعدد فروعهم, يأخذون عليهم العهد بالسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه, وقال الله لبني إسرائيل: إني معكم بحفظي ونصري, لئن أقمتم الصلاة, وأعطيتم الزكاة المفروضة مستحقيها, وصدَّقتم برسلي فيما أخبروكم به ونصرتموهم, وأنفقتم في سبيلي, لأكفِّرنَّ عنكم سيئاتكم, ولأدْخِلَنَّكُم جناتٍ تجري من تحت قصورها الأنهار, فمن جحد هذا الميثاق منكم فقد عدل عن طريق الحق إلى طريق الضلال. فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) فبسبب نقض هؤلاء اليهود لعهودهم المؤكَّدة طردناهم من رحمتنا, وجعلنا قلوبهم غليظة لا تلين للإيمان, يبدلون كلام الله الذي أنزله على موسى, وهو التوراة, وتركوا نصيبًا مما ذُكِّروا به, فلم يعملوا به. ولا تزال -أيها الرسول- تجد من اليهود خيانةً وغَدرًا, فهم على منهاج أسلافهم إلا قليلا منهم, فاعف عن سوء معاملتهم لك, واصفح عنهم, فإن الله يحب مَن أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه. (وهكذا يجد أهل الزيغ سبيلا إلى مقاصدهم السيئة بتحريف كلام الله وتأويله على غير وجهه, فإن عجَزوا عن التحريف والتأويل تركوا ما لا يتفق مع أهوائهم مِن شرع الله الذي لا يثبت عليه إلا القليل ممن عصمه الله منهم). وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) وأخذنا على الذين ادَّعوا أنهم أتباع المسيح عيسى -وليسوا كذلك- العهد المؤكد الذي أخذناه على بني إسرائيل: بأن يُتابعوا رسولهم وينصروه ويؤازروه, فبدَّلوا دينهم, وتركوا نصيبًا مما ذكروا به, فلم يعملوا به, كما صنع اليهود, فألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة, وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون يوم الحساب, وسيعاقبهم على صنيعهم. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى, قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يبيِّن لكم كثيرًا مما كنتم تُخْفونه عن الناس مما في التوراة والإنجيل, ويترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين: وهو القرآن الكريم. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) يهدي الله بهذا الكتاب المبين من اتبع رضا الله تعالى, طرق الأمن والسلامة, ويخرجهم بإذنه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان, ويوفقهم إلى دينه القويم. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) لقد كفر النصارى القائلون بأن الله هو المسيح ابن مريم, قل -أيها الرسول- لهؤلاء الجهلة من النصارى: لو كان المسيح إلهًا كما يدَّعون لقَدرَ أن يدفع قضاء الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أُمِّه ومَن في الأرض جميعًا, وقد ماتت أم عيسى فلم يدفع عنها الموت, كذلك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه; لأنهما عبدان من عباد الله لا يقدران على دفع الهلاك عنهما, فهذا دليلٌ على أنه بشر كسائر بني آدم. وجميع الموجودات في السموات والأرض ملك لله, يخلق ما يشاء ويوجده, وهو على كل شيء قدير. فحقيقة التوحيد توجب تفرُّد الله تعالى بصفات الربوبية والألوهية, فلا يشاركه أحد من خلقه في ذلك, وكثيرًا ما يقع الناس في الشرك والضلال بغلوهم في الأنبياء والصالحين, كما غلا النصارى في المسيح, فالكون كله لله, والخلق بيده وحده, وما يظهر من خوارق وآيات مَرَدُّه إلى الله. يخلق سبحانه ما يشاء, ويفعل ما يريد. وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) وزعم اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه, قل لهم -أيها الرسول- : فَلأيِّ شيء يعذِّبكم بذنوبكم؟ فلو كنتم أحبابه ما عذبكم, فالله لا يحب إلا من أطاعه, وقل لهم: بل أنتم خلقٌ مثلُ سائر بني آدم, إن أحسنتُم جوزيتم بإحسانكم خيرا, وإن أسَأْتُم جوزيتم بإساءتكم شرًّا, فالله يغفر لمن يشاء, ويعذب من يشاء, وهو مالك الملك, يُصَرِّفه كما يشاء, وإليه المرجع, فيحكم بين عباده, ويجازي كلا بما يستحق. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) يا أيها اليهود والنصارى قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم, يُبيِّن لكم الحق والهدى بعد مُدَّة من الزمن بين إرساله بإرسال عيسى ابن مريم; لئلا تقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير, فلا عُذرَ لكم بعد إرساله إلبكم, فقد جاءكم من الله رسولٌ يبشِّر مَن آمن به, ويُنذِز مَن عصاه. والله على كل شيء قدير من عقاب العاصي وثواب المطيع. وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ (20) واذكر -أيها الرسول- إذ قال موسى عليه السلام لقومه: يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم, إذ جعل فيكم أنبياء, وجعلكم ملوكًا تملكون أمركم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه, وقد منحكم من نعمه صنوفًا لم يمنحها أحدًا من عالَمي زمانكم. يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة -أي المطهرة, وهي "بيت المقدس" وما حولها- التي وعد الله أن تدخلوها وتقاتلوا مَن فيها من الكفار, ولا ترجعوا عن قتال الجبارين, فتخسروا خير الدنيا\ وخير الآخرة. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قالوا: يا موسى, إن فيها قومًا أشداء أقوياء, لا طاقة لنا بحربهم, وإنَّا لن نستطيع دخولها وهم فيها, فإن يخرجوا منها فإنَّا داخلون. قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قال رجلان من الذين يخشون الله تعالى, أنعم الله عليهما بطاعته وطاعة نبيِّه, لبني إسرائيل: ادخلوا على هؤلاء الجبارين باب مدينتهم, أخْذًا بالأسباب, فإذا دخلتم الباب غلبتموهم, وعلى الله وحده فتوكَّلوا, إن كنتم مُصدِّقين رسوله فيما جاءكم به, عاملين بشرعه. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قال قوم موسى له: إنا لن ندخل المدينة أبدًا ما دام الجبارون فيها, فاذهب أنت وربك فقاتلاهم, أما نحن فقاعدون هاهنا ولن نقاتلهم. وهذا إصرارٌ منهم على مخالفة موسى عليه السلام. قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) توجَّه موسى إلى ربه داعيًا: إني لا أقدر إلا على نفسي وأخي, فاحكم بيننا وبين القوم الفاسقين. قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) قال الله لنبيه موسى عليه السلام: إن الأرض المقدَّسة محرَّم على هؤلاء اليهود دخولها أربعين سنة, يتيهون في الأرض حائرين, فلا تأسف -يا موسى- على القوم الخارجين عن طاعتي. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ (27) واقصص -أيها الرسول- على بني إسرائيل خَبَر ابنَيْ آدم قابيل وهابيل, وهو خبرٌ حقٌ: حين قَدَّم كلٌّ منهما قربانًا -وهو ما يُتَقرَّب به إلى الله تعالى - فتقبَّل الله قُربان هابيل; لأنه كان تقيًّا, ولم يتقبَّل قُربان قابيل; لأنه لم يكن تقيًّا, فحسد قابيلُ أخاه, وقال: لأقتلنَّك, فَردَّ هابيل: إنما يتقبل الله ممن يخشونه. لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) وقال هابيلُ واعظًا أخاه: لَئنْ مَدَدْتَ إليَّ يدكَ لتقتُلني لا تَجِدُ مني مثل فعْلك, وإني أخشى الله ربَّ الخلائق أجمعين. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) إني أريد أن ترجع حاملا إثم قَتْلي, وإثمك الذي عليك قبل ذلك, فتكون من أهل النار وملازميها, وذلك جزاء المعتدين. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30) فَزَيَّنت لقابيلَ نفسُه أن يقتل أخاه, فقتله, فأصبح من الخاسرين الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ (31) لما قتل قابيلُ أخاه لم يعرف ما يصنع بجسده, فأرسل الله غرابًا يحفر حفرةً في الأرض ليدفن فيها غرابًا مَيِّتًا; ليدل قابيل كيف يدفن جُثمان أخيه؟ فتعجَّب قابيل, وقال: أعجزتُ أن أصنع مثل صنيع هذا الغراب فأستُرَ عورة أخي؟ فدَفَنَ قابيل أخاه, فعاقبه الله بالندامة بعد أن رجع بالخسران. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) بسبب جناية القتل هذه شَرَعْنا لبني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير سبب من قصاص, أو فساد في الأرض بأي نوع من أنواع الفساد, الموجب للقتل كالشرك والمحاربة فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله, وأنه من امتنع عن قَتْل نفس حرَّمها الله فكأنما أحيا الناس جميعًا; فالحفاظ على حرمة إنسان واحد حفاظ على حرمات الناس كلهم. ولقد أتت بني إسرائيل رسلُنا بالحجج والدلائل على صحة ما دعَوهم إليه من الإيمان بربهم, وأداء ما فُرِضَ عليهم, ثم إن كثيرًا منهم بعد مجيء الرسل إليهم لمتجاوزون حدود الله بارتكاب محارم الله وترك أوامره. إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إنما جزاء الذين يحاربون الله, ويبارزونه بالعداوة, ويعتدون على أحكامه, وعلى أحكام رسوله, ويفسدون في الأرض بقتل الأنفس, وسلب الأموال, أن يُقَتَّلوا, أو يُصَلَّبوا مع القتل (والصلب: أن يُشَدَّ الجاني على خشبة) أو تُقْطَع يدُ المحارب اليمنى ورجله اليسرى, فإن لم يَتُبْ تُقطعْ يدُه اليسرى ورجلُه اليمنى, أو يُنفَوا إلى بلد غير بلدهم, ويُحبسوا في سجن ذلك البلد حتى تَظهر توبتُهم. وهذا الجزاء الذي أعدَّه الله للمحاربين هو ذلّ في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب شديد إن لم يتوبوا. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) لكن مَن أتى من المحاربين من قبل أن تقدروا عليهم وجاء طائعًا نادمًا فإنه يسقط عنه ما كان لله, فاعلموا -أيها المؤمنون- أن الله غفور لعباده, رحيم بهم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, خافوا الله, وتَقَرَّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه, وجاهدوا في سبيله; كي تفوزوا بجناته. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) إن الذين جحدوا وحدانية الله, وشريعته, لو أنهم سلكوا جميع ما في الأرض, وملكوا مثله معه, وأرادوا أن يفتدوا أنفسهم يوم القيامة من عذاب الله بما ملكوا, ما تَقبَّل الله ذلك منهم, ولهم عذاب مُوجع. يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) يريد هؤلاء الكافرون الخروج من النار لما يلاقونه من أهوالها, ولا سبيل لهم إلى ذلك, ولهم عذاب دائم. وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) والسارق والسارقة فاقطعوا -يا ولاة الأمر- أيديهما بمقتضى الشرع, مجازاة لهما على أَخْذهما أموال الناس بغير حق, وعقوبةً يمنع الله بها غيرهما أن يصنع مثل صنيعهما. والله عزيز في ملكه, حكيم في أمره ونهيه. فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) فمن تاب مِن بعد سرقته, وأصلح في كل أعماله, فإن الله يقبل توبته. إن الله غفور لعباده, رحيم بهم. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) ألم تعلم -أيها الرسول- أن الله خالق الكون ومُدبِّره ومالكه, وأنه تعالى الفعَّال لما يريد, يعذب من يشاء, ويغفر لمن يشاء, وهو على كل شيء قدير. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوتك من المنان الذين أظهروا الإسلام وقلوبهم خالية منه, فإني ناصرك عليهم. ولا يحزنك تسرُّع اليهود إلى إنكار نبوتك, فإنهم قوم يستمعون للكذب, ويقبلون ما يَفْتَريه أحبارُهم, ويستجيبون لقوم آخرين لا يحضرون مجلسك, وهؤلاء الآخرون يُبَدِّلون كلام الله من بعد ما عَقَلوه, ويقولون: إن جاءكم من محمد ما يوافق الذي بدَّلناه وحرَّفناه من أحكام التوراة فاعملوا به, وإن جاءكم منه ما يخالفه فاحذروا قبوله, والعمل به. ومن يشأ الله ضلالته فلن تستطيع -أيها الرسول- دَفْعَ ذلك عنه, ولا تقدر على هدايته. وإنَّ هؤلاء المنان واليهود لم يُرِدِ الله أن يطهِّر قلوبهم من دنس الكفر, لهم الذلُّ والفضيحة في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب عظيم. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) هؤلاء اليهود يجمعون بين استماع الكذب وأكل الحرام, فإن جاؤوك يتحاكمون إليك فاقض بينهم, أو اتركهم, فإن لم تحكم بينهم فلن يقدروا على أن يضروك بشيء, وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل. إن الله يحب العادلين. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إنَّ صنيع هؤلاء اليهود عجيب, فهم يحتكمون إليك -أيها الرسول- وهم لا يؤمنون بك, ولا بكتابك, مع أن التوراة التي يؤمنون بها عندهم, فيها حكم الله, ثم يتولَّون مِن بعد حكمك إذا لم يُرضهم, فجمعوا بين الكفر بشرعهم, والإعراض عن حكمك, وليس أولئك المتصفون بتلك الصفات, بالمؤمنين بالله وبك وبما تحكم به. إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44) إنا أنزلنا التوراة فيها إرشاد من الضلالة, وبيان للأحكام, وقد حكم بها النبيُّون -الذين انقادوا لحكم الله, وأقروا به- بين اليهود, ولم يخرجوا عن حكمها ولم يُحَرِّفوها, وحكم بها عُبَّاد اليهود وفقهاؤهم الذين يربُّون الناس بشرع الله; ذلك أن أنبياءهم قد استأمنوهم على تبليغ التوراة, وفِقْه كتاب الله والعمل به, وكان الربانيون والأحبار شهداء على أن أنبياءهم قد قضوا في اليهود بكتاب الله. ويقول تعالى لعلماء اليهود وأحبارهم: فلا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي; فإنهم لا يقدرون على نفعكم ولا ضَرِّكم, ولكن اخشوني فإني أنا النافع الضار, ولا تأخذوا بترك الحكم بما أنزلتُ عوضًا حقيرًا. الحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، فالذين يبدلون حكم الله الذي أنزله في كتابه, فيكتمونه ويجحدونه ويحكمون بغيره معتقدين حله وجوازه فأولئك هم الكافرون. وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (45) وفَرَضنا عليهم في التوراة أن النفس تُقْتَل بالنفس, والعين تُفْقَأ بالعين, والأنف يُجْدَع بالأنف, والأذُن تُقْطع بالأذُن, والسنَّ تُقْلَعُ بالسنِّ, وأنَّه يُقْتَصُّ في الجروح, فمن تجاوز عن حقه في الاقتصاص من المُعتدي فذلك تكفير لبعض ذنوب المعتدى عليه وإزالةٌ لها. ومن لم يحكم بما أنزل الله في القصاص وغيره, فأولئك هم المتجاوزون حدود الله. وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وأتبعنا أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم مؤمنًا بما في التوراة, عاملا بما فيها مما لم ينسخه كتابه, وأنزلنا إليه الإنجيل هاديا إلى الحق, ومبيِّنًا لما جهله الناس مِن حكم الله, وشاهدًا على صدق التوراة بما اشتمل عليه من أحكامها, وقد جعلناه بيانًا للذين يخافون الله وزاجرًا لهم عن ارتكاب المحرَّمات. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47) وليحكم أهل الإنجيل الذين أُرسِل إليهم عيسى بما أنزل الله فيه. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الخارجون عن أمره, العاصون له. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وأنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن, وكل ما فيه حقّ يشهد على صدق الكتب قبله, وأنها من عند الله, مصدقًا لما فيها من صحة، ومبيِّنًا لما فيها من تحريف، ناسخًا لبعض شرائعها, فاحكم بين المحتكمين إليك من اليهود بما أنزل الله إليك في هذا القرآن, ولا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهوائهم وما اعتادوه, فقد جعلنا لكل أمة شريعة, وطريقة واضحة يعملون بها. ولو شاء الله لجعل شرائعكم واحدة, ولكنه تعالى خالف بينها ليختبركم, فيظهر المطيع من العاصي, فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين بالعمل بما في القرآن, فإن مصيركم إلى الله, فيخبركم بما كنتم فيه تختلفون, ويجزي كلا بعمله. وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) واحكم -أيها الرسول- بين اليهود بما أنزل الله إليك في القرآن, ولا تتبع أهواء الذين يحتكمون إليك, واحذرهم أن يصدُّوك عن بعض ما أنزل الله إليك فتترك العمل به, فإن أعرض هؤلاء عمَّا تحكم به فاعلم أن الله يريد أن يصرفهم عن الهدى بسبب ذنوبٍ اكتسبوها من قبل. وإن كثيرًا من الناس لَخارجون عن طاعة ربهم. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) أيريد هؤلاء اليهود أن تحكم بينهم بما تعارف عليه المشركون عبدةُ الأوثان من الضلالات والجهالات؟! لا يكون ذلك ولا يليق أبدًا ومَن أعدل مِن الله في حكمه لمن عقل عن الله شَرْعه, وآمن به, وأيقن أن حكم الله هو الحق؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى حلفاءَ وأنصارًا على أهل الإيمان; ذلك أنهم لا يُوادُّون المؤمنين, فاليهود يوالي بعضهم بعضًا, وكذلك النصارى, وكلا الفريقين يجتمع على عداوتكم. وأنتم -أيها المؤمنون- أجدرُ بأن ينصر بعضُكم بعضًا. ومن يتولهم منكم فإنه يصير من جملتهم, وحكمه حكمهم. إن الله لا يوفق الظالمين الذين يتولون الكافرين. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) يخبر الله تعالى عن جماعة من المنان أنهم كانوا يبادرون في موادة اليهود لما في قلوبهم من الشكِّ والنفاق, ويقولون: إنما نوادُّهم خشية أن يظفروا بالمسلمين فيصيبونا معهم, قال الله تعالى ذكره: فعسى الله أن يأتي بالفتح -أي فتح "مكة"- وينصر نَبِيَّه, ويُظْهِر الإسلام والمسلمين على الكفار, أو يُهيِّئ من الأمور ما تذهب به قوةُ اليهود والنَّصارى, فيخضعوا للمسلمين, فحينئذٍ يندم المنافقون على ما أضمروا في أنفسهم من موالاتهم. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) وحينئذ يقول بعض المؤمنين لبعض مُتعجِّبين من حال المنان -إذا كُشِف أمرهم-: أهؤلاء الذين أقسموا بأغلظ الأيمان إنهم لَمَعَنا؟! بطلت أعمال المنان التي عملوها في الدنيا, فلا ثواب لهم عليها; لأنهم عملوها على غير إيمان, فخسروا الدنيا والآخرة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه من يرجع منكم عن دينه, ويستبدل به اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك, فلن يضرُّوا الله شيئًا, وسوف يأتي الله بقوم خير منهم يُحِبُّهم ويحبونه, رحماء بالمؤمنين أشدَّاء على الكافرين, يجاهدون أعداء الله, ولا يخافون في ذات الله أحدًا. ذلك الإنعام مِن فضل الله يؤتيه من أراد, والله واسع الفضل, عليم بمن يستحقه من عباده. إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) إنما ناصركم -أيُّها المؤمنون- الله ورسوله, والمؤمنون الذين يحافظون على الصلاة المفروضة, ويؤدون الزكاة عن رضا نفس, وهم خاضعون لله. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ (56) ومن وثق بالله وتولَّى الله ورسوله والمؤمنين, فهو من حزب الله, وحزب الله هم الغالبون المنتصرون. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تتخذوا الذين يستهزئون ويتلاعبون بدينكم من أهل الكتاب والكفارَ أولياءَ, وخافوا الله إن كنتم مؤمنين به وبشرعه. وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) وإذا أذَّن مؤذنكم -أيها المؤمنون- بالصلاة سخر اليهود والنصارى والمشركون واستهزؤوا من دعوتكم إليها؛ وذلك بسبب جهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون حقيقة العبادة. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المستهزئين من أهل الكاب: ما تَجِدُونه مطعنًا أو عيبًا هو محمدة لنا: من إيماننا بالله وكتبه المنزلة علينا, وعلى من كان قبلنا, وإيماننا بأن أكثركم خارجون عن الطريق المستقيم! قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) قل -أيها النبي- للمؤمنين: هل أخبركم بمن يُجازَى يوم القيامة جزاءً أشدَّ مِن جزاء هؤلاء الفاسقين؟ إنهم أسلافهم الذين طردهم الله من رحمته وغَضِب عليهم, ومَسَخَ خَلْقهم, فجعل منهم القردة والخنازير, بعصيانهم وافترائهم وتكبرهم, كما كان منهم عُبَّاد الطاغوت (وهو كل ما عُبِد من دون الله وهو راضٍ), لقد ساء مكانهم في الآخرة, وضلَّ سَعْيُهم في الدنيا عن الطريق الصحيح. وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وإذا جاءكم -أيها المؤمنون- منافقو اليهود, قالوا: آمنَّا, وهم مقيمون على كفرهم, قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم, ثم خرجوا وهم مصرُّون عليه, والله أعلم بسرائرهم, وإن أظهروا خلاف ذلك. وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) وترى -أيها الرسول- كثيرًا من اليهود يبادرون إلى المعاصي من قول الكذب والزور, والاعتداء على أحكام الله, وأكْل أموال الناس بالباطل, لقد ساء عملهم واعتداؤهم. لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان أئمتُهم وعلماؤهم, عن قول الكذب والزور, وأكل أموال الناس بالباطل, لقد ساء صنيعهم حين تركوا النهي عن المنكر. وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) يُطلع الله نَبِيَّه على شيء من مآثم اليهود -وكان مما يُسرُّونه فيما بينهم- أنهم قالوا: يد الله محبوسة عن فعل الخيرات, بَخِلَ علينا بالرزق والتوسعة, وذلك حين لحقهم جَدْب وقحط. غُلَّتْ أيديهم, أي: حبست أيديهم هم عن فِعْلِ الخيرات, وطردهم الله من رحمته بسبب قولهم. وليس الأمر كما يفترونه على ربهم, بل يداه مبسوطتان لا حَجْرَ عليه, ولا مانع يمنعه من الإنفاق, فإنه الجواد الكريم, ينفق على مقتضى الحكمة وما فيه مصلحة العباد. وفي الآية إثبات لصفة اليدين لله سبحانه وتعالى كما يليق به من غير تشبيه ولا تكييف. لكنهم سوف يزدادون طغيانًا وكفرًا بسبب حقدهم وحسدهم; لأن الله قد اصطفاك بالرسالة. ويخبر تعالى أن طوائف اليهود سيظلون إلى يوم القيامة يعادي بعضهم بعضًا, وينفر بعضهم من بعض, كلما تآمروا على الكيد للمسلمين بإثارة الفتن وإشعال نار الحرب ردَّ الله كيدهم, وفرَّق شملهم, ولا يزال اليهود يعملون بمعاصي الله مما ينشأ عنها الفساد والاضطراب في الأرض. والله تعالى لا يحب المفسدين. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) ولو أن اليهود والنصارى صدَّقوا الله ورسوله, وامتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه, لكفَّرنا عنهم ذنوبهم, ولأدخلناهم جنات النعيم في الدار الآخرة. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) ولو أنَّهم عملوا بما في التوراة والإنجيل, وبما أُنْزِل عليك أيها الرسول - وهو القرآن الكريم - لرُزِقوا من كلِّ سبيلٍ, فأنزلنا عليهم المطر, وأنبتنا لهم الثمر, وهذا جزاء الدنيا. وإنَّ مِن أهل الكتاب فريقًا معتدلا ثابتًا على الحق, وكثير منهم ساء عملُه, وضل عن سواء السبيل. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) يا أيها الرسول بلِّغ وحي الله الذي أنزِل إليك من ربك, وإن قصَّرت في البلاغ فَكَتَمْتَ منه شيئًا, فإنك لم تُبَلِّغ رسالة ربِّك, وقد بلَّغ صلى الله عليه وسلم رسالة ربه كاملة, فمن زعم أنه كتم شيئًا مما أنزِل عليه, فقد أعظم على الله ورسوله الفرية. والله تعالى حافظك وناصرك على أعدائك, فليس عليك إلا البلاغ. إن الله لا يوفق للرشد مَن حاد عن سبيل الحق, وجحد ما جئت به من عند الله. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) قل -أيها الرسول- لليهود والنصارى: إنكم لستم على حظٍّ من الدين ما دمتم لم تعملوا بما في التوراة والإنجيل, وما جاءكم به محمد من القرآن, وإن كثيرًا من أهل الكتاب لا يزيدهم إنزالُ القرآن إليك إلا تجبُّرًا وجحودًا, فهم يحسدونك; لأن الله بعثك بهذه الرسالة الخاتمة, التي بَيَّن فيها معايبهم, فلا تحزن -أيها الرسول- على تكذيبهم لك. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) إن الذين آمنوا (وهم المسلمون) واليهود, والصابئين (وهم قوم باقون على فطرتهم, ولا دين مقرر لهم يتبعونه) والنصارى (وهم أتباع المسيح) من آمن منهم بالله الإيمان الكامل, وهو توحيد الله والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وآمن باليوم الآخر, وعمل العمل الصالح, فلا خوف عليهم من أهوال يوم القيامة, ولا هم يحزنون على ما تركوه وراءهم في الدنيا. لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) لقد أخذنا العهد المؤكَّد على بني إسرائيل في التوراة بالسمع والطاعة, وأرسلنا إليهم بذلك رسلنا, فَنَقَضوا ما أُخذ عليهم من العهد, واتبعوا أهواءهم, وكانوا كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تشتهيه أنفسهم عادَوْه: فكذبوا فريقًا من الرسل, وقتلوا فريقًا آخر. وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) وظنَّ هؤلاء العُصاة أن الله لن يأخذهم بالعذاب جزاء عصيانهم وعُتُوِّهم, فمضوا في شهواتهم, وعمُوا عن الهدى فلم يبصروه, وصَمُّوا عن سماع الحقِّ فلم ينتفعوا به, فأنزل الله بهم بأسه, فتابوا فتاب الله عليهم, ثم عَمِي كثيرٌ منهم, وصمُّوا, بعدما تبين لهم الحقُّ, والله بصير بأعمالهم خيرها وشرها وسيجازيهم عليها. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) يقسم الله تعالى بأن الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم, قد كفروا بمقالتهم هذه, وأخبر تعالى أن المسيح قال لبني إسرائيل: اعبدوا الله وحده لا شريك له, فأنا وأنتم في العبودية سواء. إنه من يعبد مع الله غيره فقد حرَّم الله عليه الجنة, وجعل النار مُستَقَرَّه, وليس له ناصرٌ يُنقذُه منها. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) لقد كفر من النصارى من قال: إنَّ الله مجموع ثلاثة أشياء: هي الأب, والابن, وروح القدس. أما عَلِمَ هؤلاء النصارى أنه ليس للناس سوى معبود واحد, لم يلد ولم يولد, وإن لم ينته أصحاب هذه المقالة عن افترائهم وكذبهم ليُصِيبَنَّهم عذاب مؤلم موجع بسبب كفرهم بالله. أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) أفلا يرجع هؤلاء النصارى إلى الله تعالى, ويتولون عمَّا قالوا, ويسألون الله تعالى المغفرة؟ والله تعالى متجاوز عن ذنوب التائبين, رحيمٌ بهم مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) ما المسيح ابن مريم عليه السلام إلا رسولٌ كمن تقدمه من الرسل, وأُمُّه قد صَدَّقت تصديقًا جازمًا علمًا وعملا وهما كغيرهما من البشر يحتاجان إلى الطعام, ولا يكون إلهًا مَن يحتاج الى الطعام ليعيش. فتأمَّل -أيها الرسول- حال هؤلاء الكفار. لقد وضحنا العلاماتِ الدالةَ على وحدانيتنا, وبُطلان ما يَدَّعونه في أنبياء الله. ثم هم مع ذلك يَضِلُّون عن الحق الذي نَهديهم إليه, ثم انظر كيف يُصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قل -أيها الرسول- لهؤلاء الكفرة: كيف تشركون مع الله من لا يَقْدِرُ على ضَرِّكم, ولا على جَلْبِ نفع لكم؟ والله هو السميع لأقوال عباده, العليم بأحوالهم قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) قل -أيها الرسول- للنصارى: لا تتجاوزوا الحقَّ فيما تعتقدونه من أمر المسيح, ولا تتبعوا أهواءكم, كما اتَّبع اليهود أهواءهم في أمر الدين, فوقعوا في الضلال, وحملوا كثيرًا من الناس على الكفر بالله, وخرجوا عن طريق الاستقامة الى طريق الغَواية والضلال. لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) يخبر تعالى أنه طرد من رحمته الكافرين من بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزله على داود -عليه السلام- وهو الزَّبور, وفي الكتاب الذي أنزله على عيسى - عليه السلام - وهو الإنجيل; بسبب عصيانهم واعتدائهم على حرمات الله. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) كان هؤلاء اليهود يُجاهرون بالمعاصي ويرضونها, ولا يَنْهى بعضُهم بعضًا عن أيِّ منكر فعلوه, وهذا من أفعالهم السيئة, وبه استحقوا أن يُطْرَدُوا من رحمة الله تعالى. تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) تَرَى -أيها الرسول- كثيرًا من هؤلاء اليهود يتخذون المشركين أولياء لهم, ساء ما عملوه من الموالاة الني كانت سببًا في غضب الله عليهم, وخلودهم في عذاب الله يوم القيامة. وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) ولو أن هؤلاء اليهود الذين يناصرون المشركين كانوا قد آمنوا بالله تعالى والنبي محمد صلى الله عليه وسلم, وأقرُّوا بما أنزل إليه -وهو القرآن الكريم- ما اتخذوا الكفار أصحابًا وأنصارًا, ولكن كثيرًا منهم خارجون عن طاعة الله ورسوله. لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) لتجدنَّ -أيها الرسول- أشدَّ الناس عداوة للذين صدَّقوك وآمنوا بك واتبعوك, اليهودَ; لعنادهم, وجحودهم, وغمطهم الحق, والذين أشركوا مع الله غيره, كعبدة الأوثان وغيرهم, ولتجدنَّ أقربهم مودة للمسلمين الذين قالوا: إنا نصارى, ذلك بأن منهم علماء بدينهم متزهدين وعبَّادًا في الصوامع متنسكين, وأنهم متواضعون لا يستكبرون عن قَبول الحق, وهؤلاء هم الذين قبلوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, وآمنوا بها. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) ومما يدل على قرب مودتهم للمسلمين أن فريقًا منهم : (وهم وفد الحبشة لما سمعوا القرآن) فاضت أعينهم من الدمع فأيقنوا أنه حقٌّ منزل من عند الله تعالى, وصدَّقوا بالله واتبعوا رسوله, وتضرعوا إلى الله أن يكرمهم بشرف الشهادة مع أمَّة محمد عليه السلام على الأمم يوم القيامة. وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) وقالوا: وأيُّ لوم علينا في إيماننا بالله, وتصديقنا بالحق الذي جاءنا به محمد.. صلى الله عليه وسلم من عند الله, واتباعنا له, ونرجو أن يدخلنا ربنا مع أهل طاعته في جنته يوم القيامة؟ فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) فجزاهم الله بما قالوا من الاعتزاز بإيمانهم بالإسلام, وطلبهم أن يكونوا مع القوم الصالحين, جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار, ماكثين فيها لا يخرجون منها, ولا يُحوَّلون عنها, وذلك جزاء إحسانهم في القول والعمل. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) والذين جحدوا وحدانية الله وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, وكذَّبوا بآياته المنزلة على رسله, أولئك هم أصحاب النار الملازمون لها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات أحلَّها الله لكم من المطاعم والمشارب ونكاح النساء, فتضيقوا ما وسَّع الله عليكم, ولا تتجاوزوا حدود ما حرَّم الله. إن الله لا يحب المعتدين. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) وتمتعوا -أيها المؤمنون- بالحلال الطيب مما أعطاكم الله ومنحكم إياه, واتقوا الله بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه; فإن إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراقبته. لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) لا يعاقبكم الله -أيها المسلمون- فيما لا تقصدون عَقْدَه من الأيمان, مثل قول بعضكم: لا والله, وبلى والله, ولكن يعاقبكم فيما قصدتم عقده بقلوبكم, فإذا لم تَفُوا باليمين فإثم ذلك يمحوه الله بما تقدِّمونه مما شرعه الله لكم كفارة من إطعام عشرة مساكين, لكل سكين نصف صاع من أوسط طعام أهل البلد, أو كسوتهم, لكل مسكين ما يكفي في الكسوة عُرفًا, أو إعتاق مملوك من الرق, فالحالف الذي لم يف بيمينه مخير بين هنا الأمور الثلاثة, فمن لم يجد شيئًا من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام. تلك مكفرات عدم الوفاء بأيمانكم, واحفظوا -أيها المسلمون- أيمانكم: باجتناب الحلف, أو الوفاء إن حلفتم, أو الكفارة إذا لم تفوا بها. وكما بيَّن الله لكم حكم الأيمان والتحلل منها يُبيِّن لكم أحكام دينه; لتشكروا له على هدايته إياكم إلى الطريق المستقيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إنما الخمر: وهي كل مسكر يغطي العقل, والميسر: وهو القمار, وذلك يشمل المراهنات ونحوها, مما فيه عوض من الجانبين, وصدٌّ عن ذكر الله, والأنصاب: وهي الحجارة التي كان المشركون يذبحون عندها تعظيمًا لها, وما ينصب للعبادة تقربًا إليه, والأزلام: وهي القِداح التي يستقسم بها الكفار قبل الإقدام على الشيء, أو الإحجام عنه, إن ذلك كله إثمٌ مِن تزيين الشيطان, فابتعدوا عن هذه الآثام, لعلكم تفوزون بالجنة. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) إنما يريد الشيطان بتزيين الآثام لكم أن يُلقِي بينكم ما يوجد العداوة والبغضاء, بسبب شرب الخمر ولعب الميسر, ويصرفكم عن ذكر الله وعن الصلاة بغياب العقل في شرب الخمر, والاشتغال باللهو في لعب الميسر, فانتهوا عن ذلك. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) وامتثلوا -أيها المسلمون- طاعة الله وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما تفعلون وتتركون, واتقوا الله وراقبوه في ذلك, فإن أعرضتم عن الامتثال فعملتم ما نهيتم عنه, فاعلموا أنما على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين. لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) ليس على المؤمنين الذين شربوا الخمر قبل تحريمها إثم في ذلك, إذا تركوها واتقوا سخط الله وآمنوا به, وقدَّموا الأعمال الصالحة التي تدل على إيمانهم ورغبتهم في رضوان الله تعالى عنهم, ثم ازدادوا بذلك مراقبة لله عز وجل وإيمانا به, حتى أصبحوا مِن يقينهم يعبدونه, وكأنهم يرونه. وإن الله تعالى يحب الذين بلغوا درجة الإحسان حتى أصبح إيمانهم بالغيب كالمشاهدة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, ليبلونكم الله بشيء من الصيد يقترب منكم على غير المعتاد حيث تستطيعون أَخْذَ صغاره بغير سلاح وأخذ كباره بالسلاح; ليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق الذين يخافون ربهم بالغيب, ليقينهم بكمال علمه بهم, وذلك بإمساكهم عن الصيد, وهم محرمون. فمن تجاوز حَدَّه بعد هذا البيان فأقدم على الصيد -وهو مُحْرِم- فإنه يستحق العذاب الشديد. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (95) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تقتلوا صيد البر, وأنتم محرمون بحج أو عمرة, أو كنتم داخل الحرم ومَن قتل أيَّ نوعٍ من صيد البرِّ متعمدًا فجزاء ذلك أن يذبح مثل ذلك الصيد من بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم, بعد أن يُقَدِّره اثنان عدلان, وأن يهديه لفقراء الحرم, أو أن يشتري بقيمة مثله طعامًا يهديه لفقراء الحرم لكل مسكين نصف صاع, أو يصوم بدلا من ذلك يوما عن كل نصف صاع من ذلك الطعام, فَرَضَ الله عليه هذا الجزاء; ليلقى بإيجاب الجزاء المذكور عاقبة فِعْله. والذين وقعوا في شيء من ذلك قبل التحريم فإن الله تعالى قد عفا عنهم, ومَن عاد إلى المخالفة متعمدًا بعد التحريم, فإنه مُعَرَّض لانتقام الله منه. والله تعالى عزيز قويٌّ منيع في سلطانه, ومِن عزته أنه ينتقم ممن عصاه إذا أراد, لا يمنعه من ذلك مانع. أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) أحل الله لكم -أيها المسلمون- في حال إحرامكم صيد البحر, وهو ما يصاد منه حيًّا, وطعامه: وهو الميت منه; من أجل انتفاعكم به مقيمين أو مسافرين, وحرم عليكم صيد البَرِّ ما دمتم محرمين بحج أو عمرة. واخشوا الله ونفذوا جميع أوامِره, واجتنبوا جميع نواهيه; حتى تظفَروا بعظيم ثوابه, وتَسْلموا من أليم عقابه عندما تحشرون للحساب والجزاء. جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) امتنَّ الله على عباده بأن جعل الكعبة البيت الحرام صلاحًا لدينهم, وأمنًا لحياتهم; وذلك حيث آمنوا بالله ورسوله وأقاموا فرائضه, وحرَّم العدوان والقتال في الأشهر الحرم (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) فلا يعتدي فيها أحد على أحد, وحرَّم تعالى الاعتداء على ما يُهدَى إلى الحرم من بهيمة الأنعام, وحرَّم كذلك الاعتداء على القلائد, وهي ما قُلِّد إشعارًا بأنه بقصد به النسك; ذلك لتعلموا أن الله يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض, ومن ذلك ما شرعه لحماية خلقه بعضهم من بعض, وأن الله بكل شيء عليم, فلا تخفى عليه خافية. اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) اعلموا -أيها الناس- أن الله جل وعلا شديد العقاب لمن عصاه, وأن الله غفور رحيم لمن تاب وأناب. مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) يبيِّن الله تعالى أن مهمة رسوله صلى الله عليه وسلم هداية الدلالة والتبليغ, وبيد الله -وحده- هداية التوفيق, وأن ما تنطوي عليه نفوس الناس مما يُسرون أو يعلنون من الهداية أو الضلال يعلمه الله. قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) قل -أيها الرسول-: لا يستوي الخبيث والطيب من كل شيء, فالكافر لا يساوي المؤمن, والعاصي لا يساوي المطيع, والجاهل لا يساوي العالم, والمبتدع لا يساوي المتبع, والمال الحرام لا يساوي الحلال, ولو أعجبك -أيها الإنسان- كثرة الخبيث وعدد أهله. فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة باجتناب الخبائث, وفعل الطيبات; لتفلحوا بنيل المقصود الأعظم, وهو رضا الله تعالى والفوز بالجنة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين لم تؤمروا فيها بشيء, كالسؤال عن الأمور غير الواقعة, أو التي يترتب عليها تشديدات في الشرع, ولو كُلِّفتموها لشقَّتْ عليكم, وإن تسألوا عنها في حياة رسول الله .. صلى الله عليه وسلم وحين نزول القرآن عليه تُبيَّن لكم, وقد تُكلَّفونها فتعجزون عنها, تركها الله معافيًا لعباده منها. والله غفور لعباده إذا تابوا, حليم عليهم فلا يعاقبهم وقد أنابوا إليه. قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) إن مثل تلك الأسئلة قد سألها قومٌ مِن قبلكم رسلَهم, فلما أُمِروا بها جحدوها, ولم ينفذوها , فاحذروا أن تكونوا مثلهم. مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) ما شرع الله للمشركين ما ابتدعوه في بهيمة الأنعام مِن تَرْك الانتفاع ببعضها وجعلها للأصنام, وهي: البَحيرة التي تُقطع أذنها إذا ولدت عددًا من البطون, والسائبة وهي التي تُترك للأصنام, والوصيلة وهي التي تتصل ولادتها بأنثى بعد أنثى, والحامي وهو الذكر من الإبل إذا وُلد من صلبه عدد من الإبل, ولكن الكفار نسبوا ذلك إلى الله تعالى افتراء عليه, وأكثر الكافرين لا يميزون الحق من الباطل. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) وإذا قيل لهؤلاء الكفار المحرِّمين ما أحل الله: تعالوا إلى تنزيل الله وإلى رسوله ليتبين لكم الحلال والحرام, قالوا: يكفينا ما ورثناه عن آبائنا من قول وعمل, أيقولون ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا أي: لا يفهمون حقًّا ولا يعرفونه, ولا يهتدون إليه؟ فكيف يتبعونهم, والحالة هذه؟ فإنه لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ألزموا أنفسكم بالعمل بطاعة الله واجتناب معصيته, وداوموا على ذلك وإن لم يستجب الناس لكم, فإذا فعلتم ذلك فلا يضركم ضلال مَن ضلَّ إذا لزمتم طريق الاستقامة, وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر, إلى الله مرجعكم جميعًا في الآخرة, فيخبركم بأعمالكم, ويجازيكم عليها. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ (106) يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا قرب الموت من أحدكم, فلْيُشْهِد على وصيته اثنين أمينين من المسلمين أو آخرين من غير المسلمين عند الحاجة, وعدم وجود غيرهما من المسلمين, تُشهدونهما إن أنتم سافرتم في الأرض فحلَّ بكم الموت, وإن ارتبتم في شهادتهما فقفوهما من بعد الصلاة -أي صلاة المسلمين, وبخاصة صلاة العصر-، فيقسمان بالله قسمًا خالصًا لا يأخذان به عوضًا من الدنيا, ولا يحابيان به ذا قرابة منهما, ولا يكتمان به شهادة لله عندهما, وأنهما إن فَعَلا ذلك فهما من المذنبين. فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ (107) فإن اطلع أولياء الميت على أن الشاهدين المذكورين قد أثما بالخيانة في الشهادة أو الوصية فليقم مقامهما في الشهادة اثنان من أولياء الميت فيقسمان بالله: لَشهادتنا الصادقة أولى بالقبول من شهادتهما الكاذبة, وما تجاوزنا الحق في شهادتنا, إنا إن اعتدينا وشهدنا بغير الحق لمن الظالمين المتجاوزين حدود الله. ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) ذلك الحكم عند الارتياب في الشاهدين من الحلف بعد الصلاة وعدم قبول شهادتهما, أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها خوفًا من عذاب الآخرة, أو خشية من أن ترد اليمين الكاذبة من قِبَل أصحاب الحق بعد حلفهم, فيفتضح الكاذب الذي ردت يمينه في الدنيا وقت ظهور خيانته. وخافوا الله -أيها الناس- وراقبوه أن تحلفوا كذبًا, وأن تقتطعوا بأيمانكم مالا حرامًا, واسمعوا ما توعظون به. والله لا يهدي القوم الفاسقين الخارجين عن طاعته. يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) واذكروا -أيها الناس- يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل عليهم السلام, فيسألهم عن جواب أممهم لهم حينما دعوهم إلى التوحيد فيجيبون: لا علم لنا, فنحن لا نعلم ما في صدور الناس, ولا ما أحدثوا بعدنا. إنك أنت عليم بكل شيء مما ظهر وخفي. إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) إذ قال الله يرم القيامة: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك إذ خلقتك من غير أب, وعلى والدتك حيث اصطفيتها على نساء العالمين, وبرأتها مما نُسِب إليها, ومن هذه النعم على عيسى أنه قوَّاه وأعانه بجبريل عليه السلام, يكلم الناس وهو رضيع, ويدعوهم إلى الله وهو كبير بما أوحاه الله إليه من التوحيد, ومنها أن الله تعالى علَّمه الكتابة والخط بدون معلم, ووهبه قوة الفهم والإدراك, وعَلَّمه التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام, والإنجيل الذي أنزل عليه هداية للناس, ومن هذه النعم أنه يصوِّر من الطين كهيئة الطير فينفخ في تلك الهيئة, فتكون طيرًا بإذن الله, ومنها أنه يشفي الذي وُلِد أعمى فيبصر, ويشفي الأبرص, فيعود جلده سليمًا بإذن الله, ومنها أنه يدعو الله أن يحييَ الموتى فيقومون من قبورهم أحياء, وذلك كله بإرادة الله تعالى وإذنه, وهي معجزات باهرة تؤيد نبوة عيسى عليه السلام, ثم يذكِّره الله جل وعلا نعمته عليه إذ منع بني إسرائيل حين همُّوا بقتله, وقد جاءهم بالمعجزات الواضحة الدالة على نبوته, فقال الذين كفروا منهم: إنَّ ما جاء به عيسى من البينات سحر ظاهر. وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) واذكر نعمتي عليك, إذ ألهمتُ, وألقيتُ في قلوب جماعة من خلصائك أن يصدقوا بوحدانية الله تعالى ونبوتك, فقالوا: صدَّقنا يا ربنا, واشهد بأننا خاضعون لك منقادون لأمرك. إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) واذكر إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك إن سألته أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء؟ فكان جوابه أن أمرهم بأن يتقوا عذاب الله تعالى, إن كانوا مؤمنين حقَّ الإيمان. قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ (113) قال الحواريون: نريد أن نأكل من المائدة وتسكن قلوبنا لرؤيتها, ونعلم يقينا صدقك في نبوتك, وأن نكون من الشاهدين على هذه الآية أن الله أنزلها حجة له علينا في توحيده وقدرته على ما يشاء, وحجة لك على صدقك في نبوتك. قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) أجاب عيسى ابن مريم طلب الحواريين فدعا ربه جل وعلا قائلا ربنا أنزل علينا مائدة طعام من السماء, نتخذ يوم نزولها عيدًا لنا, نعظمه نحن ومَن بعدنا, وتكون المائدة علامة وحجة منك يا ألله على وحدانيتك وعلى صدق نبوتي, وامنحنا من عطائك الجزيل, وأنت خير الرازقين. قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ (115) قال الله تعالى: إني منزل مائدة الطعام عليكم, فمن يجحد منكم وحدانيتي ونبوة عيسى عليه السلام بعد نزول المائدة فإني أعذبه عذابًا شديدًا, لا أعذبه أحدًا من العالمين. وقد نزلت المائدة كما وعد الله. وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) واذكر إذ قال الله تعالى يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اجعلوني وأمي معبودين من دون الله؟ فأجاب عيسى -منزِّهًا الله تعالى-: ما ينبغي لي أن أقول للناس غير الحق. إن كنتُ قلتُ هذا فقد علمتَه; لأنه لا يخفى عليك شيء, تعلم ما تضمره نفسي, ولا أعلم أنا ما في نفسك. إنك أنت عالمٌ بكل شيء مما ظهر أو خفي. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) قال عيسى عليه السلام: يا ربِّ ما قلتُ لهم إلا ما أوحيته إليَّ, وأمرتني بتبليغه من إفرادك بالتوحيد والعبادة, وكنتُ على ما يفعلونه -وأنا بين أظهرهم- شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم, فلما وفيتني أجلي على الأرض, ورفعتني إلى السماء حيًّا, كنت أنت المطَّلِع على سرائرهم, وأنت على كل شيء شهيد, لا تخفى عليك خافية في الأرض ولا في السماء. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) إنك يا ألله إن تعذبهم فإنهم عبادك -وأنت أعلم بأحوالهم-، تفعل بهم ما تشاء بعدلك, وإن تغفر برحمتك لمن أتى منهم بأسباب المغفرة, فإنك أنت العزيز الذي لا يغالَبُ, الحكيم في تدبيره وأمره. وهذه الآية ثناء على الله -تعالى- بحكمته وعدله, وكمال علمه. قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) قال الله تعالى لعيسى عليه السلام يوم القيامة: هذا يوم الجزاء الذي ينفع الموحدين توحيدهم ربهم, وانقيادهم لشرعه, وصدقهم في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم, لهم جنات تجري من تحت قصورها الأنهار, ماكثين فيها أبدًا, رضي الله عنهم فقبل حسناتهم, ورضوا عنه بما أعطاهم من جزيل ثوابه. ذلك الجزاء والرضا منه عليهم هو الفوز العظيم. لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) لله وحده لا شريك له ملك السموات والأرض وما فيهن, وهو -سبحانه- على كل شيء قدير لا يعجزه شيء. تم بحمد الله تفسير سورة المائدة |
|
|
12-01-2011, 10:40 AM | #17 | |
مشرف قسم
|
سورة الأنعام - مكية - عدد آياتها 165 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) الثناء على الله بصفاته التي كلّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، الذي أنشأ السموات والأرض وما فيهن, وخلق الظلمات والنور, وذلك بتعاقب الليل والنهار. وفي هذا دلالة على عظمة الله تعالى, واستحقاقه وحده العبادة, فلا يجوز لأحد أن يشرك به غيره. ومع هذا الوضوح فإن الكافرين يسوون بالله غيره, ويشركون به. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) هو الذي خلق أباكم آدم من طين وأنتم سلالة منه, ثم كتب مدة بقائكم في هذه الحياة الدنيا, وكتب أجلا آخر محدَّدًا لا يعلمه إلا هو جل وعلا وهو يوم القيامة, ثم أنتم بعد هذا تشكُّون في قدرة الله تعالى على البعث بعد الموت. وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) والله سبحانه هو الإله المعبود في السموات والأرض. ومن دلائل ألوهيته أنه يعلم جميع ما تخفونه -أيها الناس- وما تعلنونه, ويعلم جميع أعمالكم من خير أو شر; ولهذا فإنه -جلَّ وعلا- وحده هو الإله المستحق للعبادة. وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) هؤلاء الكفار الذين يشركون مع الله تعالى غيره قد جاءتهم الحجج الواضحة والدلالات البينة على وحدانية الله -جل وعلا- وصِدْقِ محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته, وما جاء به, ولكن ما إن جاءتهم حتى أعرضوا عن قبولها, ولم يؤمنوا بها. فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (5) لقد جحد هؤلاء الكفار الحقَّ الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم وسخروا من دعائه; جهلا منهم بالله واغترارًا بإمهاله إياهم, فسوف يرون ما استهزءوا به أنه الحق والصدق, ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم, ويجازيهم عليه. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) ألم يعلم هؤلاء الذين يجحدون وحدانية الله تعالى واستحقاقه وحده العبادة, ويكذبون رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم من هلاك وتدمير, وقد مكنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم أيها الكافرون, وأنعمنا عليهم بإنزال الأمطار وجريان الأنهار من تحت مساكنهم؛ استدراجًا وإملاءً لهم, فكفروا بنعم الله وكذبوا الرسل, فأهلكناهم بسبب ذنونهم, وأنشأنا من بعدهم أممًا أخرى خلفوهم في عمارة الأرض؟ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) ولو نزَّلنا عليك -أيها الرسول- كتابًا من السماء في أوراق فلمسه هؤلاء المشركون بأيديهم لقالوا: إنَّ ما جئت به -أيها الرسول- سحر واضح بيِّن. وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ (8) وقال هؤلاء المشركون: هلا أنزل الله تعالى على محمد مَلَكًا من السماء; ليصدقه فيما جاء به من النبوة, ولوأنزلنا مَلَكًّا من السماء إجابة لطلبهم لقضي الأمر بإهلاكهم, ثم لا يمهلون لتوبة, فقد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون. وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) ولو جعلنا الرسول المرسل إليهم مَلَكًا إذ لم يقتنعوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, لجعلنا ذلك الملك في صورة البشر, حتى يستطيعوا السماع منه ومخاطبته; إذ ليس بإمكانهم رؤية الملك على صورته الملائكية, ولو جاءهم الملك بصورة رجل لاشتبه الأمر عليهم, كما اشتبه عليهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم. وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (10) ولمَّا كان طلبهم إنزال الملك على سبيل الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم بيَّن الله تعالى له أن الاستهزاء بالرسل عليهم السلام ليس أمرا حادثا, بل قد وقع من الكفار السابقين مع أنبيائهم, فأحاط بهم العذاب الذي كانوا يهزؤون به وينكرون وقوعه. قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قل لهم -أيها الرسول- : سيروا في الأرض ثم انظروا كيف أعقب الله المكذبين الهلاك والخزي؟ فاحذروا مثل مصارعهم, وخافوا أن يحلَّ بكم مثل الذي حل بهم. قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) قل -أيها الرسول-لهؤلاء المشركين: لمن مُلكُ السموات والأرض وما فيهن؟ قل: هو لله كما تقرون بذلك وتعلمونه, فاعبدوه وحده. كتب الله على نفسه الرحمة فلا بعجل على عباده بالعقوبة. ليجمعنكم إلى يوم القيامة الذي لا شك فيه للحساب والجزاء. الذين أشركوا بالله أهلكوا أنفسهم, فهم لا يوحدون الله, ولا يصدقون بوعده ووعيده, ولا يقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) ولله ملك كل شيء في السموات والأرض, سكن أو تحرك, خفي أو ظهر, الجميع عبيده وخلقه, وتحت قهره وتصرفه وتدبيره, وهو السميع لأقوال عباده, الحليم بحركاتهم وسرائرهم. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (14) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين مع الله تعالى غيره: أغير الله تعالى أتخذ وليًّا ونصيرًا , وهو خالق السموات والأرض وما فيهن, وهو الذي يرزق خلقه ولا يرزقه أحد؟ قل -أيها الرسول- : إني أُمِرْتُ أن أكون أول مَن خضع وانقاد له بالعبودية من هذه الأمة, ونهيت أن أكون من المشركين معه غيره. قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين مع الله غيره: إني أخاف إن عصيت ربي, فخالفت أمره, وأشركت معه غيره في عبادته, أن ينزل بي عذاب عظيم يوم القيامة. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) من يصرف الله عنه ذلك العذاب الشديد فقد رحمه, وذلك الصرف هو الظفر البين بالنجاة من العذاب العظيم. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وإن يصبك الله تعالى -أيها الإنسان- بشيء يضرك كالفقر والمرض فلا كاشف له إلا هو, وإن يصبك بخير كالغنى والصحة فلا راد لفضله ولا مانع لقضائه, فهو -جل وعلا- القادر على كل شيء. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) والله سبحانه هو الغالب القاهر فوق عباده; خضعت له الرقاب وذَلَّتْ له الجبابرة, وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها وَفْق حكمت, الخبير الذي لا يخفى عليه شيء. ومن اتصف بهذه الصفات يجب ألا يشرك به. وفي هذه الآية إثبات الفوقية لله -تعالى- على جميع خلقه, فوقية مطلقة تليق بجلاله سبحانه. قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) قل -أيها الرسول لهؤلاء المشركين-: أيُّ شيء أعظم شهادة في إثبات صدقي فيما أخبرتكم به أني رسول الله؟ قل: الله شهيد بيني وبينكم أي: هو العالم بما جئتكم به وما أنتم قائلونه لي, وأوحى الله إليَّ هذا القرآن مِن أجل أن أنذركم به عذابه أن يحلَّ بكم, وأنذر به مَن وصل إليه من الأمم. إنكم لتقرون أن مع الله معبودات أخرى تشركونها به. قل لهم -أيها الرسول-: إني لا أشهد على ما أقررتم به, إنما الله إله واحد لا شريك له, وإنني بريء من كل شريك تعبدونه معه. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) الذين آتيناهم التوراة والإنجيل, يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم بصفاته المكتوبة عندهم كمعرفتهم أبناءهم, فكما أن أبناءهم لا يشتبهون أمامهم بغيرهم, فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم لا يشتبه بغيره لدقة وصفه في كتبهم, ولكنهم اتبعوا أهواءهم, فخسروا أنفسهم حبن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) لا أحد أشد ظلمًا ممَّن تَقَوَّلَ الكذب على الله تعالى, فزعم أن له شركاء في العبادة, أو ادَّعى أن له ولدًا أو صاحبة, أو كذب ببراهينه وأدلته التي أيَّد بها رسله عليهم السلام. إنه لا يفلح الظالمون الذين افتروا الكذب على الله, ولا يظفرون بمطالبهم في الدنيا ولا في الآخرة. وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) وليحذر هؤلاء المشركون المكذبون بآيات الله تعالى يوم نحشرهم ثم نقول لهم: أين آلهتكم التي كنتم تدَّعون أنهم شركاء مع الله تعالى ليشفعوا لكم؟ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) ثم لم تكن إجابتهم حين فتنوا واختبروا بالسؤال عن شركائهم إلا أن تبرؤوا منهم, وأقسموا بالله ربهم أنهم لم يكونوا مشركين مع الله غيره. انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) تأمل -أيها الرسول- كيف كذب هؤلاء المشركون على أنفسهم وهم في الآخرة قد تبرؤوا من الشرك؟ وذهب وغاب عنهم ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) ومن هؤلاء المشركين من يستمع إليك القرآن -أيها الرسول-، فلا يصل إلى قلوبهم; لأنهم بسبب اتباعهم أهواءهم جعلنا على قلوبهم أغطية; لئلا يفقهوا القرآن, وجعلنا في آذانهم ثقلا وصممًا فلا تسمع ولا تعي شيئًا, وإن يروا الآيات الكثيرة الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم لا يصدقوا بها, حتى إذا جاؤوك -أيها الرسول- بعد معاينة الآيات الدالة على صدقك يخاصمونك: يقول الذين جحدوا آيات الله: ما هذا الذي نسمع إلا ما تناقله الأولون من حكايات لا حقيقة لها. وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وهؤلاء المشركون ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والاستماع إليه, ويبتعدون بأنفسهم عنه, وما يهلكون -بصدهم عن سبيل الله- إلا أنفسهم, وما يحسون أنهم يعملون لهلاكها. وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (27) ولو ترى -أيها الرسول- هؤلاء المشركين يوم القيامة لرأيت أمرًا عظيمًا, وذلك حين يُحْبَسون على النار, ويشاهدون ما فيها من السلاسل والأغلال, ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال, فعند ذلك قالوا: ياليتنا نُعاد إلى الحياة الدنيا, فنصدق بآيات الله ونعمل بها, ونكون من المؤمنين. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) ليس الأمر كذلك, بل ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت به الرسل في الدنيا, وإن كانوا يظهرون لأتباعه خلافه. ولو فرض أن أعيدوا إلى الدنيا فأمهلوا لرجعوا إلى العناد بالكفر والتكذيب. وإنهم لكاذبون في قولهم: لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا, وكنا من المؤمنين. وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وقال هؤلاء المشركون المنكرون للبعث: ما الحياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها, وما نحن بمبعوثين بعد موتنا. وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30) ولو ترى -أيها الرسول- منكري البعث إذ حُبسوا بين يدي الله تعالى لقضائه فيهم يوم القيامة, لرأيت أسوأ حال, إذ يقول الله جل وعلا أليس هذا بالحق, أي: أليس هذا البعث الذي كنتم تنكرونه في الدنيا حقًّا؟ قالوا: بلى وربنا إنه لحق, قال الله تعالى: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أي:العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا بسبب جحودكم بالله تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) قد خسر الكفار الذين أنكروا البعث بعد الموت, حتى إذا قامت القيامة, وفوجئوا بسوء المصير, نادَوا على أنفسهم بالحسرة على ما ضيَّعوه في حياتهم الدنيا, وهم يحملون آثامهم على ظهورهم, فما أسوأ الأحمال الثقيلة السيئة التي يحملونها!! وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) وما الحياة الدنيا في غالب أحوالها إلا غرور وباطل, والعمل الصالح للدار الآخرة خير للذين يخشون الله, فيتقون عذابه بطاعته واجتناب معاصيه. أفلا تعقلون -أيها المشركون المغترون بزينة الحياة الدنيا- فتقدِّموا ما يبقى على ما يفنى؟ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) إنا نعلم إنه ليُدْخل الحزنَ إلى قلبك تكذيبُ قومك لك في الظاهر, فاصبر واطمئن; فإنهم لا يكذبونك في قرارة أنفسهم, بل يعتقدون صدقك, ولكنهم لظلمهم وعدوانهم يجحدون البراهين الواضحة على صدقك, فيكذبونك فيما جئت به. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) ولقد كذَّب الكفارُ رسلا من قبلك أرسلهم الله تعالى إلى أممهم وأوذوا في سبيله, فصبروا على ذلك ومضوا في دعوتهم وجهادهم حتى أتاهم نصر الله. ولا مبدل لكلمات الله, وهي ما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مِن وعده إياه بالنصر على مَن عاداه. ولقد جاءك -أيها الرسول- مِن خبر مَن كان قبلك من الرسل, وما تحقق لهم من نصر الله, وما جرى على مكذبيهم من نقمة الله منهم وغضبه عليهم, فلك فيمن تقدم من الرسل أسوة وقدوة. وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم. وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ (35) وإن كان عَظُمَ عليك -أيها الرسول- صدود هؤلاء المشركين وانصرافهم عن الاستجابة لدعوتك, فإن استطعت أن تتخذ نفقًا في الأرض, أو مصعدًا تصعد فيه إلى السماء, فتأتيهم بعلامة وبرهان على صحة قولك غير الذي جئناهم به فافعل. ولو شاء الله لَجَمعهم على الهدى الذي أنتم عليه ووفَّقهم للإيمان, ولكن لم يشأ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه, فلا تكونن -أيها الرسول- من الجاهلين الذين اشتد حزنهم, وتحسَّروا حتى أوصلهم ذلك إلى الجزع الشديد إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) إنما يجيبك -أيها الرسول- إلى ما دعوت إليه من الهدى الذين يسمعون الكلام سماع قبول. أما الكفار فهم في عداد الموتى; لأن الحياة الحقيقية إنما تكون بالإسلام. والموتى يخرجهم الله من قبورهم أحياء, ثم يعودون إليه يوم القيامة ليوفوا حسابهم وجزاءهم. وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وقال المشركون -تعنتًا واستكبارًا-: هلا أنزل الله علامة تدل على صدق محمد ... صلى الله عليه وسلم من نوع العلامات الخارقة, قل لهم -أيها الرسول-: إن الله قادر على أن ينزل عليهم آية, ولكن أكثرهم لا يعلمون أن إنزال الآيات إنما يكون وَفْق حكمته تعالى. وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) ليس في الأرض حيوان يَدِبُّ على الأرض أو طائر يطير في السماء بجناحيه إلا جماعات متجانسة الخلق مثلكم. ما تركنا في اللوح المحفوظ شيئًا إلا أثبتناه, ثم إنهم إلى ربهم يحشرون يوم القيامة, فيحاسب الله كلا بما عمل. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) والذين كذبوا بحجج الله تعالى صمٌّ لا يسمعون ما ينفعهم, بُكْمٌ لا يتكلمون بالحق, فهم حائرون في الظلمات, لم يختاروا طريقة الاستقامة. من يشأ الله إضلاله يضلله, ومن يشأ هدايته يجعله على صراط مستقيم. قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن جاءكم عذاب الله في الدنيا أو جاءتكم الساعة التي تبعثون فيها: أغير الله تدعون هناك لكشف ما نزل بكم من البلاء, إن كتم محقين في زعمكم أن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله تنفع أو تضر؟ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) بل تدعون -هناك- ربكم الذي خلقكم لا غيره, وتستغيثون به, فيفرج عنكم البلاء العظيم النازل بكم إن شاء; لأنه القادر على كل شيء, وتتركون حينئذ أصنامكم وأوثانكم وأولياءكم. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) ولقد بعثنا -أيها الرسول- إلى جماعات من الناس من قبلك رسلا يدعونهم إلى الله تعالى, فكذَّبوهم, فابتليناهم في أموالهم بشدة الفقر وضيق المعيشة, وابتليناهم في أجسامهم بالأمراض والآلام; رجاء أن يتذللوا لربهم, ويخضعوا له وحده بالعبادة. فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فهلا إذ جاء هذه الأمم المكذبة بلاؤنا تذللوا لنا, ولكن قست قلوبهم, وزيَّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من المعاصي, ويأتون من الشرك. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فلما تركوا العمل بأوامر الله تعالى معرضين عنها, فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الرزق فأبدلناهم بالبأساء رخاءً في العيش, وبالضراء صحة في الأجسام; استدراجا منا لهم, حتى إذا بطروا, وأعجبوا بما أعطيناهم من الخير والنعمة أخذناهم بالعذاب فجأة, فإذا هم آيسون منقطعون من كل خير. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) فاستؤصل هؤلاء القوم وأُهلكوا إذ كفروا بالله وكذَّبوا رسله, فلم يبق منهم أحد. والشكر والثناء لله تعالى -خالق كل شيء ومالكه- على نصرة أوليائه وهلاك أعدائه. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن أذهب الله سمعكم فأصمَّكم, وذهب بأبصاركم فأعماكم, وطبع على قلوبكم فأصبحتم لا تفقهون قولا أيُّ إله غير الله جل وعلا يقدر على ردِّ ذلك لكم؟! انظر -أيها الرسول- كيف ننوِّع لهم الحجج, ثم هم بعد ذلك يعرضون عن التذكر والاعتبار؟ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن نزل بكم عقاب اللة فجأة وأنتم لا تشعرون به, أو ظاهرًا عِيانًا وأنتم تنظرون إليه: هل يُهلك إلا القوم الظالمون الذين تجاوزوا الحد, بصرفهم العبادة لغير الله تعالى وبتكذيبهم رسله؟ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وما نرسل رسلنا إلا مبشرين أهل طاعتنا بالنعيم المقيم, ومنذرين أهل المعصية بالعذاب الأليم, فمن آمن وصدَّق الرسل وعمل صالحًا فأولئك لا يخافون عند لقاء ربهم, ولا يحزنون على شيء فاتهم من حظوظ الدنيا. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) والذين كذَّبوا بآياتنا من القرآن والمعجزات فأولئك يصيبهم العذاب يوم القيامة, بسبب كفرهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى. قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّقُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إني لا أدَّعي أني أملك خزائن السموات والأرض, فأتصرف فيها, ولا أدَّعي أني أعلم الغيب, ولا أدَّعي أني ملك, وإنما أنا رسول من عند الله, أتبع ما يوحى إليَّ, وأبلِّغ وحيه إلى الناس, قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: هل يستوي الكافر الذي عَمِي عن آيات الله تعالى فلم يؤمن بها والمؤمن الذي أبصر آيات الله فآمن بها؟ أفلا تتفكرون في آيات الله; لتبصروا الحق فتؤمنوا به؟ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وخوِّف -أيها النبي- بالقرآن الذين يعلمون أنهم يُحشرون إلى ربهم, فهم مصدِّقون بوعد الله ووعيده, ليس لهم غير الله وليّ ينصرهم, ولا شفيع يشفع لهم عنده تعالى, فيخلصهم من عذابه; لعلهم يتقون الله تعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي. وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52) ولا تُبْعد -أيها النبي- عن مجالستك ضعفاء المسلمين الذين يعبدون ربهم أول النهار وآخره, يريدون بأعمالهم الصالحة وجه الله, ما عليك من حساب هؤلاء الفقراء من شيء, إنما حسابهم على الله, وليس عليهم شيء من حسابك, فإن أبعدتهم فإنك تكون من المتجاوزين حدود الله, الذين يضعون الشيء في غير موضعه. وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وكذالك ابتلى الله تعالى بعض عباده ببعض بتباين حظوظهم من الأرزاق والأخلاق, فجعل بعضهم غنيًّا وبعضهم رًا, وبعضهم قويًّا وبعضهم ضعيفًا, فأحوج بعضهم إلى بعض اختبارًا منه لهم بذلك; ليقول الكافرون الأغنياء: أهؤلاء الضعفاء مَنَّ الله عليهم بالهداية إلى الإسلام مِن بيننا؟ أليس الله تعالى بأعلم بمن يشكرون نعمته, فيوفقهم إلى الهداية لدينه؟ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وإذا جاءك -أيها النبي- الذين صَدَّقوا بآيات الله الشاهدة على صدقك من القرآن وغيره مستفتين عن التوبة من ذنوبهم السابقة, فأكرِمْهم بردِّ السلام عليهم, وبَشِّرهم برحمة الله الواسعة; فإنه جلَّ وعلا قد كتب على نفسه الرحمة بعباده تفضلا أنه من اقترف ذنبًا بجهالة منه لعاقبتها وإيجابها لسخط الله -فكل عاص لله مخطئًا أو متعمدًا فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالمًا بالتحريم- ثم تاب من بعده وداوم على العمل الصالح, فإنه تعالى يغفر ذنبه, فهو غفور لعباده التائبين, رحيم بهم. وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) ومثل هذا البيان الذي بيَّنَّاه لك -أيها الرسول- نبيِّن الحجج الواضحة على كل حق ينكره أهل الباطل; ليتبين الحق, وليظهر طريق أهل الباطل المخالفين للرسل. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ (56) قل -أيها الرسول-لهؤلاء المشركين: إن الله عز وجل نهاني أن أعبد الأوثان التي تعبدونها من دونه, وقل لهم: لا أتبع أهواءكم قد ضللت عن الصراط المستقيم إن اتبعت أهواءَكم, وما أنا من المهتدين. قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قل -أيها الرسول لهؤلاء المشركين-: إني على بصيرة واضحة من شريعة الله التي أوحاها إليَّ, وذلك بإفراده وحده بالعبادة, وقد كذَّبتم بهذا, وليس في قدرتي إنزال العذاب الذي تستعجلون به, وما الحكم في تأخر ذلك إلا إلى الله تعالى, يقصُّ الحقَّ, وهو خير مَن يفصل بين الحق والباطل بقضائه وحكمه. قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) قل -أيها الرسول- : لو أنني أملك إنزال العذاب الذي تستحجلونه لأنزلته بكم, وقضي الأمر بيني وبينكم, ولكن ذلك إلى الله تعالى, وهو أعلم بالظالمين الذين تجاوزوا حدَّهم فأشركوا معه غيره. وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وعند الله -جل وعلا- مفاتح الغيب أي: خزائن الغيب, لا يعلمها إلا هو, ومنها: علم الساعة, ونزول الغيث, وما في الأرحام, والكسب في المستقبل, ومكان موت الإنسان, ويعلم كل ما في البر والبحر, وما تسقط من ورقة من نبتة إلا يعلمها, فكل حبة في خفايا الأرض, وكل رطب ويابس, مثبت في كتاب واضح لا لَبْس فيه, وهو اللوح المحفوظ. وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وهو سبحانه الذي يقبض أرواحكم بالليل بما يشبه قبضها عند الموت, ويعلم ما اكتسبتم في النهار من الأعمال, ثم يعيد أرواحكم إلى أجسامكم باليقظة من النوم نهارًا بما يشبه الأحياء بعد الموت; لتُقضى آجالكم المحددة في الدنيا, ثم إلى الله تعالى معادكم بعد بعثكم من قبوركم أحياءً, ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا, ثم يجازيكم بذلك. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) والله تعالى هو القاهر فوق عباده, فوقية مطلقة من كل وجه, تليق بجلاله سبحانه وتعالى. كل شيء خاضع لجلاله وعظمته, ويرسل على عباده ملائكة, يحفظون أعمالهم ويُحْصونها, حتى إذا نزل الموت بأحدهم قبض روحَه مَلكُ الموت وأعوانه, وهم لا يضيعون ما أُمروا به. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) ثم أعيد هؤلاء المتوفون إلى الله تعالى مولاهم الحق. ألا له القضاء والفصل يوم القيامة بين عباده وهو أسرع الحاسبين. قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (63) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: من ينقذكم من مخاوف ظلمات البر والبحر؟ أليس هو اللع تعالى الذي تدعونه في الشدائد متذللين جهرًا وسرًّا؟ تقولون: لئن أنجانا ربنا من هذه المخاوف لنكونن من الشاكرين بعبادته عز وجل وحده لا شريك له. قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قل لهم -أيها الرسول- : الله وحده هو الذي ينقذكم من هذه المخاوف ومن كل شدة, ثم أنتم بعد ذلك تشركون معه في العبادة غيره. قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) قل -أيها الرسول- : الله عز وجل هو القادر وحده على أن يرسل عليكم عذابًا مِن فوقكم كالرَّجْم أو الطوفان, وما أشبه ذلك, أو من تحت أرجلكم كالزلازل والخسف, أو يخلط أمركم عليكم فتكونوا فرقًا متناحرة يقتل بعضكم بعضًا. انظر -أيها الرسول- كيف نُنوِّع حججنا الواضحات لهؤلاء المشركين لعلهم يفهمون فيعتبروا؟ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) وكذَّب بهذا القرآن الكفارُ مِن قومك أيها الرسول, وهو الكتاب الصادق في كل ما جاء به. قل لهم: لست عليكم بحفيظ ولا رقيب, وإنما أنا رسول الله أبلغكم ما أرسلت إليكم. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) لكل خبر قرار يستقر عنده, ونهاية ينتهي إليها, فيتبيَّن الحق من الباطل, وسوف تعلمون -أيها الكفار- عاقبة أمركم عند حلول عذاب الله بكم. وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وإذا رأيت -أيها الرسول- المشركين الذين يتكلمون في آيات القرآن بالباطل والاستهزاء, فابتعد عنهم حتى يأخذوا في حديث آخر, وإن أنساك الشيطان هذا الأمر فلا تقعد بعد تذكرك مع القوم المعتدين, الذين تكلموا في آيات الله بالباطل. وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وما على المؤمنين الذين يخافون الله تعالى, فيطيعون أوامره, ويجتنبون نواهيه من حساب الله للخائضين المستهزئين بآيات الله من شيء, ولكن عليهم أن يعظوهم ليمسكوا عن ذلك الكلام الباطل, لعلهم يتقون الله تعالى. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) واترك -أيها الرسول- هؤلاء المشركين الذين جعلوا دين الإسلام لعبًا ولهوًا; مستهزئين بآيات الله تعالى, وغرَّتهم الحياة الدنيا بزينتها, وذكّر بالقرآن هؤلاء المشركين وغيرهم; كي لا ترتهن نفس بذنوبها وكفرها بربها, ليس لها غير الله ناصر ينصرها, فينقذها من عذاب, ولا شافع يشفع لها عنده, وإن تَفْتَدِ بأي فداء لا يُقْبَل منها. أولئك الذين ارتُهِنوا بذنوبهم, لهم في النار شراب شديد الحرارة وعذاب موجع; بسبب كفرهم بالله تعالى ورسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم وبدين الإسلام. قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أنعبد من دون الله تعالى أوثانًا لا تنفع ولا تضر؟ ونرجع إلى الكفر بعد هداية الله تعالى لنا إلى الإسلام, فنشبه -في رجوعنا إلى الكفر- مَن فسد عقله باستهواء الشياطين له, فَضَلَّ في الأرض, وله رفقة عقلاء مؤمنون يدعونه إلى الطريق الصحيح الذي هم عليه فيأبى. قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنَّ هدى الله الذي بعثني به هو الهدى الحق, وأُمِرنا جميعًا لنسلم لله تعالى رب العالمين بعبادته وحده لا شريك له, فهو رب كل شيء ومالكه. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وكذلك أُمرنا بأن نقيم الصلاة كاملة, وأن نخشاه بفعل أوامره واجتناب نواهيه. وهو -جل وعلا- الذي إليه تُحْشَرُ جميع الخلائق يوم القيامة. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) والله سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض بالحق, واذكر -أيها الرسول- يوم القيامة إذ يقول الله: "كن", فيكون عن أمره كلمح البصر أو هو أقرب, قوله هو الحق الكامل, وله الملك سبحانه وحده, يوم ينفخ المَلَك في "القرن" النفخة الثانية التي تكون بها عودة الأرواح إلى الأجسام. وهو سبحانه الذي يعلم ما غاب عن حواسكم -أيها الناس - وما تشاهدونه, وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها, الخبير بأمور خلقه. والله تعالى هو الذي يختص بهذه الأمور وغيرها بدءًا ونهاية, نشأة ومصيرًا, وهو وحده الذي يجب على العباد الانقياد لشرعه, والتسليم لحكمه, والتطلع لرضوانه ومغفرته. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) واذكر -أيها الرسول- مُحاجَّة إبراهيم عليه السلام لأبيه آزر, إذ قال له: أتجعل من الأصنام آلهة تعبدها من دون الله تعالى؟ إني أراك وقومك في ضلال بيِّن عن طريق الحق. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ (75) وكما هدينا إبراهيم عليه السلام إلى الحق في أمر العبادة نُريه ما تحتوي عليه السموات والأرض من ملك عظيم, وقدرة باهرة, ليكون من الراسخين في الإيمان. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فلما أظلم على إبراهيم عليه السلام الليل وغطَّاه ناظر قومه; ليثبت لهم أن دينهم باطل, وكانوا يعبدون النجوم. رأى إبراهيم عليه السلام كوكبًا, فقال -مستدرجا قومه لإلزامهم بالتوحيد-: هذا ربي, فلما غاب الكوكب, قال: لا أحب الآلهة التي تغيب. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فلما رأى إبراهيم القمر طالعًا قال لقومه -على سبيل استدراج الخصم-: هذا ربي, فلما غاب, قال -مفتقرا إلى هداية ربه-: لئن لم يوفقني ربي إلى الصواب في توحيده, لأكونن من القوم الضالين عن سواء السبيل بعبادة غير الله تعالى. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) فلما رأى الشمس طالعة قال لقومه: هذا ربي, هذا أكبر من الكوكب والقمر, فلما غابت, قال لقومه: إني بريء مما تشركون من عبادة الأوثان والنجوم والأصنام التي تعبدونها من دون الله تعالى. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (79) إني توجَّهت بوجهي في العبادة لله عز وجل وحده, فهو الذي خلق السموات والأرض, مائلا عن الشرك إلى التوحيد, وما أنا من المشركين مع الله غيره. وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وجادله قومه في توحيد الله تعالى قال: أتجادلونني في توحيدي لله بالعبادة, وقد وفقني إلى معرفة وحدانيته, فإن كنتم تخوفونني بآلهتكم أن توقع بي ضررًا فإنني لا أرهبها فلن تضرني, إلا أن يشاء ربي شيئًا. وسع ربي كل شيء علمًا. أفلا تتذكرون فتعلموا أنه وحده المعبود المستحق للعبودية؟ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) وكيف أخاف أوثانكم وأنتم لا تخافون ربي الذي خلقكم, وخلق أوثانكم التي أشركتموها معه في العبادة, من غير حجة لكم على ذلك؟ فأي الفريقين: فريق المشركين وفريق الموحدين أحق بالطمأنينة والسلامة والأمن من عذاب الله؟ إن كنتم تعلمون صدق ما أقول فأخبروني. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ولم يخلطوا إيمانهم بشرك, أولئك لهم الطمأنينة والسلامة, وهم الموفقون إلى طريق الحق. وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وتلك الحجة التي حاجَّ بها إبراهيم عليه السلام قومه هي حجتنا التي وفقناه إليها حتى انقطعت حجتهم. نرفع مَن نشاء من عبادنا مراتب في الدنيا والآخرة. إن ربك حكيم في تدبير خلقه, عليم بهم. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) ومننَّا على إبراهيم عليه السلام بأن رزقناه إسحاق ابنًا ويعقوب حفيدًا, ووفَّقنا كلا منهما لسبيل الرشاد, وكذلك وفَّقنا للحق نوحًا -من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب- وكذلك وفَّقنا للحق من ذرية نوح داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون عليهم السلام, وكما جزينا هؤلاء الأنبياء لإحسانهم نجزي كل محسن. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ (85) وكذلك هدينا زكريا ويحيى وعيسى وإلياس, وكل هؤلاء الأنبياء عليهم السلام من الصالحين. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِه وهدينا كذلك إسماعيل واليسع ويونس ولوطا, وكل هؤلاء الرسل فضَّلناهم على أهل زمانهم. وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) وكذلك وفَّقنا للحق من شئنا هدايته من آباء هؤلاء وذرياتهم وإخوانهم, واخترناهم لديننا وإبلاغ رسالتنا إلى مَن أرسلناهم إليهم, وأرشدناهم إلى طريق صحيح, لا عوج فيه, وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك. ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) ذلك الهدى هو توفيق الله, الذي يوفق به من يشاء من عباده. ولو أن هؤلاء الأنبياء أشركوا بالله -على سبيل الفرض والتقدير- لبطل عملهم; لأن الله تعالى لا يقبل مع الشرك عملا. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أولئك الأنبياء الذين أنعمنا عليهم بالهداية والنبوة هم الذين آتيناهم الكتاب كصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى, وآتيناهم فَهْمَ هذه الكتب, واخترناهم لإبلاغ وحينا, فإن يجحد -أيها الرسول- بآيات هذا القرآن الكفارُ من قومك, فقد وكلنا بها قومًا آخرين -أي:المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة- ليسوا بها بكافرين, بل مؤمنون بها, عاملون بما تدل عليه. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) أولئك الأنبياء المذكورون هم الذين وفقهم الله تعالى لدينه الحق, فاتبع هداهم -أيها الرسول- واسلك سبيلهم. قل للمشركين: لا أطلب منكم على تبليغ الإسلام عوضًا من الدنيا, إنْ أجري إلا على الله, وما الإسلام إلا دعوة جميع الناس إلى الطريق المستقيم وتذكير لكم ولكل مَن كان مثلكم, ممن هو مقيم على باطل, لعلكم تتذكرون به ما ينفعكم. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وما عَظَّم هؤلاء المشركون الله حق تعظيمه; إذ أنكروا أن يكون الله تعالى قد أنزل على أحد من البشر شيئًا من وحيه. قل لهم -أيها الرسول- : إذا كان الأمر كما تزعمون, فمن الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى إلى قومه نورًا للناس وهداية لهم؟ ثم توجه الخطاب إلى اليهود زَجْرًا لهم بقوله: تجعلون هذا الكتاب في قراطيس متفرقة, تظهرون بعضها, وتكتمون كثيرًا منها, ومما كتموه الإخبار عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته, وعلَّمكم الله معشر العرب بالقرآنِ -الذي أنزله عليكم, فيه خبر مَن قبلكم ومَن بعدكم, وما يكون بعد موتكم - ما لم تعلموه أنتم ولا آباؤكم, قل: الله هو الذي أنزله, ثم دع هؤلاء في حديثهم الباطل يخوضون ويلعبون. وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وهذا القرآن كتاب أنزلناه إليك -أيها الرسول- عظيم النفع, مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية, أنزلناه لنخوِّف به من عذاب الله وبأسه أهل "مكة" ومن حولها من أهل أقطار الأرض كلها. والذين يصدقون بالحياة الآخرة, يصدقون بأن القرآن كلام الله, ويحافظون على إقام الصلاة في أوقاتها. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) ومَن أشدُّ ظلمَّا ممَّن اختلق على الله تعالى قولا كذبًا, فادعى أنه لم يبعث رسولا من البشر, أو ادعى كذبًا أن الله أوحى إليه ولم يُوحِ إليه شيئًا, أو ادَّعى أنه قادر على أن يُنْزل مثل ما أنزل الله من القرآن؟ ولو أنك أبصرت -أيها الرسول- هؤلاء المتجاوزين الحدَّ وهم في أهوال الموت لرأيت أمرًا هائلا والملائكة الذين يقبضون أرواحهم باسطو أيديهم بالعذاب قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم, اليوم تهانون غاية الإهانة, كما كنتم تكذبون على الله, وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) ولقد جئتمونا للحساب والجزاء فرادى كما أوجدناكم في الدنيا أول مرة حفاة عراة, وتركتم وراء ظهوركم ما مكنَّاكم فيه مما تتباهون به من أموال في الدنيا, وما نرى معكم في الآخرة أوثانكم التي كنتم تعتقدون أنها تشفع لكم, وتَدَّعون أنها شركاء مع الله في العبادة, لقد زال تَواصُلُكم الذي كان بينكم في الدنيا, وذهب عنكم ما كنتم تَدَّعون من أن آلهتكم شركاء لله في العبادة, وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم. إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ (95) إن الله تعالى يشق الحب, فيخرج منه الزرع, ويشق النوى, فيخرج منه الشجر, يخرج الحي من الميت كالإنسان والحيوان مثلا من النطفة, ويخرج الميت من الحي كالنطفة من الإنسان والحيوان, ذلكم الله أي: فاعل هذا هو الله وحده لا شريك له المستحق للعبادة, فكيف تُصْرَفون عن الحق إلى الباطل فتعبدون معه غيره؟ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) والله سبحانه وتعالى هو الذي شق ضياء الصباح من ظلام الليل, وجعل الليل مستقرًا, يسكن فيه كل متحرك ويهدأ, وجعل الشمس والقمر يجريان في فلكيهما بحساب متقن مقدَّر, لا يتغير ولا يضطرب, ذلك تقدير العزيز الذي عزَّ سلطانه, العليم بمصالح خلقه وتدبير شئونهم. والعزيز والعليم من أسماء الله الحسنى يدلان على كمال العز والعلم. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) والله سبحانه هو الذي جعل لكم أيها الناس النجوم علامات, تعرفون بها الطرق ليلا إذا ضللتم بسبب الظلمة الشديدة في البر والبحر, قد بيَّنَّا البراهين الواضحة; ليتدبرها منكم أولو العلم بالله وشرعه. وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) والله سبحانه هو الذي ابتدأ خلقكم أيها الناس من آدم عليه السلام; إذ خلقه من طين, ثم كنتم سلالة ونسلا منه, فجعل لكم مستقَرًا تستقرون فيه, وهو أرحام النساء, ومُستودعًا تُحفَظُون فيه, وهو أصلاب الرجال, قد بينا الحجج وميزنا الأدلة, وأحكمناها لقوم يفهمون مواقع الحجج ومواضع العبر. وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) والله سبحانه هو الذي أنزل من السحاب مطرًا فأخرج به نبات كل شيء, فأخرج من النبات زرعًا وشجرًا أخضر, ثم أخرح من الزرع حَبًّا يركب بعضه بعضًا, كسنابل القمح والشعير والأرز, وأخرج من طلع النخل -وهو ما تنشأ فيه عذوق الرطب- عذوقًا قريبة التناول, وأخرج سبحانه بساتين من أعناب, وأخرج شجر الزيتون والرمان الذي يتشابه في ورقه ويختلف في ثمره شكلا وطعمًا وطبعًا. انظروا أيها الناس إلى ثمر هذا النبات إذا أثمر, وإلى نضجه وبلوغه حين يبلغ. إن في ذلكم - أيها الناس - لدلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته لقوم يصدقون به تعالى ويعملون بشرعه. وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) وجعل هؤلاء المشركون الجن شركاء لله تعالى في العبادة; اعتقادًا منهم أنهم ينفعون أو يضرون, وقد خلقهم الله تعالى وما يعبدون من العدم, فهو المستقل بالخلق وحده, فيجب أن يستقل بالعبادة وحده لا شريك له. ولقد كذب هؤلاء المشركون على الله تعالى حين نسبوا إليه البنين والبنات; جهلا منهم بما يجب له من صفات الكمال, تنزَّه وعلا عما نسبه إليه المشركون من ذلك الكذب والافتراء. بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) والله تعالى هو الذي أوجد السموات والأرض وما فيهن على غير مثال سابق. كيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟ تعالى الله عما يقول المشركون علوًّا كبيرًا, وهو الذي خلق كل شيء من العدم, ولا يخفى عليه شيء من أمور الخلق. ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) ذلكم -أيها المشركون- هو ربكم جل وعلا لا معبود بحق سواه, خالق كل شيء فانقادوا واخضعوا له بالطاعة والعبادة. وهو سبحانه على كل شيء وكيل وحفيظ, يدبر أمور خلقه. لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) لا ترى اللهَ الأبصارُ في الدنيا, أما في الدار الآخرة فإن المؤمنين يرون ربهم بغير إحاطة, وهو سبحانه يدرك الأبصار ويحيط بها, ويعلمها على ما هي عليه, وهو اللطيف بأوليائه الذي يعلم دقائق الأشياء، الخبير الذي يعلم بواطنها. قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: قد جاءتكم براهين ظاهرة تبصرون بها الهدى من الضلال, مما اشتمل عليها القرآن, وجاء بها الرسول عليه الصلاة والسلام, فمَن تبيَّن هذه البراهين وآمن بمدلولها فنَفْغُ ذلك لنفسه, ومَن لم يبصر الهدى بعد ظهور الحجة عليه فعلى نفسه جنى, وما أنا عليكم بحافظ أحصي أعمالكم, وإنما أنا مبلغ, والله يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء وَفْق علمه وحكمته. وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) وكما بيَّنَّا في هذا القرآن للمشركين البراهين الظاهرة في أمر التوحيد والنبوة والمعاد نبيِّن لهم البراهين في كل ما جهلوه فيقولون عند ذلك كذبًا: تعلمت من أهل الكتاب, ولنبين -بتصريفنا الآيات- الحقَّ لقوم يعلمونه, فيقبلونه ويتبعونه, وهم المؤمنون برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه. اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (106) اتبع -أيها الرسول- ما أوحيناه إليك من الأوامر والنواهي التي أعظمُها توحيد الله سبحانه والدعوة إليه, ولا تُبال بعناد المشركين, وادعائهم الباطل. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) ولو شماء الله تعالى أن لا يشرك هؤلاء المشركون لما أشركوا, لكنه تعالى عليم بما سيكون من سوء اختيارهم واتباعهم أهواءهم المنحرفة. وما جعلناك -أيها الرسول- عليهم رقيبًا تحفظ عليهم أعمالهم, وما أنت بقَيِّمٍ عليهم تدبر مصالحهم. وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) ولا تسبوا -أيها المسلمون- الأوثان التي يعبدها المشركون -سدًّا للذريعة- حتى لا يتسبب ذلك في سبهم الله جهلا واعتداءً: بغير علم. وكما حسَّنَّا لهؤلاء عملهم السيئ عقوبة لهم على سوء اختيارهم, حسَّنَّا لكل أمة أعمالها, ثم إلى ربهم معادهم جميعًا فيخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا, ثم يجازيهم بها. وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وأقسم هؤلاء المشركون بأيمان مؤكَّدة: لئن جاءنا محمد بعلامة خارقة لنصدقنَّ بما جاء به, قل -أيها الرسول- : إنما مجيء المعجزات الخارقة من عند الله تعالى, هو القادر على المجيء بها إذا شاء, وما يدريكم أيها المؤمنون: لعل هذه المعجزات إذا جاءت لا يصدِّق بها هؤلاء المشركون. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم, فنحول بينها وبين الانتفاع بآيات الله, فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بآيات القرآن عند نزولها أول مرة, ونتركهم في تمرُّدهم على الله متحيِّرين, لا يهتدون إلى الحق والصواب. وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) ولو أننا أجبنا طلب هؤلاء, فنزَّلنا إليهم الملائكة من السماء, وأحيينا لهم الموتى, فكلموهم, وجمعنا لهم كل شيء طلبوه فعاينوه مواجهة, لم يصدِّقوا بما دعوتهم إليه -أيها الرسول- ولم يعملوا به, إلا من شاء الله له الهداية, ولكن أكثر هؤلاء الكفار يجهلون الحق الذي جئت به من عند الله تعالى. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وكما ابتليناك -أيها الرسول- بأعدائك من المشركين ابتلينا جميع الأنبياء -عليهم السلام- بأعداء مِن مردة قومهم وأعداء من مردة الجن, يُلقي بعضهم إلى بعض القول الذي زيَّنوه بالباطل; ليغتر به سامعه, فيضل عن سبيل الله. ولو أراد ربك -جلَّ وعلا- لحال بينهم وبين تلك العداوة, ولكنه الابتلاء من الله, فدعهم وما يختلقون مِن كذب وزور. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) ولِتميل إليه قلوب الكفار الذين لا يصدقون بالحياة الآخرة ولا يعملون لها, ولتحبَّه أنفسهم, وليكتسبوا من الأعمال السيئة ما هم مكتسبون. وفي هذا تهديد عظيم لهم. أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أغير الله إلهي وإلهكم أطلب حَكَمًا بيني وبينكم, وهو سبحانه الذي أنزل إليكم القرآن مبينًا فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم؟ وبنو إسرائيل الذين آتاهم الله التوراة والإنجيل يعلمون علمًا يقينًا أن هذا القرآن منزل عليك -أيها الرسول- من ربك بالحق, فلا تكونن من الشاكِّين في شيء مما أوحينا إليك. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وتمت كلمة ربك -وهي القرآن- صدقًا في الأخبار والأقوال, وعدلا في الأحكام, فلا يستطيع أحد أن يبدِّل كلماته الكاملة. والله تعالى هو السميع لما يقول عباده, الحليم بظواهر أمورهم وبواطنها. وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) ولو فُرض -أيها الرسول- أنك أطعت أكثر أهل الأرض لأضلُّوك عن دين الله, ما يسيرون إلا على ما ظنوه حقًّا بتقليدهم أسلافهم, وما هم إلا يظنون ويكذبون. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) إن ربك هو أعلم بالضالين عن سبيل الرشاد, وهو أعلم منكم ومنهم بمن كان على استقامة وسداد, لا يخفى عليه منهم أحد. فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) فكلوا من الذبائح التي ذُكِرَ اسم الله عليها, إن كنتم ببراهين الله تعالى الواضحة مصدقين. وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وأيُّ شيء يمنعكم أيها المسلمون من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه, وقد بيَّن الله سبحانه لكم جميع ما حرَّم عليكم؟ لكن ما دعت إليه الضرورة بسبب المجاعة, مما هو محرم عليكم كالميتة, فإنه مباح لكم. وإنَّ كثيرًا من الضالين ليضلون عن سبيل الله أشياعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال بأهوائهم؛ جهلا منهم. إن ربك -أيها الرسول- هو أعلم بمن تجاوز حده في ذلك, وهو الذي يتولى حسابه وجزاءه. وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) واتركوا -أيها الناس- جميع المعاصي, ما كان منها علانية وما كان سرًّا. إن الذين يفعلون المعاصي سيعاقبهم ربهم; بسبب ما كانوا يعملونه من السيئات. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) ولا تأكلوا -أيها المسلمون- من الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها عند الذبح, كالميتة وما ذبح للأوثان والجن, وغير ذلك, وإن الأكل من تلك الذبائح لخروج عن طاعة الله تعالى. وإن مردة الجن لَيُلْقون إلى أوليائهم من شياطين الإنس بالشبهات حول تحريم أكل الميتة, فيأمرونهم أن يقولوا للمسلمين في جدالهم معهم: إنكم بعدم أكلكم الميتة لا تأكلون ما قتله الله, بينما تأكلون مما تذبحونه, وإن أطعتموهم -أيها المسلمون في تحليل الميتة- فأنتم وهم في الشرك سواء. أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) أوَمن كان ميتًا في الضلالة هالكا حائرا, فأحيينا قلبه بالإيمان, وهديناه له, ووفقناه لاتباع رسله, فأصبح يعيش في أنوار الهداية, كمن مثله في الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة, لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص له مما هو فيه؟ لا يستويان, وكما خذلتُ هذا الكافر الذي يجادلكم -أيها المؤمنون- فزيَّنْتُ له سوء عمله, فرآه حسنًا, زيَّنْتُ للجاحدين أعمالهم السيئة; ليستوجبوا بذلك العذاب. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) ومثل هذا الذي حصل مِن زعماء الكفار في "مكة" من الصدِّ عن دين الله تعالى, جعلنا في كل قرية مجرمين يتزعمهم أكابرهم; ليمكروا فيها بالصد عن دين الله, وما يكيدون إلا أنفسهم, وما يُحِسُّون بذلك. وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) وإذا جاءت هؤلاء المشركين من أهل "مكة" حجة ظاهرة على نبوة محمد ... صلى الله عليه وسلم, قال بعض كبرائهم: لن نصدِّق بنبوته حتى يعطينا الله من النبوة والمعجزات مثل ما أعطى رسله السابقين. فردَّ الله تعالى عليهم بقوله: الله أعلم حيث يجعل رسالته أي: بالذين هم أهل لحمل رسالته وتبليغها إلى الناس. سينال هؤلاء الطغاة الذل, ولهم عذاب موجع في نار جهنم; بسبب كيدهم للإسلام وأهله. فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) فمن يشأ الله أن يوفقه لقَبول الحق يشرح صدره للتوحيد والإيمان, ومن يشأ أن يضله يجعل صدره في حال شديدة من الانقباض عن قَبول الهدى, كحال مَن يصعد في طبقات الجو العليا, فيصاب بضيق شديد في التنفس. وكما يجعل الله صدور الكافرين شديدة الضيق والانقباض, كذلك يجحل العذاب على الذين لا يؤمنون به. وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) وهذا الذي بيَّنَّاه لك -أيها الرسول- هو الطريق الموصل إلى رضا ربك وجنته. قد بينَّا البراهين لمن يتذكر من أهل العقول الراجحة. لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) للمتذكرين عند ربهم جل وعلا يوم القيامة دار السلامة والأمان من كل مكروه وهي الجنة, وهو سبحانه ناصرهم وحافظهم جزاءً لهم; بسبب أعمالهم الصالحة. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) واذكر -أيها الرسول- يوم يحشر الله تعالى الكفار وأولياءهم من شياطين الجن فيقول: يا معشر الجن قد أضللتم كثيرًا من الإنس, وقال أولياؤهم من كفار الإنس: ربنا قد انتفع بعضنا من بعض, وبلغنا الأجل الذي أجَّلْتَه لنا بانقضاء حياتنا الدنيا, قال الله تعالى لهم: النار مثواكم, أي: مكان إقامتكم خالدين فيها, إلا مَن شاء الله عدم خلوده فيها من عصاة الموحدين. إن ربك حكيم في تدبيره وصنعه, عليم بجميع أمور عباده. وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) وكما سلَّطْنا شياطين الجن على كفار الإنس, فكانوا أولياء لهم, نسلِّط الظالمين من الإنس بعضهم على بعض في الدنيا; بسبب ما يعملونه من المعاصي. يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) أيها المشركون من الجن والإنس, ألم يأتكم رسل من جملتكم -وظاهر النصوص يدلُّ على أنَّ الرسل من الإنس فقط-, يخبرونكم بآياتي الواضحة المشتملة على الأمر والنهي وبيان الخير والشر, ويحذرونكم لقاء عذابي في يوم القيامة؟ قال هؤلاء المشركون من الإنس والجن: شَهِدْنا على أنفسنا بأن رسلك قد بلغونا آياتك, وأنذرونا لقاء يومنا هذا, فكذبناهم, وخدعت هؤلاء المشركين زينةُ الحياة الدنيا, وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا جاحدين وحدانية الله تعالى ومكذبين لرسله عليهم السلام. ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب, لئلا يؤاخَذَ أحد بظلمه, وهو لم تبلغه دعوة, ولكن أعذرنا إلى الأمم, وما عذَّبنا أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم. وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) ولكل عامل في طاعة الله تعالى أو معصيته مراتب من عمله, يبلِّغه الله إياها, ويجازيه عليها. وما ربك -أيها الرسول- بغافل عما يعمل عباده. وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) وربك -أيها الرسول- الذي أمر الناس بعبادته, هو الغني وحده, وكل خلقه محتاجون إليه, وهو سبحانه ذو الرحمة الواسعة, لو أراد لأهلككم, وأوجد قومًا غيركم يخلفونكم من بعد فنائكم, ويعملون بطاعته تعالى, كما أوجدكم من نسل قوم آخرين كانوا قبلكم. إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) إن الذي يوعدكم به ربكم - أيها المشركون - من العقاب على كفركم واقع بكم, ولن تُعجِزوا ربكم هربًا, فهو قادر على إعادتكم, وإن صرتم ترابًا وعظامًا. قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) قل -أيها الرسول- : يا قوم اعملوا على طريقتكم فإني عامل على طريقتي التي شرعها لي ربي جل وعلا فسوف تعلمون -عند حلول النقمة بكم- مَنِ الذي تكون له العاقبة الحسنة؟ إنه لا يفوز برضوان الله تعالى والجنة مَن تجاوز حده وظلم, فأشرك مع الله غيره. وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وجعل المشركون لله -جلَّ وعلا- جزءًا مما خلق من الزروع والثمار والأنعام يقدمونه للضيوف والمساكين, وجعلوا قسمًا آخر من هذه الأشياء لشركائهم من الأوثان والأنصاب, فما كان مخصصًا لشركائهم فإنه يصل إليها وحدها, ولا يصل إلى الله, وما كان مخصصا لله تعالى فإنه يصل إلى شركائهم. بئس حكم القوم وقسمتهم. وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وكما زيَّن الشيطان للمشركين أن يجعلوا لله تعالى من الحرث والأنعام نصيبًا, ولشركائهم نصيبًا, زيَّنت الشياطين لكثير من المشركين قَتْلَ أولادهم خشية الفقر; ليوقعوا هؤلاء الآباء في الهلاك بقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق, وليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس, فيضلوا ويهلكوا, ولو شاء الله ألا يفعلوا ذلك ما فعلوه, ولكنه قدَّر ذلك لعلمه بسوء حالهم ومآلهم, فاتركهم -أيها الرسول- وشأنهم فيما يفترون من كذب, فسيحكم الله بينك وبينهم. وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وقال المشركون: هذه إبل وزرع حرام, لا يأكلها إلا مَن يأذنون له -حسب ادعائهم- مِن سدنة الأوثان وغيرهم. وهذه إبل حُرِّمت ظهورها, فلا يحل ركوبها والحملُ عليها بحال من الأحوال. وهذه إبل لا يَذكرون اسم الله تعالى عليها في أي شأن من شئونها. فعلوا ذلك كذبًا منهم على الله, سيجزيهم الله بسبب ما كانوا يفترون من كذبٍ عليه سبحانه. وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) وقال المشركون: ما في بطون الأنعام من أجنَّة مباح لرجالنا, ومحرم على نسائنا, إذا ولد حيًّا, ويشركون فيه إذا ولد ميتًا. سيعاقبهم الله إذ شرَّعوا لأنفسهم من التحليل والتحريم ما لم يأذن به الله. إنه تعالى حكيم في تدبير أمور خلقه, عليم بهم. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) قد خسر وهلك الذين قتلوا أولادهم لضعف عقولهم وجهلهم, وحرموا ما رزقهم الله كذبًا على الله. قد بَعُدوا عن الحق, وما كانوا من أهل الهدى والرشاد. فالتحليل والتحريم من خصائص الألوهية في التشريع, والحلال ما أحله الله, والحرام ما حرَّمه الله, وليس لأحد من خَلْقه فردًا كان أو جماعة أن يشرع لعباده ما لم يأذن به الله. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد لكم بساتين: منها ما هو مرفوع عن الأرض كالأعناب, ومنها ما هو غير مرفوع, ولكنه قائم على سوقه كالنخل والزرع, متنوعًا طعمه, والزيتون والرمان متشابهًا منظره, ومختلفًا ثمره وطعمه. كلوا -أيها الناس- مِن ثمره إذا أثمر, وأعطوا زكاته المفروضة عليكم يوم حصاده وقطافه, ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال في إخراج المال وأكل الطعام وغير ذلك. إنه تعالى لا يحب المتجاوزين حدوده بإنفاق المال في غير وجهه. وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) وأوجد من الأنعام ما هو مهيَّأ للحمل عليه لكبره وارتفاعه كالإبل, ومنها ما هو مهيَّأ لغير الحمل لصغره وقربه من الأرض كالبقر والغنم, كلوا مما أباحه الله لكم وأعطاكموه من هذه الأنعام, ولا تحرموا ما أحلَّ الله منها اتباعًا لطرق الشيطان, كما فعل المشركون. إن الشيطان لكم عدو ظاهر العداوة. ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) هذه الأنعام التي رزقها الله عباده من الإبل والبقر والغنم ثمانية أصناف: أربعة منها من الغنم, وهي الضأن ذكورًا وإناثًا, والمعز ذكورًا وإناثًا. قل -أيها الرسول- لأولئك المشركين: هل حَرَّم الله الذكرين من الغنم؟ فإن قالوا: نعم, فقد كذبوا في ذلك; لأنهم لا يحرمون كل ذكر من الضأن والمعز, وقل لهم: هل حَرَّم الله الأنثيين من الغنم؟ فإن قالوا: نعم, فقد كذبوا أيضًا; لأنهم لا يحرمون كل أنثى من ولد الضأن والمعز, وقل لهم: هل حَرَّم الله ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز من الحمل؟ فإن قالوا: نعم, فقد كذبوا أيضًا; لأنهم لا يحرمون كل حَمْل مِن ذلك, خبِّروني بعلم يدل على صحة ما ذهبتم إليه, إن كنتم صادقين فيما تنسبونه إلى ربكم. وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) والأصناف الأربعة الأخرى: هي اثنان من الإبل ذكورًا وإناثًا, واثنان من البقر ذكورًا وإناثًا. قل -أيها الرسول- لأولئك المشركين: أحَرَّم الله الذكرين أم الأنثيين؟ أم حرَّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ذكورًا وإناثًا؟ أم كنتم أيها المشركون حاضرين, إذ وصاكم الد بهذا التحريم للأنعام, فلا أحد أشد ظلمًا ممن اختلق على الله الكذب; ليصرف الناس بجهله عن طريق الهدى. إن الله تعالى لا يوفق للرشد مَن تجاوز حدَّه, فكذب على ربه, وأضلَّ الناس. قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) قل -أيها الرسول- : إني لا أجد فيما أوحى الله إليَّ شيئًا محرمًا على من يأكله مما تذكرون أنه حُرِّم من الأنعام, إلا أن يكون قد مات بغير تذكية, أو يكون دمًا مراقًا, أو يكون لحم خنزير فإنه نجس, أو الذي كانت ذكاته خروجًا عن طاعة الله تعالى; كما إذا كان المذبوح قد ذكر عليه اسم غير الله عند الذبح. فمن اضطر إلى الأكل من هذه المحرمات بسبب الجوع الشديد غير طالب بأكله منها تلذذًا, ولا متجاوز حد الضرورة, فإن الله تعالى غفور له, رحيم به. وقد ثبت - فيما بعد - بالسنة تحريم كل ذي ناب من السباع, ومخلب من الطير, والحمر الأهلية, والكلاب. وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) واذكر -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين ما حرمَّنا على اليهود من البهائم والطير: وهو كل ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنَّعام, وشحوم البقر والغنم, إلا ما عَلِق من الشحم بظهورها أو أمعائها, أو اختلط بعظم الألْية والجنب ونحو ذلك. ذلك التحرم المذكور على اليهود عقوبة مِنَّا لهم بسبب أعمالهم السيئة, وإنَّا لصادقون فيما أخبرنا به عنهم. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( 147 ) فَإِنْ كَذَّبُوك فِيمَا جِئْت بِهِ -فَقُلْ لَهُمْ -رَبّكُمْ ذُو رَحْمَة وَاسِعَة حَيْثُ لَمْ يُعَاجِلكُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَفِيهِ تَلَطُّف بِدُعَائِهِمْ إلَى الْإِيمَان "وَلَا يُرَدّ بَأْسه" عَذَابه إذَا جَاءَ . سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ( 148 ) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّه مَا أَشْرَكنَا- نَحْنُ -وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء فَإِشْرَاكنَا وَتَحْرِيمنَا بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ رَاضٍ بِهِ -كَذَلِكَ- كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ "كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ" رُسُلهمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسنَا عَذَابنَا-قُلْ- هَلْ عِنْدكُمْ مِنْ عِلْم بِأَنَّ اللَّه رَاضٍ- بِذَلِكَ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا- أَيْ لَا عِلْم عِنْدكُمْ "إنْ" مَا "تَتَّبِعُونَ" فِي ذَلِكَ "إلَّا الظَّنّ وَإِنْ مَاأَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ تَكْذِبُونَ فِيهِ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ( 149 ) يَقُول تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :قُلْ :- لَهُمْ يَا مُحَمَّد فَلِلَّهِ الْحُجَّة الْبَالِغَة - أَيْ لَهُ الْحِكْمَة التَّامَّة وَالْحُجَّة الْبَالِغَة فِي هِدَايَة مِنْ هُدًى وَإِضْلَال مَنْ ضَلَّ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ فَكُلّ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَته وَاخْتِيَاره وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيَبْغَض الْكَافِرِينَ -كَمَا قَالَ تَعَالَى - وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى- وَقَالَ تَعَالَى - وَلَوْ شَاءَ رَبّك لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْض - وَقَوْله- وَلَوْ شَاءَ رَبّك لَجَعَلَ النَّاس أُمَّة وَاحِدَة وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبّك وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَة رَبّك لَأَمْلَأَن جَهَنَّم مِنْ الْجِنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " قَالَ الضَّحَّاك : لَا حُجَّة لِأَحَدٍ عَصَى اللَّه وَلَكِنْ الْحُجَّة الْبَالِغَة عَلَى عِبَاده . قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ( 150 ) وَقَوْله تَعَالَى - قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ - أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّه حَرَّمَ هَذَا - أَيْ هَذَا الَّذِي حَرَّمْتُمُوهُ وَكَذَّبْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ عَلَى اللَّه فِيهِ فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَد مَعَهُمْ أَيْ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَشْهَدُونَ وَالْحَالَة هَذِهِ كَذِبًا وَزُورًا وَلَا تَتَّبِع أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ- وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ- أَيْ يُشْرِكُونَ بِهِ وَيَجْعَلُونَ لَهُ عَدِيلًا . قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ( 151 ) -قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ- أَقْرَأ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ مُفَسِّرَة لَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَ أَحْسِنُوا -بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادكُمْ بِالْوَأْدِ -مِنْ أَجْل إمْلَاق فَقْر تَخَافُونَهُ نَحْنُ نَرْزُقكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِش- الْكَبَائِر كَالزِّنَا-مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ- أَيْ عَلَانِيَتهَا وَسِرّهَا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إلَّا بِالْحَقِّ" كَالْقَوَدِ وَحَدّ الرِّدَّة وَرَجْم الْمُحْصَن -ذَلِكُمْ- الْمَذْكُور "وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" تَتَدَبَّرُونَ. وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( 152 ) -وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيم إلَّا بِاَلَّتِي- أَيْ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَن وَهِيَ مَا فِيهِ صَلَاحه حَتَّى يَبْلُغ أَشُدّهُ بِأَنْ يَحْتَلِم "وَأَوْفُوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ بِالْعَدْلِ وَتَرْك الْبَخْس -لَا نُكَلِّف نَفْسًا إلَّا وُسْعهَا- طَاقَتهَا فِي ذَلِكَ فَإِنْ أَخْطَأَ فِي الْكَيْل وَالْوَزْن وَاَللَّه يَعْلَم صِحَّة نِيَّته فَلَا مُؤَاخَذَة عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيث -وَإِذَا قُلْتُمْ- فِي حُكْم أَوْ غَيْره فَاعْدِلُوا بِالصِّدْقِ وَلَوْ كَانَ الْمَقُول لَهُ أَوْ عَلَيْهِ -ذَا قُرْبَى- قَرَابَة وَبِعَهْدِ اللَّه أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ بِالتَّشْدِيدِ تَتَّعِظُونَ وَالسُّكُون. وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( 153 ) -وَأَنَّ- بِالْفَتْحِ عَلَى تَقْدِير اللَّام وَالْكَسْر اسْتِئْنَافًا -هَذَا -الَّذِي وَصَّيْتُكُمْ بِهِ -صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا- حَال فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل الطُّرُق الْمُخَالِفَة لَهُ فَتَفَرَّقَ فِيهِ حَذْف إحْدَى التَّاءَيْنِ تَمِيل بِكُمْ عَنْ سَبِيله دِينه . ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ( 154 ) -ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب- التَّوْرَاة وَثُمَّ لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَار تَمَامًا لِلنِّعْمَةِ عَلَى الَّذِي أَحْسَن بِالْقِيَامِ بِهِ "وَتَفْصِيلًا" بَيَانًا لِكُلِّ شَيْء يُحْتَاج إلَيْهِ فِي الدِّين -وَهُدًى وَرَحْمَة لَعَلَّهُمْ- أَيْ بَنِي إسْرَائِيل بِلِقَاءِ رَبّهمْ، بِالْبَعْثِ . وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( 155 ) وَبَعْدهَا - وَهَذَا كِتَاب أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَك- الْآيَة . وَقَالَ تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقّ مِنْ عِنْدنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْل مَا أُوتِيَ مُوسَى- قَالَ تَعَالَى - أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْل قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ-" وَقَالَ تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنْ الْجِنّ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا قَوْمنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْد مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقّ - الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى - تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَن وَتَفْصِيلًا - أَيْ آتَيْنَاهُ الْكِتَاب الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِ تَمَام كَامِلًا جَامِعًا لِمَا يَحْتَاج إِلَيْهِ فِي شَرِيعَته -كَقَوْلِهِ- وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاح مِنْ كُلّ شَيْء ، الْآيَة . وَقَوْله تَعَالَى -" عَلَى الَّذِي أَحْسَن " أَيْ جَزَاء عَلَى إِحْسَانه فِي الْعَمَل وَقِيَامه بِأَوَامِرِنَا وَطَاعَتنَا -كَقَوْلِهِ- " هَلْ جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان - وَكَقَوْلِهِ - وَإِذْ اِبْتَلَى إِبْرَاهِيم رَبّه بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلك لِلنَّاسِ إِمَامًا - وَكَقَوْلِهِ- وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا و كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَن يَقُول أَحْسَن فِيمَا أَعْطَاهُ اللَّه وَقَالَ قَتَادَة مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا تَمَّمَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَة وَاخْتَارَ اِبْن جَرِير أَنَّ تَقْدِيره ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب تَمَامًا عَلَى إِحْسَانه فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي مَصْدَرِيَّة كَمَا قِيلَ فِي- قَوْله تَعَالَى- وَخُضْتُمْ كَاَلَّذِي خَاضُوا- أَيْ كَخَوْضِهِمْ وَقَالَ اِبْن رَوَاحَة . أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ( 156 ) قَالَ اِبْن جَرِير مَعْنَاهُ وَهَذَا كِتَاب أَنْزَلْنَاهُ لِئَلَّا تَقُولُوا - إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَاب عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلنَا - يَعْنِي لِيَنْقَطِع عُذْركُمْ- كَقَوْلِهِ تَعَالَى - وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبهُمْ مُصِيبَة بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ فَيَقُولُوا رَبّنَا لَوْلَا أَرْسَلْت إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِع آيَاتك الْآيَة . وَقَوْله تَعَالَى- عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلنَا - قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس هُمْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ وَقَتَادَة وَغَيْر وَاحِد وَقَوْله - وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتهمْ لَغَافِلِينَ - أَيْ وَمَا كُنَّا نَفْهَم مَا يَقُولُونَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِلِسَانِنَا وَنَحْنُ فِي غَفْلَة وَشُغْل مَعَ ذَلِكَ عَمَّا هُمْ فِيهِ . أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ( 157 ) -وَقَوْله - أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَاب لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ، أَيْ وَقَطَعْنَا تَعَلُّلكُمْ أَنْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فِيمَا أُوتُوهُ- كَقَوْلِهِ- وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْد أَيْمَانهمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِير لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَم " الْآيَة . وَهَكَذَا قَالَ هَهُنَا - فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَة مِنْ رَبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة - يَقُول فَقَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّه عَلَى لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ النَّبِيّ الْعَرَبِيّ قُرْآن عَظِيم فِيهِ بَيَان لِلْحَلَالِ وَالْحَرَام وَهُدًى لِمَا فِي الْقُلُوب وَرَحْمَة مِنْ اللَّه بِعِبَادِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ وَيَقْتَفُونَ مَا فِيهِ -وَقَوْله تَعَالَى- فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّه وَصَدَفَ عَنْهَا أَيْ لَمْ يَنْتَفِع بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَلَا اِتَّبَعَ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَلَا تَرَكَ غَيْره بَلْ صَدَفَ عَنْ اِتِّبَاع آيَات اللَّه أَيْ صَرَفَ النَّاس وَصَدَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ قَالَهُ السُّدِّيّ وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَصَدَفَ عَنْهَا أَعْرَضَ عَنْهَا وَقَوْل السُّدِّيّ هَهُنَا فِيهِ قُوَّة لِأَنَّهُ قَالَ " فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّه وَصَدَفَ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّل السُّورَة" وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسهمْ- وَقَالَ تَعَالَى - الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّه زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْق الْعَذَاب وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة " سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتنَا سُوء الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ، وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد فِيمَا قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة - فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّه وَصَدَف عَنْهَا- أَيْ لَا آمَنَ بِهَا وَلَا عَمِلَ بِهَا -كَقَوْلِهِ تَعَالَى - فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآيَات الدَّالَّة عَلَى اِشْتِمَال الْكَافِر عَلَى التَّكْذِيب بِقَلْبِهِ وَتَرْك الْعَمَل بِجَوَارِحِهِ وَلَكِنَّ كَلَام السُّدِّيّ أَقْوَى وَأَظْهَر وَاَللَّه أَعْلَم لِأَنَّ اللَّه قَالَ ، فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّه وَصَدَف عَنْهَا " كَقَوْلِهِ تَعَالَى " الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّه زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْق الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ . هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) هل ينتظر الذين أعرضوا وصدوا عن سبيل الله إلا أن يأتيهم ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم, أو ياتي ربك -أيها الرسول- للفصل بين عباده يوم القيامة, أو يأتي بعض أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على مجيئها, وهي طلوع الشمس من مغربها؟ فحين يكون ذلك لا ينفع نفسا إيمانها, إن لم تكن آمنت من قبل, ولا يُقبل منها إن كانت مؤمنة كسب عمل صالح إن لم تكن عاملة به قبل ذلك. قل لهم -أيها الرسول- : انتظروا مجيء ذلك; لتعلموا المحق من المبطل, والمسيء من المحسن, إنا منتظرون ذلك. إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) إن الذين فرقوا دينهم بعد ما كانوا مجتمعين على توحيد الله والعمل بشرعه, فأصبحوا فرقا وأحزابا, إنك -أيها الرسول- بريء منهم, إنما حكمهم إلى الله تعالى, ثم يخبرهم بأعمالهم, فيجازي من تاب منهم وأحسن بإحسانه, ويعاقب المسيء بإساءته. مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) من لقي ربه يوم القيامة بحسنة من الأعمال الصالحة فله عشر حسنات أمثالها, ومن لقي ربه بسيئة فلا يعاقب إلا بمثلها, وهم لا يظلمون مثقال ذرة. قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم الموصل إلى جنته, وهو دين الإسلام القائم بأمر الدنيا والآخرة, وهو دين التوحيد دين إبراهيم عليه السلام, وما كان إبراهيم عليه السلام من المشركين مع الله غيره. قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إن صلاتي, ونسكي, أي: ذبحي لله وحده, لا للأصنام, ولا للأموات, ولا للجن, ولا لغير ذلك مما تذبحونه لغير الله, وعلى غير اسمه كما تفعلون, وحياتي وموتي لله تعالى رب العالمين. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) لا شريك له في ألوهيته ولا في ربوبيته ولا في صفاته وأسمائه, وبذلك التوحيد الخالص أمرني ربي جل وعلا وأنا أول من أقر وانقاد لله من هذه الأمة. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) قل -أيها الرسول- : أغير الله أطلب إلها, وهو خالق كل شيء ومالكه ومدبره؟ ولا يعمل أي إنسان عملا سيئا إلا كان إثمه عليه, ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى, ثم إلى ربكم معادكم يوم القيامة, فيخبركم بما كنتم تختلفون فيه من أمر الدين. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) والله سبحانه هو الذي جعلكم تخلفون من سبقكم في الأرض بعد أن أهلكهم الله, واستخلفكم فيها; لتعمروها بعدهم بطاعة ربكم, ورفع حكم في الرزق والقوة فوق بعض درجات, ليبلوكم فيما أعطاكم من نعمه, فيظهر للناس الشاكر من غيره. إن ربك سريع العقاب لمن كفر به وعصاه, وإنه لغفور لمن آمن به وعمل صالحا وتاب من الموبقات, رحيم به, والغفور والرحيم اسمان كريمان من أسماء الله الحسنى. تم بحمدالله تفسير سورة الأنعام |
|
|
12-01-2011, 10:40 AM | #18 | |
مشرف قسم
|
سورة الأنعام - مكية - عدد آياتها 165 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) الثناء على الله بصفاته التي كلّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، الذي أنشأ السموات والأرض وما فيهن, وخلق الظلمات والنور, وذلك بتعاقب الليل والنهار. وفي هذا دلالة على عظمة الله تعالى, واستحقاقه وحده العبادة, فلا يجوز لأحد أن يشرك به غيره. ومع هذا الوضوح فإن الكافرين يسوون بالله غيره, ويشركون به. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) هو الذي خلق أباكم آدم من طين وأنتم سلالة منه, ثم كتب مدة بقائكم في هذه الحياة الدنيا, وكتب أجلا آخر محدَّدًا لا يعلمه إلا هو جل وعلا وهو يوم القيامة, ثم أنتم بعد هذا تشكُّون في قدرة الله تعالى على البعث بعد الموت. وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) والله سبحانه هو الإله المعبود في السموات والأرض. ومن دلائل ألوهيته أنه يعلم جميع ما تخفونه -أيها الناس- وما تعلنونه, ويعلم جميع أعمالكم من خير أو شر; ولهذا فإنه -جلَّ وعلا- وحده هو الإله المستحق للعبادة. وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) هؤلاء الكفار الذين يشركون مع الله تعالى غيره قد جاءتهم الحجج الواضحة والدلالات البينة على وحدانية الله -جل وعلا- وصِدْقِ محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته, وما جاء به, ولكن ما إن جاءتهم حتى أعرضوا عن قبولها, ولم يؤمنوا بها. فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (5) لقد جحد هؤلاء الكفار الحقَّ الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم وسخروا من دعائه; جهلا منهم بالله واغترارًا بإمهاله إياهم, فسوف يرون ما استهزءوا به أنه الحق والصدق, ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم, ويجازيهم عليه. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) ألم يعلم هؤلاء الذين يجحدون وحدانية الله تعالى واستحقاقه وحده العبادة, ويكذبون رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم من هلاك وتدمير, وقد مكنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم أيها الكافرون, وأنعمنا عليهم بإنزال الأمطار وجريان الأنهار من تحت مساكنهم؛ استدراجًا وإملاءً لهم, فكفروا بنعم الله وكذبوا الرسل, فأهلكناهم بسبب ذنونهم, وأنشأنا من بعدهم أممًا أخرى خلفوهم في عمارة الأرض؟ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) ولو نزَّلنا عليك -أيها الرسول- كتابًا من السماء في أوراق فلمسه هؤلاء المشركون بأيديهم لقالوا: إنَّ ما جئت به -أيها الرسول- سحر واضح بيِّن. وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ (8) وقال هؤلاء المشركون: هلا أنزل الله تعالى على محمد مَلَكًا من السماء; ليصدقه فيما جاء به من النبوة, ولوأنزلنا مَلَكًّا من السماء إجابة لطلبهم لقضي الأمر بإهلاكهم, ثم لا يمهلون لتوبة, فقد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون. وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) ولو جعلنا الرسول المرسل إليهم مَلَكًا إذ لم يقتنعوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, لجعلنا ذلك الملك في صورة البشر, حتى يستطيعوا السماع منه ومخاطبته; إذ ليس بإمكانهم رؤية الملك على صورته الملائكية, ولو جاءهم الملك بصورة رجل لاشتبه الأمر عليهم, كما اشتبه عليهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم. وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (10) ولمَّا كان طلبهم إنزال الملك على سبيل الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم بيَّن الله تعالى له أن الاستهزاء بالرسل عليهم السلام ليس أمرا حادثا, بل قد وقع من الكفار السابقين مع أنبيائهم, فأحاط بهم العذاب الذي كانوا يهزؤون به وينكرون وقوعه. قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قل لهم -أيها الرسول- : سيروا في الأرض ثم انظروا كيف أعقب الله المكذبين الهلاك والخزي؟ فاحذروا مثل مصارعهم, وخافوا أن يحلَّ بكم مثل الذي حل بهم. قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) قل -أيها الرسول-لهؤلاء المشركين: لمن مُلكُ السموات والأرض وما فيهن؟ قل: هو لله كما تقرون بذلك وتعلمونه, فاعبدوه وحده. كتب الله على نفسه الرحمة فلا بعجل على عباده بالعقوبة. ليجمعنكم إلى يوم القيامة الذي لا شك فيه للحساب والجزاء. الذين أشركوا بالله أهلكوا أنفسهم, فهم لا يوحدون الله, ولا يصدقون بوعده ووعيده, ولا يقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) ولله ملك كل شيء في السموات والأرض, سكن أو تحرك, خفي أو ظهر, الجميع عبيده وخلقه, وتحت قهره وتصرفه وتدبيره, وهو السميع لأقوال عباده, الحليم بحركاتهم وسرائرهم. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (14) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين مع الله تعالى غيره: أغير الله تعالى أتخذ وليًّا ونصيرًا , وهو خالق السموات والأرض وما فيهن, وهو الذي يرزق خلقه ولا يرزقه أحد؟ قل -أيها الرسول- : إني أُمِرْتُ أن أكون أول مَن خضع وانقاد له بالعبودية من هذه الأمة, ونهيت أن أكون من المشركين معه غيره. قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين مع الله غيره: إني أخاف إن عصيت ربي, فخالفت أمره, وأشركت معه غيره في عبادته, أن ينزل بي عذاب عظيم يوم القيامة. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) من يصرف الله عنه ذلك العذاب الشديد فقد رحمه, وذلك الصرف هو الظفر البين بالنجاة من العذاب العظيم. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وإن يصبك الله تعالى -أيها الإنسان- بشيء يضرك كالفقر والمرض فلا كاشف له إلا هو, وإن يصبك بخير كالغنى والصحة فلا راد لفضله ولا مانع لقضائه, فهو -جل وعلا- القادر على كل شيء. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) والله سبحانه هو الغالب القاهر فوق عباده; خضعت له الرقاب وذَلَّتْ له الجبابرة, وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها وَفْق حكمت, الخبير الذي لا يخفى عليه شيء. ومن اتصف بهذه الصفات يجب ألا يشرك به. وفي هذه الآية إثبات الفوقية لله -تعالى- على جميع خلقه, فوقية مطلقة تليق بجلاله سبحانه. قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) قل -أيها الرسول لهؤلاء المشركين-: أيُّ شيء أعظم شهادة في إثبات صدقي فيما أخبرتكم به أني رسول الله؟ قل: الله شهيد بيني وبينكم أي: هو العالم بما جئتكم به وما أنتم قائلونه لي, وأوحى الله إليَّ هذا القرآن مِن أجل أن أنذركم به عذابه أن يحلَّ بكم, وأنذر به مَن وصل إليه من الأمم. إنكم لتقرون أن مع الله معبودات أخرى تشركونها به. قل لهم -أيها الرسول-: إني لا أشهد على ما أقررتم به, إنما الله إله واحد لا شريك له, وإنني بريء من كل شريك تعبدونه معه. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) الذين آتيناهم التوراة والإنجيل, يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم بصفاته المكتوبة عندهم كمعرفتهم أبناءهم, فكما أن أبناءهم لا يشتبهون أمامهم بغيرهم, فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم لا يشتبه بغيره لدقة وصفه في كتبهم, ولكنهم اتبعوا أهواءهم, فخسروا أنفسهم حبن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) لا أحد أشد ظلمًا ممَّن تَقَوَّلَ الكذب على الله تعالى, فزعم أن له شركاء في العبادة, أو ادَّعى أن له ولدًا أو صاحبة, أو كذب ببراهينه وأدلته التي أيَّد بها رسله عليهم السلام. إنه لا يفلح الظالمون الذين افتروا الكذب على الله, ولا يظفرون بمطالبهم في الدنيا ولا في الآخرة. وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) وليحذر هؤلاء المشركون المكذبون بآيات الله تعالى يوم نحشرهم ثم نقول لهم: أين آلهتكم التي كنتم تدَّعون أنهم شركاء مع الله تعالى ليشفعوا لكم؟ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) ثم لم تكن إجابتهم حين فتنوا واختبروا بالسؤال عن شركائهم إلا أن تبرؤوا منهم, وأقسموا بالله ربهم أنهم لم يكونوا مشركين مع الله غيره. انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) تأمل -أيها الرسول- كيف كذب هؤلاء المشركون على أنفسهم وهم في الآخرة قد تبرؤوا من الشرك؟ وذهب وغاب عنهم ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) ومن هؤلاء المشركين من يستمع إليك القرآن -أيها الرسول-، فلا يصل إلى قلوبهم; لأنهم بسبب اتباعهم أهواءهم جعلنا على قلوبهم أغطية; لئلا يفقهوا القرآن, وجعلنا في آذانهم ثقلا وصممًا فلا تسمع ولا تعي شيئًا, وإن يروا الآيات الكثيرة الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم لا يصدقوا بها, حتى إذا جاؤوك -أيها الرسول- بعد معاينة الآيات الدالة على صدقك يخاصمونك: يقول الذين جحدوا آيات الله: ما هذا الذي نسمع إلا ما تناقله الأولون من حكايات لا حقيقة لها. وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وهؤلاء المشركون ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والاستماع إليه, ويبتعدون بأنفسهم عنه, وما يهلكون -بصدهم عن سبيل الله- إلا أنفسهم, وما يحسون أنهم يعملون لهلاكها. وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (27) ولو ترى -أيها الرسول- هؤلاء المشركين يوم القيامة لرأيت أمرًا عظيمًا, وذلك حين يُحْبَسون على النار, ويشاهدون ما فيها من السلاسل والأغلال, ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال, فعند ذلك قالوا: ياليتنا نُعاد إلى الحياة الدنيا, فنصدق بآيات الله ونعمل بها, ونكون من المؤمنين. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) ليس الأمر كذلك, بل ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت به الرسل في الدنيا, وإن كانوا يظهرون لأتباعه خلافه. ولو فرض أن أعيدوا إلى الدنيا فأمهلوا لرجعوا إلى العناد بالكفر والتكذيب. وإنهم لكاذبون في قولهم: لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا, وكنا من المؤمنين. وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وقال هؤلاء المشركون المنكرون للبعث: ما الحياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها, وما نحن بمبعوثين بعد موتنا. وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30) ولو ترى -أيها الرسول- منكري البعث إذ حُبسوا بين يدي الله تعالى لقضائه فيهم يوم القيامة, لرأيت أسوأ حال, إذ يقول الله جل وعلا أليس هذا بالحق, أي: أليس هذا البعث الذي كنتم تنكرونه في الدنيا حقًّا؟ قالوا: بلى وربنا إنه لحق, قال الله تعالى: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أي:العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا بسبب جحودكم بالله تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) قد خسر الكفار الذين أنكروا البعث بعد الموت, حتى إذا قامت القيامة, وفوجئوا بسوء المصير, نادَوا على أنفسهم بالحسرة على ما ضيَّعوه في حياتهم الدنيا, وهم يحملون آثامهم على ظهورهم, فما أسوأ الأحمال الثقيلة السيئة التي يحملونها!! وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) وما الحياة الدنيا في غالب أحوالها إلا غرور وباطل, والعمل الصالح للدار الآخرة خير للذين يخشون الله, فيتقون عذابه بطاعته واجتناب معاصيه. أفلا تعقلون -أيها المشركون المغترون بزينة الحياة الدنيا- فتقدِّموا ما يبقى على ما يفنى؟ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) إنا نعلم إنه ليُدْخل الحزنَ إلى قلبك تكذيبُ قومك لك في الظاهر, فاصبر واطمئن; فإنهم لا يكذبونك في قرارة أنفسهم, بل يعتقدون صدقك, ولكنهم لظلمهم وعدوانهم يجحدون البراهين الواضحة على صدقك, فيكذبونك فيما جئت به. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) ولقد كذَّب الكفارُ رسلا من قبلك أرسلهم الله تعالى إلى أممهم وأوذوا في سبيله, فصبروا على ذلك ومضوا في دعوتهم وجهادهم حتى أتاهم نصر الله. ولا مبدل لكلمات الله, وهي ما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مِن وعده إياه بالنصر على مَن عاداه. ولقد جاءك -أيها الرسول- مِن خبر مَن كان قبلك من الرسل, وما تحقق لهم من نصر الله, وما جرى على مكذبيهم من نقمة الله منهم وغضبه عليهم, فلك فيمن تقدم من الرسل أسوة وقدوة. وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم. وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ (35) وإن كان عَظُمَ عليك -أيها الرسول- صدود هؤلاء المشركين وانصرافهم عن الاستجابة لدعوتك, فإن استطعت أن تتخذ نفقًا في الأرض, أو مصعدًا تصعد فيه إلى السماء, فتأتيهم بعلامة وبرهان على صحة قولك غير الذي جئناهم به فافعل. ولو شاء الله لَجَمعهم على الهدى الذي أنتم عليه ووفَّقهم للإيمان, ولكن لم يشأ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه, فلا تكونن -أيها الرسول- من الجاهلين الذين اشتد حزنهم, وتحسَّروا حتى أوصلهم ذلك إلى الجزع الشديد إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) إنما يجيبك -أيها الرسول- إلى ما دعوت إليه من الهدى الذين يسمعون الكلام سماع قبول. أما الكفار فهم في عداد الموتى; لأن الحياة الحقيقية إنما تكون بالإسلام. والموتى يخرجهم الله من قبورهم أحياء, ثم يعودون إليه يوم القيامة ليوفوا حسابهم وجزاءهم. وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وقال المشركون -تعنتًا واستكبارًا-: هلا أنزل الله علامة تدل على صدق محمد ... صلى الله عليه وسلم من نوع العلامات الخارقة, قل لهم -أيها الرسول-: إن الله قادر على أن ينزل عليهم آية, ولكن أكثرهم لا يعلمون أن إنزال الآيات إنما يكون وَفْق حكمته تعالى. وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) ليس في الأرض حيوان يَدِبُّ على الأرض أو طائر يطير في السماء بجناحيه إلا جماعات متجانسة الخلق مثلكم. ما تركنا في اللوح المحفوظ شيئًا إلا أثبتناه, ثم إنهم إلى ربهم يحشرون يوم القيامة, فيحاسب الله كلا بما عمل. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) والذين كذبوا بحجج الله تعالى صمٌّ لا يسمعون ما ينفعهم, بُكْمٌ لا يتكلمون بالحق, فهم حائرون في الظلمات, لم يختاروا طريقة الاستقامة. من يشأ الله إضلاله يضلله, ومن يشأ هدايته يجعله على صراط مستقيم. قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن جاءكم عذاب الله في الدنيا أو جاءتكم الساعة التي تبعثون فيها: أغير الله تدعون هناك لكشف ما نزل بكم من البلاء, إن كتم محقين في زعمكم أن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله تنفع أو تضر؟ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) بل تدعون -هناك- ربكم الذي خلقكم لا غيره, وتستغيثون به, فيفرج عنكم البلاء العظيم النازل بكم إن شاء; لأنه القادر على كل شيء, وتتركون حينئذ أصنامكم وأوثانكم وأولياءكم. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) ولقد بعثنا -أيها الرسول- إلى جماعات من الناس من قبلك رسلا يدعونهم إلى الله تعالى, فكذَّبوهم, فابتليناهم في أموالهم بشدة الفقر وضيق المعيشة, وابتليناهم في أجسامهم بالأمراض والآلام; رجاء أن يتذللوا لربهم, ويخضعوا له وحده بالعبادة. فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فهلا إذ جاء هذه الأمم المكذبة بلاؤنا تذللوا لنا, ولكن قست قلوبهم, وزيَّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من المعاصي, ويأتون من الشرك. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فلما تركوا العمل بأوامر الله تعالى معرضين عنها, فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الرزق فأبدلناهم بالبأساء رخاءً في العيش, وبالضراء صحة في الأجسام; استدراجا منا لهم, حتى إذا بطروا, وأعجبوا بما أعطيناهم من الخير والنعمة أخذناهم بالعذاب فجأة, فإذا هم آيسون منقطعون من كل خير. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) فاستؤصل هؤلاء القوم وأُهلكوا إذ كفروا بالله وكذَّبوا رسله, فلم يبق منهم أحد. والشكر والثناء لله تعالى -خالق كل شيء ومالكه- على نصرة أوليائه وهلاك أعدائه. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن أذهب الله سمعكم فأصمَّكم, وذهب بأبصاركم فأعماكم, وطبع على قلوبكم فأصبحتم لا تفقهون قولا أيُّ إله غير الله جل وعلا يقدر على ردِّ ذلك لكم؟! انظر -أيها الرسول- كيف ننوِّع لهم الحجج, ثم هم بعد ذلك يعرضون عن التذكر والاعتبار؟ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن نزل بكم عقاب اللة فجأة وأنتم لا تشعرون به, أو ظاهرًا عِيانًا وأنتم تنظرون إليه: هل يُهلك إلا القوم الظالمون الذين تجاوزوا الحد, بصرفهم العبادة لغير الله تعالى وبتكذيبهم رسله؟ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وما نرسل رسلنا إلا مبشرين أهل طاعتنا بالنعيم المقيم, ومنذرين أهل المعصية بالعذاب الأليم, فمن آمن وصدَّق الرسل وعمل صالحًا فأولئك لا يخافون عند لقاء ربهم, ولا يحزنون على شيء فاتهم من حظوظ الدنيا. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) والذين كذَّبوا بآياتنا من القرآن والمعجزات فأولئك يصيبهم العذاب يوم القيامة, بسبب كفرهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى. قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّقُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إني لا أدَّعي أني أملك خزائن السموات والأرض, فأتصرف فيها, ولا أدَّعي أني أعلم الغيب, ولا أدَّعي أني ملك, وإنما أنا رسول من عند الله, أتبع ما يوحى إليَّ, وأبلِّغ وحيه إلى الناس, قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: هل يستوي الكافر الذي عَمِي عن آيات الله تعالى فلم يؤمن بها والمؤمن الذي أبصر آيات الله فآمن بها؟ أفلا تتفكرون في آيات الله; لتبصروا الحق فتؤمنوا به؟ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وخوِّف -أيها النبي- بالقرآن الذين يعلمون أنهم يُحشرون إلى ربهم, فهم مصدِّقون بوعد الله ووعيده, ليس لهم غير الله وليّ ينصرهم, ولا شفيع يشفع لهم عنده تعالى, فيخلصهم من عذابه; لعلهم يتقون الله تعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي. وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52) ولا تُبْعد -أيها النبي- عن مجالستك ضعفاء المسلمين الذين يعبدون ربهم أول النهار وآخره, يريدون بأعمالهم الصالحة وجه الله, ما عليك من حساب هؤلاء الفقراء من شيء, إنما حسابهم على الله, وليس عليهم شيء من حسابك, فإن أبعدتهم فإنك تكون من المتجاوزين حدود الله, الذين يضعون الشيء في غير موضعه. وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وكذالك ابتلى الله تعالى بعض عباده ببعض بتباين حظوظهم من الأرزاق والأخلاق, فجعل بعضهم غنيًّا وبعضهم رًا, وبعضهم قويًّا وبعضهم ضعيفًا, فأحوج بعضهم إلى بعض اختبارًا منه لهم بذلك; ليقول الكافرون الأغنياء: أهؤلاء الضعفاء مَنَّ الله عليهم بالهداية إلى الإسلام مِن بيننا؟ أليس الله تعالى بأعلم بمن يشكرون نعمته, فيوفقهم إلى الهداية لدينه؟ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وإذا جاءك -أيها النبي- الذين صَدَّقوا بآيات الله الشاهدة على صدقك من القرآن وغيره مستفتين عن التوبة من ذنوبهم السابقة, فأكرِمْهم بردِّ السلام عليهم, وبَشِّرهم برحمة الله الواسعة; فإنه جلَّ وعلا قد كتب على نفسه الرحمة بعباده تفضلا أنه من اقترف ذنبًا بجهالة منه لعاقبتها وإيجابها لسخط الله -فكل عاص لله مخطئًا أو متعمدًا فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالمًا بالتحريم- ثم تاب من بعده وداوم على العمل الصالح, فإنه تعالى يغفر ذنبه, فهو غفور لعباده التائبين, رحيم بهم. وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) ومثل هذا البيان الذي بيَّنَّاه لك -أيها الرسول- نبيِّن الحجج الواضحة على كل حق ينكره أهل الباطل; ليتبين الحق, وليظهر طريق أهل الباطل المخالفين للرسل. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ (56) قل -أيها الرسول-لهؤلاء المشركين: إن الله عز وجل نهاني أن أعبد الأوثان التي تعبدونها من دونه, وقل لهم: لا أتبع أهواءكم قد ضللت عن الصراط المستقيم إن اتبعت أهواءَكم, وما أنا من المهتدين. قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قل -أيها الرسول لهؤلاء المشركين-: إني على بصيرة واضحة من شريعة الله التي أوحاها إليَّ, وذلك بإفراده وحده بالعبادة, وقد كذَّبتم بهذا, وليس في قدرتي إنزال العذاب الذي تستعجلون به, وما الحكم في تأخر ذلك إلا إلى الله تعالى, يقصُّ الحقَّ, وهو خير مَن يفصل بين الحق والباطل بقضائه وحكمه. قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) قل -أيها الرسول- : لو أنني أملك إنزال العذاب الذي تستحجلونه لأنزلته بكم, وقضي الأمر بيني وبينكم, ولكن ذلك إلى الله تعالى, وهو أعلم بالظالمين الذين تجاوزوا حدَّهم فأشركوا معه غيره. وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وعند الله -جل وعلا- مفاتح الغيب أي: خزائن الغيب, لا يعلمها إلا هو, ومنها: علم الساعة, ونزول الغيث, وما في الأرحام, والكسب في المستقبل, ومكان موت الإنسان, ويعلم كل ما في البر والبحر, وما تسقط من ورقة من نبتة إلا يعلمها, فكل حبة في خفايا الأرض, وكل رطب ويابس, مثبت في كتاب واضح لا لَبْس فيه, وهو اللوح المحفوظ. وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وهو سبحانه الذي يقبض أرواحكم بالليل بما يشبه قبضها عند الموت, ويعلم ما اكتسبتم في النهار من الأعمال, ثم يعيد أرواحكم إلى أجسامكم باليقظة من النوم نهارًا بما يشبه الأحياء بعد الموت; لتُقضى آجالكم المحددة في الدنيا, ثم إلى الله تعالى معادكم بعد بعثكم من قبوركم أحياءً, ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا, ثم يجازيكم بذلك. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) والله تعالى هو القاهر فوق عباده, فوقية مطلقة من كل وجه, تليق بجلاله سبحانه وتعالى. كل شيء خاضع لجلاله وعظمته, ويرسل على عباده ملائكة, يحفظون أعمالهم ويُحْصونها, حتى إذا نزل الموت بأحدهم قبض روحَه مَلكُ الموت وأعوانه, وهم لا يضيعون ما أُمروا به. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) ثم أعيد هؤلاء المتوفون إلى الله تعالى مولاهم الحق. ألا له القضاء والفصل يوم القيامة بين عباده وهو أسرع الحاسبين. قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (63) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: من ينقذكم من مخاوف ظلمات البر والبحر؟ أليس هو اللع تعالى الذي تدعونه في الشدائد متذللين جهرًا وسرًّا؟ تقولون: لئن أنجانا ربنا من هذه المخاوف لنكونن من الشاكرين بعبادته عز وجل وحده لا شريك له. قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قل لهم -أيها الرسول- : الله وحده هو الذي ينقذكم من هذه المخاوف ومن كل شدة, ثم أنتم بعد ذلك تشركون معه في العبادة غيره. قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) قل -أيها الرسول- : الله عز وجل هو القادر وحده على أن يرسل عليكم عذابًا مِن فوقكم كالرَّجْم أو الطوفان, وما أشبه ذلك, أو من تحت أرجلكم كالزلازل والخسف, أو يخلط أمركم عليكم فتكونوا فرقًا متناحرة يقتل بعضكم بعضًا. انظر -أيها الرسول- كيف نُنوِّع حججنا الواضحات لهؤلاء المشركين لعلهم يفهمون فيعتبروا؟ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) وكذَّب بهذا القرآن الكفارُ مِن قومك أيها الرسول, وهو الكتاب الصادق في كل ما جاء به. قل لهم: لست عليكم بحفيظ ولا رقيب, وإنما أنا رسول الله أبلغكم ما أرسلت إليكم. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) لكل خبر قرار يستقر عنده, ونهاية ينتهي إليها, فيتبيَّن الحق من الباطل, وسوف تعلمون -أيها الكفار- عاقبة أمركم عند حلول عذاب الله بكم. وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وإذا رأيت -أيها الرسول- المشركين الذين يتكلمون في آيات القرآن بالباطل والاستهزاء, فابتعد عنهم حتى يأخذوا في حديث آخر, وإن أنساك الشيطان هذا الأمر فلا تقعد بعد تذكرك مع القوم المعتدين, الذين تكلموا في آيات الله بالباطل. وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وما على المؤمنين الذين يخافون الله تعالى, فيطيعون أوامره, ويجتنبون نواهيه من حساب الله للخائضين المستهزئين بآيات الله من شيء, ولكن عليهم أن يعظوهم ليمسكوا عن ذلك الكلام الباطل, لعلهم يتقون الله تعالى. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) واترك -أيها الرسول- هؤلاء المشركين الذين جعلوا دين الإسلام لعبًا ولهوًا; مستهزئين بآيات الله تعالى, وغرَّتهم الحياة الدنيا بزينتها, وذكّر بالقرآن هؤلاء المشركين وغيرهم; كي لا ترتهن نفس بذنوبها وكفرها بربها, ليس لها غير الله ناصر ينصرها, فينقذها من عذاب, ولا شافع يشفع لها عنده, وإن تَفْتَدِ بأي فداء لا يُقْبَل منها. أولئك الذين ارتُهِنوا بذنوبهم, لهم في النار شراب شديد الحرارة وعذاب موجع; بسبب كفرهم بالله تعالى ورسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم وبدين الإسلام. قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أنعبد من دون الله تعالى أوثانًا لا تنفع ولا تضر؟ ونرجع إلى الكفر بعد هداية الله تعالى لنا إلى الإسلام, فنشبه -في رجوعنا إلى الكفر- مَن فسد عقله باستهواء الشياطين له, فَضَلَّ في الأرض, وله رفقة عقلاء مؤمنون يدعونه إلى الطريق الصحيح الذي هم عليه فيأبى. قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنَّ هدى الله الذي بعثني به هو الهدى الحق, وأُمِرنا جميعًا لنسلم لله تعالى رب العالمين بعبادته وحده لا شريك له, فهو رب كل شيء ومالكه. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وكذلك أُمرنا بأن نقيم الصلاة كاملة, وأن نخشاه بفعل أوامره واجتناب نواهيه. وهو -جل وعلا- الذي إليه تُحْشَرُ جميع الخلائق يوم القيامة. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) والله سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض بالحق, واذكر -أيها الرسول- يوم القيامة إذ يقول الله: "كن", فيكون عن أمره كلمح البصر أو هو أقرب, قوله هو الحق الكامل, وله الملك سبحانه وحده, يوم ينفخ المَلَك في "القرن" النفخة الثانية التي تكون بها عودة الأرواح إلى الأجسام. وهو سبحانه الذي يعلم ما غاب عن حواسكم -أيها الناس - وما تشاهدونه, وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها, الخبير بأمور خلقه. والله تعالى هو الذي يختص بهذه الأمور وغيرها بدءًا ونهاية, نشأة ومصيرًا, وهو وحده الذي يجب على العباد الانقياد لشرعه, والتسليم لحكمه, والتطلع لرضوانه ومغفرته. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) واذكر -أيها الرسول- مُحاجَّة إبراهيم عليه السلام لأبيه آزر, إذ قال له: أتجعل من الأصنام آلهة تعبدها من دون الله تعالى؟ إني أراك وقومك في ضلال بيِّن عن طريق الحق. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ (75) وكما هدينا إبراهيم عليه السلام إلى الحق في أمر العبادة نُريه ما تحتوي عليه السموات والأرض من ملك عظيم, وقدرة باهرة, ليكون من الراسخين في الإيمان. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فلما أظلم على إبراهيم عليه السلام الليل وغطَّاه ناظر قومه; ليثبت لهم أن دينهم باطل, وكانوا يعبدون النجوم. رأى إبراهيم عليه السلام كوكبًا, فقال -مستدرجا قومه لإلزامهم بالتوحيد-: هذا ربي, فلما غاب الكوكب, قال: لا أحب الآلهة التي تغيب. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فلما رأى إبراهيم القمر طالعًا قال لقومه -على سبيل استدراج الخصم-: هذا ربي, فلما غاب, قال -مفتقرا إلى هداية ربه-: لئن لم يوفقني ربي إلى الصواب في توحيده, لأكونن من القوم الضالين عن سواء السبيل بعبادة غير الله تعالى. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) فلما رأى الشمس طالعة قال لقومه: هذا ربي, هذا أكبر من الكوكب والقمر, فلما غابت, قال لقومه: إني بريء مما تشركون من عبادة الأوثان والنجوم والأصنام التي تعبدونها من دون الله تعالى. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (79) إني توجَّهت بوجهي في العبادة لله عز وجل وحده, فهو الذي خلق السموات والأرض, مائلا عن الشرك إلى التوحيد, وما أنا من المشركين مع الله غيره. وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وجادله قومه في توحيد الله تعالى قال: أتجادلونني في توحيدي لله بالعبادة, وقد وفقني إلى معرفة وحدانيته, فإن كنتم تخوفونني بآلهتكم أن توقع بي ضررًا فإنني لا أرهبها فلن تضرني, إلا أن يشاء ربي شيئًا. وسع ربي كل شيء علمًا. أفلا تتذكرون فتعلموا أنه وحده المعبود المستحق للعبودية؟ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) وكيف أخاف أوثانكم وأنتم لا تخافون ربي الذي خلقكم, وخلق أوثانكم التي أشركتموها معه في العبادة, من غير حجة لكم على ذلك؟ فأي الفريقين: فريق المشركين وفريق الموحدين أحق بالطمأنينة والسلامة والأمن من عذاب الله؟ إن كنتم تعلمون صدق ما أقول فأخبروني. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ولم يخلطوا إيمانهم بشرك, أولئك لهم الطمأنينة والسلامة, وهم الموفقون إلى طريق الحق. وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وتلك الحجة التي حاجَّ بها إبراهيم عليه السلام قومه هي حجتنا التي وفقناه إليها حتى انقطعت حجتهم. نرفع مَن نشاء من عبادنا مراتب في الدنيا والآخرة. إن ربك حكيم في تدبير خلقه, عليم بهم. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) ومننَّا على إبراهيم عليه السلام بأن رزقناه إسحاق ابنًا ويعقوب حفيدًا, ووفَّقنا كلا منهما لسبيل الرشاد, وكذلك وفَّقنا للحق نوحًا -من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب- وكذلك وفَّقنا للحق من ذرية نوح داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون عليهم السلام, وكما جزينا هؤلاء الأنبياء لإحسانهم نجزي كل محسن. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ (85) وكذلك هدينا زكريا ويحيى وعيسى وإلياس, وكل هؤلاء الأنبياء عليهم السلام من الصالحين. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِه وهدينا كذلك إسماعيل واليسع ويونس ولوطا, وكل هؤلاء الرسل فضَّلناهم على أهل زمانهم. وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) وكذلك وفَّقنا للحق من شئنا هدايته من آباء هؤلاء وذرياتهم وإخوانهم, واخترناهم لديننا وإبلاغ رسالتنا إلى مَن أرسلناهم إليهم, وأرشدناهم إلى طريق صحيح, لا عوج فيه, وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك. ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) ذلك الهدى هو توفيق الله, الذي يوفق به من يشاء من عباده. ولو أن هؤلاء الأنبياء أشركوا بالله -على سبيل الفرض والتقدير- لبطل عملهم; لأن الله تعالى لا يقبل مع الشرك عملا. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أولئك الأنبياء الذين أنعمنا عليهم بالهداية والنبوة هم الذين آتيناهم الكتاب كصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى, وآتيناهم فَهْمَ هذه الكتب, واخترناهم لإبلاغ وحينا, فإن يجحد -أيها الرسول- بآيات هذا القرآن الكفارُ من قومك, فقد وكلنا بها قومًا آخرين -أي:المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة- ليسوا بها بكافرين, بل مؤمنون بها, عاملون بما تدل عليه. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) أولئك الأنبياء المذكورون هم الذين وفقهم الله تعالى لدينه الحق, فاتبع هداهم -أيها الرسول- واسلك سبيلهم. قل للمشركين: لا أطلب منكم على تبليغ الإسلام عوضًا من الدنيا, إنْ أجري إلا على الله, وما الإسلام إلا دعوة جميع الناس إلى الطريق المستقيم وتذكير لكم ولكل مَن كان مثلكم, ممن هو مقيم على باطل, لعلكم تتذكرون به ما ينفعكم. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وما عَظَّم هؤلاء المشركون الله حق تعظيمه; إذ أنكروا أن يكون الله تعالى قد أنزل على أحد من البشر شيئًا من وحيه. قل لهم -أيها الرسول- : إذا كان الأمر كما تزعمون, فمن الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى إلى قومه نورًا للناس وهداية لهم؟ ثم توجه الخطاب إلى اليهود زَجْرًا لهم بقوله: تجعلون هذا الكتاب في قراطيس متفرقة, تظهرون بعضها, وتكتمون كثيرًا منها, ومما كتموه الإخبار عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته, وعلَّمكم الله معشر العرب بالقرآنِ -الذي أنزله عليكم, فيه خبر مَن قبلكم ومَن بعدكم, وما يكون بعد موتكم - ما لم تعلموه أنتم ولا آباؤكم, قل: الله هو الذي أنزله, ثم دع هؤلاء في حديثهم الباطل يخوضون ويلعبون. وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وهذا القرآن كتاب أنزلناه إليك -أيها الرسول- عظيم النفع, مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية, أنزلناه لنخوِّف به من عذاب الله وبأسه أهل "مكة" ومن حولها من أهل أقطار الأرض كلها. والذين يصدقون بالحياة الآخرة, يصدقون بأن القرآن كلام الله, ويحافظون على إقام الصلاة في أوقاتها. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) ومَن أشدُّ ظلمَّا ممَّن اختلق على الله تعالى قولا كذبًا, فادعى أنه لم يبعث رسولا من البشر, أو ادعى كذبًا أن الله أوحى إليه ولم يُوحِ إليه شيئًا, أو ادَّعى أنه قادر على أن يُنْزل مثل ما أنزل الله من القرآن؟ ولو أنك أبصرت -أيها الرسول- هؤلاء المتجاوزين الحدَّ وهم في أهوال الموت لرأيت أمرًا هائلا والملائكة الذين يقبضون أرواحهم باسطو أيديهم بالعذاب قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم, اليوم تهانون غاية الإهانة, كما كنتم تكذبون على الله, وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) ولقد جئتمونا للحساب والجزاء فرادى كما أوجدناكم في الدنيا أول مرة حفاة عراة, وتركتم وراء ظهوركم ما مكنَّاكم فيه مما تتباهون به من أموال في الدنيا, وما نرى معكم في الآخرة أوثانكم التي كنتم تعتقدون أنها تشفع لكم, وتَدَّعون أنها شركاء مع الله في العبادة, لقد زال تَواصُلُكم الذي كان بينكم في الدنيا, وذهب عنكم ما كنتم تَدَّعون من أن آلهتكم شركاء لله في العبادة, وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم. إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ (95) إن الله تعالى يشق الحب, فيخرج منه الزرع, ويشق النوى, فيخرج منه الشجر, يخرج الحي من الميت كالإنسان والحيوان مثلا من النطفة, ويخرج الميت من الحي كالنطفة من الإنسان والحيوان, ذلكم الله أي: فاعل هذا هو الله وحده لا شريك له المستحق للعبادة, فكيف تُصْرَفون عن الحق إلى الباطل فتعبدون معه غيره؟ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) والله سبحانه وتعالى هو الذي شق ضياء الصباح من ظلام الليل, وجعل الليل مستقرًا, يسكن فيه كل متحرك ويهدأ, وجعل الشمس والقمر يجريان في فلكيهما بحساب متقن مقدَّر, لا يتغير ولا يضطرب, ذلك تقدير العزيز الذي عزَّ سلطانه, العليم بمصالح خلقه وتدبير شئونهم. والعزيز والعليم من أسماء الله الحسنى يدلان على كمال العز والعلم. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) والله سبحانه هو الذي جعل لكم أيها الناس النجوم علامات, تعرفون بها الطرق ليلا إذا ضللتم بسبب الظلمة الشديدة في البر والبحر, قد بيَّنَّا البراهين الواضحة; ليتدبرها منكم أولو العلم بالله وشرعه. وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) والله سبحانه هو الذي ابتدأ خلقكم أيها الناس من آدم عليه السلام; إذ خلقه من طين, ثم كنتم سلالة ونسلا منه, فجعل لكم مستقَرًا تستقرون فيه, وهو أرحام النساء, ومُستودعًا تُحفَظُون فيه, وهو أصلاب الرجال, قد بينا الحجج وميزنا الأدلة, وأحكمناها لقوم يفهمون مواقع الحجج ومواضع العبر. وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) والله سبحانه هو الذي أنزل من السحاب مطرًا فأخرج به نبات كل شيء, فأخرج من النبات زرعًا وشجرًا أخضر, ثم أخرح من الزرع حَبًّا يركب بعضه بعضًا, كسنابل القمح والشعير والأرز, وأخرج من طلع النخل -وهو ما تنشأ فيه عذوق الرطب- عذوقًا قريبة التناول, وأخرج سبحانه بساتين من أعناب, وأخرج شجر الزيتون والرمان الذي يتشابه في ورقه ويختلف في ثمره شكلا وطعمًا وطبعًا. انظروا أيها الناس إلى ثمر هذا النبات إذا أثمر, وإلى نضجه وبلوغه حين يبلغ. إن في ذلكم - أيها الناس - لدلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته لقوم يصدقون به تعالى ويعملون بشرعه. وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) وجعل هؤلاء المشركون الجن شركاء لله تعالى في العبادة; اعتقادًا منهم أنهم ينفعون أو يضرون, وقد خلقهم الله تعالى وما يعبدون من العدم, فهو المستقل بالخلق وحده, فيجب أن يستقل بالعبادة وحده لا شريك له. ولقد كذب هؤلاء المشركون على الله تعالى حين نسبوا إليه البنين والبنات; جهلا منهم بما يجب له من صفات الكمال, تنزَّه وعلا عما نسبه إليه المشركون من ذلك الكذب والافتراء. بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) والله تعالى هو الذي أوجد السموات والأرض وما فيهن على غير مثال سابق. كيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟ تعالى الله عما يقول المشركون علوًّا كبيرًا, وهو الذي خلق كل شيء من العدم, ولا يخفى عليه شيء من أمور الخلق. ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) ذلكم -أيها المشركون- هو ربكم جل وعلا لا معبود بحق سواه, خالق كل شيء فانقادوا واخضعوا له بالطاعة والعبادة. وهو سبحانه على كل شيء وكيل وحفيظ, يدبر أمور خلقه. لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) لا ترى اللهَ الأبصارُ في الدنيا, أما في الدار الآخرة فإن المؤمنين يرون ربهم بغير إحاطة, وهو سبحانه يدرك الأبصار ويحيط بها, ويعلمها على ما هي عليه, وهو اللطيف بأوليائه الذي يعلم دقائق الأشياء، الخبير الذي يعلم بواطنها. قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: قد جاءتكم براهين ظاهرة تبصرون بها الهدى من الضلال, مما اشتمل عليها القرآن, وجاء بها الرسول عليه الصلاة والسلام, فمَن تبيَّن هذه البراهين وآمن بمدلولها فنَفْغُ ذلك لنفسه, ومَن لم يبصر الهدى بعد ظهور الحجة عليه فعلى نفسه جنى, وما أنا عليكم بحافظ أحصي أعمالكم, وإنما أنا مبلغ, والله يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء وَفْق علمه وحكمته. وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) وكما بيَّنَّا في هذا القرآن للمشركين البراهين الظاهرة في أمر التوحيد والنبوة والمعاد نبيِّن لهم البراهين في كل ما جهلوه فيقولون عند ذلك كذبًا: تعلمت من أهل الكتاب, ولنبين -بتصريفنا الآيات- الحقَّ لقوم يعلمونه, فيقبلونه ويتبعونه, وهم المؤمنون برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه. اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (106) اتبع -أيها الرسول- ما أوحيناه إليك من الأوامر والنواهي التي أعظمُها توحيد الله سبحانه والدعوة إليه, ولا تُبال بعناد المشركين, وادعائهم الباطل. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) ولو شماء الله تعالى أن لا يشرك هؤلاء المشركون لما أشركوا, لكنه تعالى عليم بما سيكون من سوء اختيارهم واتباعهم أهواءهم المنحرفة. وما جعلناك -أيها الرسول- عليهم رقيبًا تحفظ عليهم أعمالهم, وما أنت بقَيِّمٍ عليهم تدبر مصالحهم. وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) ولا تسبوا -أيها المسلمون- الأوثان التي يعبدها المشركون -سدًّا للذريعة- حتى لا يتسبب ذلك في سبهم الله جهلا واعتداءً: بغير علم. وكما حسَّنَّا لهؤلاء عملهم السيئ عقوبة لهم على سوء اختيارهم, حسَّنَّا لكل أمة أعمالها, ثم إلى ربهم معادهم جميعًا فيخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا, ثم يجازيهم بها. وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وأقسم هؤلاء المشركون بأيمان مؤكَّدة: لئن جاءنا محمد بعلامة خارقة لنصدقنَّ بما جاء به, قل -أيها الرسول- : إنما مجيء المعجزات الخارقة من عند الله تعالى, هو القادر على المجيء بها إذا شاء, وما يدريكم أيها المؤمنون: لعل هذه المعجزات إذا جاءت لا يصدِّق بها هؤلاء المشركون. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم, فنحول بينها وبين الانتفاع بآيات الله, فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بآيات القرآن عند نزولها أول مرة, ونتركهم في تمرُّدهم على الله متحيِّرين, لا يهتدون إلى الحق والصواب. وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) ولو أننا أجبنا طلب هؤلاء, فنزَّلنا إليهم الملائكة من السماء, وأحيينا لهم الموتى, فكلموهم, وجمعنا لهم كل شيء طلبوه فعاينوه مواجهة, لم يصدِّقوا بما دعوتهم إليه -أيها الرسول- ولم يعملوا به, إلا من شاء الله له الهداية, ولكن أكثر هؤلاء الكفار يجهلون الحق الذي جئت به من عند الله تعالى. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وكما ابتليناك -أيها الرسول- بأعدائك من المشركين ابتلينا جميع الأنبياء -عليهم السلام- بأعداء مِن مردة قومهم وأعداء من مردة الجن, يُلقي بعضهم إلى بعض القول الذي زيَّنوه بالباطل; ليغتر به سامعه, فيضل عن سبيل الله. ولو أراد ربك -جلَّ وعلا- لحال بينهم وبين تلك العداوة, ولكنه الابتلاء من الله, فدعهم وما يختلقون مِن كذب وزور. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) ولِتميل إليه قلوب الكفار الذين لا يصدقون بالحياة الآخرة ولا يعملون لها, ولتحبَّه أنفسهم, وليكتسبوا من الأعمال السيئة ما هم مكتسبون. وفي هذا تهديد عظيم لهم. أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أغير الله إلهي وإلهكم أطلب حَكَمًا بيني وبينكم, وهو سبحانه الذي أنزل إليكم القرآن مبينًا فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم؟ وبنو إسرائيل الذين آتاهم الله التوراة والإنجيل يعلمون علمًا يقينًا أن هذا القرآن منزل عليك -أيها الرسول- من ربك بالحق, فلا تكونن من الشاكِّين في شيء مما أوحينا إليك. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وتمت كلمة ربك -وهي القرآن- صدقًا في الأخبار والأقوال, وعدلا في الأحكام, فلا يستطيع أحد أن يبدِّل كلماته الكاملة. والله تعالى هو السميع لما يقول عباده, الحليم بظواهر أمورهم وبواطنها. وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) ولو فُرض -أيها الرسول- أنك أطعت أكثر أهل الأرض لأضلُّوك عن دين الله, ما يسيرون إلا على ما ظنوه حقًّا بتقليدهم أسلافهم, وما هم إلا يظنون ويكذبون. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) إن ربك هو أعلم بالضالين عن سبيل الرشاد, وهو أعلم منكم ومنهم بمن كان على استقامة وسداد, لا يخفى عليه منهم أحد. فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) فكلوا من الذبائح التي ذُكِرَ اسم الله عليها, إن كنتم ببراهين الله تعالى الواضحة مصدقين. وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وأيُّ شيء يمنعكم أيها المسلمون من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه, وقد بيَّن الله سبحانه لكم جميع ما حرَّم عليكم؟ لكن ما دعت إليه الضرورة بسبب المجاعة, مما هو محرم عليكم كالميتة, فإنه مباح لكم. وإنَّ كثيرًا من الضالين ليضلون عن سبيل الله أشياعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال بأهوائهم؛ جهلا منهم. إن ربك -أيها الرسول- هو أعلم بمن تجاوز حده في ذلك, وهو الذي يتولى حسابه وجزاءه. وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) واتركوا -أيها الناس- جميع المعاصي, ما كان منها علانية وما كان سرًّا. إن الذين يفعلون المعاصي سيعاقبهم ربهم; بسبب ما كانوا يعملونه من السيئات. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) ولا تأكلوا -أيها المسلمون- من الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها عند الذبح, كالميتة وما ذبح للأوثان والجن, وغير ذلك, وإن الأكل من تلك الذبائح لخروج عن طاعة الله تعالى. وإن مردة الجن لَيُلْقون إلى أوليائهم من شياطين الإنس بالشبهات حول تحريم أكل الميتة, فيأمرونهم أن يقولوا للمسلمين في جدالهم معهم: إنكم بعدم أكلكم الميتة لا تأكلون ما قتله الله, بينما تأكلون مما تذبحونه, وإن أطعتموهم -أيها المسلمون في تحليل الميتة- فأنتم وهم في الشرك سواء. أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) أوَمن كان ميتًا في الضلالة هالكا حائرا, فأحيينا قلبه بالإيمان, وهديناه له, ووفقناه لاتباع رسله, فأصبح يعيش في أنوار الهداية, كمن مثله في الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة, لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص له مما هو فيه؟ لا يستويان, وكما خذلتُ هذا الكافر الذي يجادلكم -أيها المؤمنون- فزيَّنْتُ له سوء عمله, فرآه حسنًا, زيَّنْتُ للجاحدين أعمالهم السيئة; ليستوجبوا بذلك العذاب. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) ومثل هذا الذي حصل مِن زعماء الكفار في "مكة" من الصدِّ عن دين الله تعالى, جعلنا في كل قرية مجرمين يتزعمهم أكابرهم; ليمكروا فيها بالصد عن دين الله, وما يكيدون إلا أنفسهم, وما يُحِسُّون بذلك. وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) وإذا جاءت هؤلاء المشركين من أهل "مكة" حجة ظاهرة على نبوة محمد ... صلى الله عليه وسلم, قال بعض كبرائهم: لن نصدِّق بنبوته حتى يعطينا الله من النبوة والمعجزات مثل ما أعطى رسله السابقين. فردَّ الله تعالى عليهم بقوله: الله أعلم حيث يجعل رسالته أي: بالذين هم أهل لحمل رسالته وتبليغها إلى الناس. سينال هؤلاء الطغاة الذل, ولهم عذاب موجع في نار جهنم; بسبب كيدهم للإسلام وأهله. فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) فمن يشأ الله أن يوفقه لقَبول الحق يشرح صدره للتوحيد والإيمان, ومن يشأ أن يضله يجعل صدره في حال شديدة من الانقباض عن قَبول الهدى, كحال مَن يصعد في طبقات الجو العليا, فيصاب بضيق شديد في التنفس. وكما يجعل الله صدور الكافرين شديدة الضيق والانقباض, كذلك يجحل العذاب على الذين لا يؤمنون به. وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) وهذا الذي بيَّنَّاه لك -أيها الرسول- هو الطريق الموصل إلى رضا ربك وجنته. قد بينَّا البراهين لمن يتذكر من أهل العقول الراجحة. لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) للمتذكرين عند ربهم جل وعلا يوم القيامة دار السلامة والأمان من كل مكروه وهي الجنة, وهو سبحانه ناصرهم وحافظهم جزاءً لهم; بسبب أعمالهم الصالحة. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) واذكر -أيها الرسول- يوم يحشر الله تعالى الكفار وأولياءهم من شياطين الجن فيقول: يا معشر الجن قد أضللتم كثيرًا من الإنس, وقال أولياؤهم من كفار الإنس: ربنا قد انتفع بعضنا من بعض, وبلغنا الأجل الذي أجَّلْتَه لنا بانقضاء حياتنا الدنيا, قال الله تعالى لهم: النار مثواكم, أي: مكان إقامتكم خالدين فيها, إلا مَن شاء الله عدم خلوده فيها من عصاة الموحدين. إن ربك حكيم في تدبيره وصنعه, عليم بجميع أمور عباده. وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) وكما سلَّطْنا شياطين الجن على كفار الإنس, فكانوا أولياء لهم, نسلِّط الظالمين من الإنس بعضهم على بعض في الدنيا; بسبب ما يعملونه من المعاصي. يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) أيها المشركون من الجن والإنس, ألم يأتكم رسل من جملتكم -وظاهر النصوص يدلُّ على أنَّ الرسل من الإنس فقط-, يخبرونكم بآياتي الواضحة المشتملة على الأمر والنهي وبيان الخير والشر, ويحذرونكم لقاء عذابي في يوم القيامة؟ قال هؤلاء المشركون من الإنس والجن: شَهِدْنا على أنفسنا بأن رسلك قد بلغونا آياتك, وأنذرونا لقاء يومنا هذا, فكذبناهم, وخدعت هؤلاء المشركين زينةُ الحياة الدنيا, وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا جاحدين وحدانية الله تعالى ومكذبين لرسله عليهم السلام. ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب, لئلا يؤاخَذَ أحد بظلمه, وهو لم تبلغه دعوة, ولكن أعذرنا إلى الأمم, وما عذَّبنا أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم. وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) ولكل عامل في طاعة الله تعالى أو معصيته مراتب من عمله, يبلِّغه الله إياها, ويجازيه عليها. وما ربك -أيها الرسول- بغافل عما يعمل عباده. وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) وربك -أيها الرسول- الذي أمر الناس بعبادته, هو الغني وحده, وكل خلقه محتاجون إليه, وهو سبحانه ذو الرحمة الواسعة, لو أراد لأهلككم, وأوجد قومًا غيركم يخلفونكم من بعد فنائكم, ويعملون بطاعته تعالى, كما أوجدكم من نسل قوم آخرين كانوا قبلكم. إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) إن الذي يوعدكم به ربكم - أيها المشركون - من العقاب على كفركم واقع بكم, ولن تُعجِزوا ربكم هربًا, فهو قادر على إعادتكم, وإن صرتم ترابًا وعظامًا. قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) قل -أيها الرسول- : يا قوم اعملوا على طريقتكم فإني عامل على طريقتي التي شرعها لي ربي جل وعلا فسوف تعلمون -عند حلول النقمة بكم- مَنِ الذي تكون له العاقبة الحسنة؟ إنه لا يفوز برضوان الله تعالى والجنة مَن تجاوز حده وظلم, فأشرك مع الله غيره. وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وجعل المشركون لله -جلَّ وعلا- جزءًا مما خلق من الزروع والثمار والأنعام يقدمونه للضيوف والمساكين, وجعلوا قسمًا آخر من هذه الأشياء لشركائهم من الأوثان والأنصاب, فما كان مخصصًا لشركائهم فإنه يصل إليها وحدها, ولا يصل إلى الله, وما كان مخصصا لله تعالى فإنه يصل إلى شركائهم. بئس حكم القوم وقسمتهم. وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وكما زيَّن الشيطان للمشركين أن يجعلوا لله تعالى من الحرث والأنعام نصيبًا, ولشركائهم نصيبًا, زيَّنت الشياطين لكثير من المشركين قَتْلَ أولادهم خشية الفقر; ليوقعوا هؤلاء الآباء في الهلاك بقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق, وليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس, فيضلوا ويهلكوا, ولو شاء الله ألا يفعلوا ذلك ما فعلوه, ولكنه قدَّر ذلك لعلمه بسوء حالهم ومآلهم, فاتركهم -أيها الرسول- وشأنهم فيما يفترون من كذب, فسيحكم الله بينك وبينهم. وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وقال المشركون: هذه إبل وزرع حرام, لا يأكلها إلا مَن يأذنون له -حسب ادعائهم- مِن سدنة الأوثان وغيرهم. وهذه إبل حُرِّمت ظهورها, فلا يحل ركوبها والحملُ عليها بحال من الأحوال. وهذه إبل لا يَذكرون اسم الله تعالى عليها في أي شأن من شئونها. فعلوا ذلك كذبًا منهم على الله, سيجزيهم الله بسبب ما كانوا يفترون من كذبٍ عليه سبحانه. وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) وقال المشركون: ما في بطون الأنعام من أجنَّة مباح لرجالنا, ومحرم على نسائنا, إذا ولد حيًّا, ويشركون فيه إذا ولد ميتًا. سيعاقبهم الله إذ شرَّعوا لأنفسهم من التحليل والتحريم ما لم يأذن به الله. إنه تعالى حكيم في تدبير أمور خلقه, عليم بهم. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) قد خسر وهلك الذين قتلوا أولادهم لضعف عقولهم وجهلهم, وحرموا ما رزقهم الله كذبًا على الله. قد بَعُدوا عن الحق, وما كانوا من أهل الهدى والرشاد. فالتحليل والتحريم من خصائص الألوهية في التشريع, والحلال ما أحله الله, والحرام ما حرَّمه الله, وليس لأحد من خَلْقه فردًا كان أو جماعة أن يشرع لعباده ما لم يأذن به الله. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد لكم بساتين: منها ما هو مرفوع عن الأرض كالأعناب, ومنها ما هو غير مرفوع, ولكنه قائم على سوقه كالنخل والزرع, متنوعًا طعمه, والزيتون والرمان متشابهًا منظره, ومختلفًا ثمره وطعمه. كلوا -أيها الناس- مِن ثمره إذا أثمر, وأعطوا زكاته المفروضة عليكم يوم حصاده وقطافه, ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال في إخراج المال وأكل الطعام وغير ذلك. إنه تعالى لا يحب المتجاوزين حدوده بإنفاق المال في غير وجهه. وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) وأوجد من الأنعام ما هو مهيَّأ للحمل عليه لكبره وارتفاعه كالإبل, ومنها ما هو مهيَّأ لغير الحمل لصغره وقربه من الأرض كالبقر والغنم, كلوا مما أباحه الله لكم وأعطاكموه من هذه الأنعام, ولا تحرموا ما أحلَّ الله منها اتباعًا لطرق الشيطان, كما فعل المشركون. إن الشيطان لكم عدو ظاهر العداوة. ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) هذه الأنعام التي رزقها الله عباده من الإبل والبقر والغنم ثمانية أصناف: أربعة منها من الغنم, وهي الضأن ذكورًا وإناثًا, والمعز ذكورًا وإناثًا. قل -أيها الرسول- لأولئك المشركين: هل حَرَّم الله الذكرين من الغنم؟ فإن قالوا: نعم, فقد كذبوا في ذلك; لأنهم لا يحرمون كل ذكر من الضأن والمعز, وقل لهم: هل حَرَّم الله الأنثيين من الغنم؟ فإن قالوا: نعم, فقد كذبوا أيضًا; لأنهم لا يحرمون كل أنثى من ولد الضأن والمعز, وقل لهم: هل حَرَّم الله ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز من الحمل؟ فإن قالوا: نعم, فقد كذبوا أيضًا; لأنهم لا يحرمون كل حَمْل مِن ذلك, خبِّروني بعلم يدل على صحة ما ذهبتم إليه, إن كنتم صادقين فيما تنسبونه إلى ربكم. وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) والأصناف الأربعة الأخرى: هي اثنان من الإبل ذكورًا وإناثًا, واثنان من البقر ذكورًا وإناثًا. قل -أيها الرسول- لأولئك المشركين: أحَرَّم الله الذكرين أم الأنثيين؟ أم حرَّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ذكورًا وإناثًا؟ أم كنتم أيها المشركون حاضرين, إذ وصاكم الد بهذا التحريم للأنعام, فلا أحد أشد ظلمًا ممن اختلق على الله الكذب; ليصرف الناس بجهله عن طريق الهدى. إن الله تعالى لا يوفق للرشد مَن تجاوز حدَّه, فكذب على ربه, وأضلَّ الناس. قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) قل -أيها الرسول- : إني لا أجد فيما أوحى الله إليَّ شيئًا محرمًا على من يأكله مما تذكرون أنه حُرِّم من الأنعام, إلا أن يكون قد مات بغير تذكية, أو يكون دمًا مراقًا, أو يكون لحم خنزير فإنه نجس, أو الذي كانت ذكاته خروجًا عن طاعة الله تعالى; كما إذا كان المذبوح قد ذكر عليه اسم غير الله عند الذبح. فمن اضطر إلى الأكل من هذه المحرمات بسبب الجوع الشديد غير طالب بأكله منها تلذذًا, ولا متجاوز حد الضرورة, فإن الله تعالى غفور له, رحيم به. وقد ثبت - فيما بعد - بالسنة تحريم كل ذي ناب من السباع, ومخلب من الطير, والحمر الأهلية, والكلاب. وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) واذكر -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين ما حرمَّنا على اليهود من البهائم والطير: وهو كل ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنَّعام, وشحوم البقر والغنم, إلا ما عَلِق من الشحم بظهورها أو أمعائها, أو اختلط بعظم الألْية والجنب ونحو ذلك. ذلك التحرم المذكور على اليهود عقوبة مِنَّا لهم بسبب أعمالهم السيئة, وإنَّا لصادقون فيما أخبرنا به عنهم. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( 147 ) فَإِنْ كَذَّبُوك فِيمَا جِئْت بِهِ -فَقُلْ لَهُمْ -رَبّكُمْ ذُو رَحْمَة وَاسِعَة حَيْثُ لَمْ يُعَاجِلكُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَفِيهِ تَلَطُّف بِدُعَائِهِمْ إلَى الْإِيمَان "وَلَا يُرَدّ بَأْسه" عَذَابه إذَا جَاءَ . سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ( 148 ) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّه مَا أَشْرَكنَا- نَحْنُ -وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء فَإِشْرَاكنَا وَتَحْرِيمنَا بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ رَاضٍ بِهِ -كَذَلِكَ- كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ "كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ" رُسُلهمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسنَا عَذَابنَا-قُلْ- هَلْ عِنْدكُمْ مِنْ عِلْم بِأَنَّ اللَّه رَاضٍ- بِذَلِكَ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا- أَيْ لَا عِلْم عِنْدكُمْ "إنْ" مَا "تَتَّبِعُونَ" فِي ذَلِكَ "إلَّا الظَّنّ وَإِنْ مَاأَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ تَكْذِبُونَ فِيهِ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ( 149 ) يَقُول تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :قُلْ :- لَهُمْ يَا مُحَمَّد فَلِلَّهِ الْحُجَّة الْبَالِغَة - أَيْ لَهُ الْحِكْمَة التَّامَّة وَالْحُجَّة الْبَالِغَة فِي هِدَايَة مِنْ هُدًى وَإِضْلَال مَنْ ضَلَّ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ فَكُلّ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَته وَاخْتِيَاره وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيَبْغَض الْكَافِرِينَ -كَمَا قَالَ تَعَالَى - وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى- وَقَالَ تَعَالَى - وَلَوْ شَاءَ رَبّك لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْض - وَقَوْله- وَلَوْ شَاءَ رَبّك لَجَعَلَ النَّاس أُمَّة وَاحِدَة وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبّك وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَة رَبّك لَأَمْلَأَن جَهَنَّم مِنْ الْجِنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " قَالَ الضَّحَّاك : لَا حُجَّة لِأَحَدٍ عَصَى اللَّه وَلَكِنْ الْحُجَّة الْبَالِغَة عَلَى عِبَاده . قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ( 150 ) وَقَوْله تَعَالَى - قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ - أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّه حَرَّمَ هَذَا - أَيْ هَذَا الَّذِي حَرَّمْتُمُوهُ وَكَذَّبْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ عَلَى اللَّه فِيهِ فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَد مَعَهُمْ أَيْ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَشْهَدُونَ وَالْحَالَة هَذِهِ كَذِبًا وَزُورًا وَلَا تَتَّبِع أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ- وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ- أَيْ يُشْرِكُونَ بِهِ وَيَجْعَلُونَ لَهُ عَدِيلًا . قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ( 151 ) -قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ- أَقْرَأ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ مُفَسِّرَة لَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَ أَحْسِنُوا -بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادكُمْ بِالْوَأْدِ -مِنْ أَجْل إمْلَاق فَقْر تَخَافُونَهُ نَحْنُ نَرْزُقكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِش- الْكَبَائِر كَالزِّنَا-مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ- أَيْ عَلَانِيَتهَا وَسِرّهَا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إلَّا بِالْحَقِّ" كَالْقَوَدِ وَحَدّ الرِّدَّة وَرَجْم الْمُحْصَن -ذَلِكُمْ- الْمَذْكُور "وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" تَتَدَبَّرُونَ. وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( 152 ) -وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيم إلَّا بِاَلَّتِي- أَيْ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَن وَهِيَ مَا فِيهِ صَلَاحه حَتَّى يَبْلُغ أَشُدّهُ بِأَنْ يَحْتَلِم "وَأَوْفُوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ بِالْعَدْلِ وَتَرْك الْبَخْس -لَا نُكَلِّف نَفْسًا إلَّا وُسْعهَا- طَاقَتهَا فِي ذَلِكَ فَإِنْ أَخْطَأَ فِي الْكَيْل وَالْوَزْن وَاَللَّه يَعْلَم صِحَّة نِيَّته فَلَا مُؤَاخَذَة عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيث -وَإِذَا قُلْتُمْ- فِي حُكْم أَوْ غَيْره فَاعْدِلُوا بِالصِّدْقِ وَلَوْ كَانَ الْمَقُول لَهُ أَوْ عَلَيْهِ -ذَا قُرْبَى- قَرَابَة وَبِعَهْدِ اللَّه أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ بِالتَّشْدِيدِ تَتَّعِظُونَ وَالسُّكُون. وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( 153 ) -وَأَنَّ- بِالْفَتْحِ عَلَى تَقْدِير اللَّام وَالْكَسْر اسْتِئْنَافًا -هَذَا -الَّذِي وَصَّيْتُكُمْ بِهِ -صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا- حَال فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل الطُّرُق الْمُخَالِفَة لَهُ فَتَفَرَّقَ فِيهِ حَذْف إحْدَى التَّاءَيْنِ تَمِيل بِكُمْ عَنْ سَبِيله دِينه . ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ( 154 ) -ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب- التَّوْرَاة وَثُمَّ لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَار تَمَامًا لِلنِّعْمَةِ عَلَى الَّذِي أَحْسَن بِالْقِيَامِ بِهِ "وَتَفْصِيلًا" بَيَانًا لِكُلِّ شَيْء يُحْتَاج إلَيْهِ فِي الدِّين -وَهُدًى وَرَحْمَة لَعَلَّهُمْ- أَيْ بَنِي إسْرَائِيل بِلِقَاءِ رَبّهمْ، بِالْبَعْثِ . وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( 155 ) وَبَعْدهَا - وَهَذَا كِتَاب أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَك- الْآيَة . وَقَالَ تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقّ مِنْ عِنْدنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْل مَا أُوتِيَ مُوسَى- قَالَ تَعَالَى - أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْل قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ-" وَقَالَ تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنْ الْجِنّ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا قَوْمنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْد مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقّ - الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى - تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَن وَتَفْصِيلًا - أَيْ آتَيْنَاهُ الْكِتَاب الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِ تَمَام كَامِلًا جَامِعًا لِمَا يَحْتَاج إِلَيْهِ فِي شَرِيعَته -كَقَوْلِهِ- وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاح مِنْ كُلّ شَيْء ، الْآيَة . وَقَوْله تَعَالَى -" عَلَى الَّذِي أَحْسَن " أَيْ جَزَاء عَلَى إِحْسَانه فِي الْعَمَل وَقِيَامه بِأَوَامِرِنَا وَطَاعَتنَا -كَقَوْلِهِ- " هَلْ جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان - وَكَقَوْلِهِ - وَإِذْ اِبْتَلَى إِبْرَاهِيم رَبّه بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلك لِلنَّاسِ إِمَامًا - وَكَقَوْلِهِ- وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا و كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَن يَقُول أَحْسَن فِيمَا أَعْطَاهُ اللَّه وَقَالَ قَتَادَة مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا تَمَّمَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَة وَاخْتَارَ اِبْن جَرِير أَنَّ تَقْدِيره ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب تَمَامًا عَلَى إِحْسَانه فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي مَصْدَرِيَّة كَمَا قِيلَ فِي- قَوْله تَعَالَى- وَخُضْتُمْ كَاَلَّذِي خَاضُوا- أَيْ كَخَوْضِهِمْ وَقَالَ اِبْن رَوَاحَة . أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ( 156 ) قَالَ اِبْن جَرِير مَعْنَاهُ وَهَذَا كِتَاب أَنْزَلْنَاهُ لِئَلَّا تَقُولُوا - إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَاب عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلنَا - يَعْنِي لِيَنْقَطِع عُذْركُمْ- كَقَوْلِهِ تَعَالَى - وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبهُمْ مُصِيبَة بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ فَيَقُولُوا رَبّنَا لَوْلَا أَرْسَلْت إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِع آيَاتك الْآيَة . وَقَوْله تَعَالَى- عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلنَا - قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس هُمْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ وَقَتَادَة وَغَيْر وَاحِد وَقَوْله - وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتهمْ لَغَافِلِينَ - أَيْ وَمَا كُنَّا نَفْهَم مَا يَقُولُونَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِلِسَانِنَا وَنَحْنُ فِي غَفْلَة وَشُغْل مَعَ ذَلِكَ عَمَّا هُمْ فِيهِ . أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ( 157 ) -وَقَوْله - أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَاب لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ، أَيْ وَقَطَعْنَا تَعَلُّلكُمْ أَنْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فِيمَا أُوتُوهُ- كَقَوْلِهِ- وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْد أَيْمَانهمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِير لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَم " الْآيَة . وَهَكَذَا قَالَ هَهُنَا - فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَة مِنْ رَبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة - يَقُول فَقَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّه عَلَى لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ النَّبِيّ الْعَرَبِيّ قُرْآن عَظِيم فِيهِ بَيَان لِلْحَلَالِ وَالْحَرَام وَهُدًى لِمَا فِي الْقُلُوب وَرَحْمَة مِنْ اللَّه بِعِبَادِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ وَيَقْتَفُونَ مَا فِيهِ -وَقَوْله تَعَالَى- فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّه وَصَدَفَ عَنْهَا أَيْ لَمْ يَنْتَفِع بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَلَا اِتَّبَعَ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَلَا تَرَكَ غَيْره بَلْ صَدَفَ عَنْ اِتِّبَاع آيَات اللَّه أَيْ صَرَفَ النَّاس وَصَدَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ قَالَهُ السُّدِّيّ وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَصَدَفَ عَنْهَا أَعْرَضَ عَنْهَا وَقَوْل السُّدِّيّ هَهُنَا فِيهِ قُوَّة لِأَنَّهُ قَالَ " فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّه وَصَدَفَ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّل السُّورَة" وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسهمْ- وَقَالَ تَعَالَى - الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّه زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْق الْعَذَاب وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة " سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتنَا سُوء الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ، وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد فِيمَا قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة - فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّه وَصَدَف عَنْهَا- أَيْ لَا آمَنَ بِهَا وَلَا عَمِلَ بِهَا -كَقَوْلِهِ تَعَالَى - فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآيَات الدَّالَّة عَلَى اِشْتِمَال الْكَافِر عَلَى التَّكْذِيب بِقَلْبِهِ وَتَرْك الْعَمَل بِجَوَارِحِهِ وَلَكِنَّ كَلَام السُّدِّيّ أَقْوَى وَأَظْهَر وَاَللَّه أَعْلَم لِأَنَّ اللَّه قَالَ ، فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّه وَصَدَف عَنْهَا " كَقَوْلِهِ تَعَالَى " الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّه زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْق الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ . هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) هل ينتظر الذين أعرضوا وصدوا عن سبيل الله إلا أن يأتيهم ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم, أو ياتي ربك -أيها الرسول- للفصل بين عباده يوم القيامة, أو يأتي بعض أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على مجيئها, وهي طلوع الشمس من مغربها؟ فحين يكون ذلك لا ينفع نفسا إيمانها, إن لم تكن آمنت من قبل, ولا يُقبل منها إن كانت مؤمنة كسب عمل صالح إن لم تكن عاملة به قبل ذلك. قل لهم -أيها الرسول- : انتظروا مجيء ذلك; لتعلموا المحق من المبطل, والمسيء من المحسن, إنا منتظرون ذلك. إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) إن الذين فرقوا دينهم بعد ما كانوا مجتمعين على توحيد الله والعمل بشرعه, فأصبحوا فرقا وأحزابا, إنك -أيها الرسول- بريء منهم, إنما حكمهم إلى الله تعالى, ثم يخبرهم بأعمالهم, فيجازي من تاب منهم وأحسن بإحسانه, ويعاقب المسيء بإساءته. مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) من لقي ربه يوم القيامة بحسنة من الأعمال الصالحة فله عشر حسنات أمثالها, ومن لقي ربه بسيئة فلا يعاقب إلا بمثلها, وهم لا يظلمون مثقال ذرة. قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم الموصل إلى جنته, وهو دين الإسلام القائم بأمر الدنيا والآخرة, وهو دين التوحيد دين إبراهيم عليه السلام, وما كان إبراهيم عليه السلام من المشركين مع الله غيره. قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إن صلاتي, ونسكي, أي: ذبحي لله وحده, لا للأصنام, ولا للأموات, ولا للجن, ولا لغير ذلك مما تذبحونه لغير الله, وعلى غير اسمه كما تفعلون, وحياتي وموتي لله تعالى رب العالمين. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) لا شريك له في ألوهيته ولا في ربوبيته ولا في صفاته وأسمائه, وبذلك التوحيد الخالص أمرني ربي جل وعلا وأنا أول من أقر وانقاد لله من هذه الأمة. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) قل -أيها الرسول- : أغير الله أطلب إلها, وهو خالق كل شيء ومالكه ومدبره؟ ولا يعمل أي إنسان عملا سيئا إلا كان إثمه عليه, ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى, ثم إلى ربكم معادكم يوم القيامة, فيخبركم بما كنتم تختلفون فيه من أمر الدين. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) والله سبحانه هو الذي جعلكم تخلفون من سبقكم في الأرض بعد أن أهلكهم الله, واستخلفكم فيها; لتعمروها بعدهم بطاعة ربكم, ورفع حكم في الرزق والقوة فوق بعض درجات, ليبلوكم فيما أعطاكم من نعمه, فيظهر للناس الشاكر من غيره. إن ربك سريع العقاب لمن كفر به وعصاه, وإنه لغفور لمن آمن به وعمل صالحا وتاب من الموبقات, رحيم به, والغفور والرحيم اسمان كريمان من أسماء الله الحسنى. تم بحمدالله تفسير سورة الأنعام |
|
|
12-01-2011, 11:05 AM | #19 | |
مشرف قسم
|
سورة الأعراف
- مكية - عدد آياتها 206 المص (1) (المص) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة. كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) هذا القرآن كتاب عظيم أنزله الله عليك -أيها الرسول- فلا يكن في صدرك شك منه في أنه أنزل من عند الله، ولا تتحرج في إبلاغه والإنذار به، أنزلناه إليك; لتخوف به الكافرين وتذكر المؤمنين. اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3) اتبعوا -أيها الناس- ما أُنزل إليكم من ربكم من الكتاب والسنة بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، ولا تتبعوا من دون الله أولياء كالشياطين والأحبار والرهبان. إنكم قليلا ما تتعظون، وتعتبرون، فترجعون إلى الحق. وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) وكثير من القرى أهلكنا أهلها بسبب مخالفة رسلنا وتكذيبهم، فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولا بذلِّ الآخرة، فجاءهم عذابنا مرة وهم نائمون ليلا ومرة وهم نائمون نهارًا. وخَصَّ الله هذين الوقتين; لأنهما وقتان للسكون والاستراحة، فمجيء العذاب فيهما أفظع وأشد. فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا الإقرار بالذنوب والإساءة، وأنهم حقيقون بالعذاب الذي نزل بهم. فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) المرسلون: ماذا أجبتم رسلنا إليكم؟ ولنسْألَنَّ المرسلين عن تبليغهم لرسالات ربهم، وعمَّا أجابتهم به أممهم. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) فلَنقُصَّنَّ على الخلق كلهم ما عملوا بعلم منا لأعمالهم في الدنيا فيما أمرناهم به، وما نهيناهم عنه، وما كنا غائبين عنهم في حال من الأحوال. وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8) ووزن أعمال الناس يوم القيامة يكون بميزان حقيقي بالعدل والقسط الذي لا ظلم فيه، فمن ثقلت موازين أعماله -لكثرة حسناته- فأولئك هم الفائزون. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) ومن خَفَّتْ موازين أعماله -لكثرة سيئاته- فأولئك هم الذين أضاعوا حظَّهم من رضوان الله تعالى، بسبب تجاوزهم الحد بجحد آيات الله تعالى وعدم الانقياد لها. وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (10) ولقد مكَّنَّا لكم -أيها الناس- في الأرض، وجعلناها قرارًا لكم، وجعلنا لكم فيها ما تعيشون به من مطاعم ومشارب، ومع ذلك فشكركم لنعم الله قليل. وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (11) ولقد أنعمنا عليكم بخلق أصلكم -وهو أبوكم آدم من العدم- ثم صوَّرناه على هيئته المفضلة على كثير من الخلق، ثم أمرنا ملائكتنا عليهم السلام بالسجود له -إكرامًا واحترامًا وإظهارًا لفضل آدم- فسجدوا جميعًا، لكنَّ إبليس الذي كان معهم لم يكن من الساجدين لآدم; حسدًا له على هذا التكريم العظيم. قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قال تعالى منكرًا على إبليس تَرْكَ السجود: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ فقال إبليس: أنا أفضل منه خلقًا; لأني مخلوق من نار, وهو مخلوق من طين. فرأى أن النار أشرف من الطين. قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ (13) قال الله لإبليس: فاهبط من الجنة, فما يصح لك أن تتكبر فيها, فاخرج من الجنة, إنك من الذليلين الحقيرين. قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قال إبليس لله -جل وعلا- حينما يئس من رحمته: أمهلني إلى يوم البعث; وذلك لأتمكن من إغواء مَن أقدر عليه من بني آدم. قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (15) قال الله تعالى: إنك ممن كتبتُ عليهم تأخير الأجل إلى النفخة الأولى في القرن, إذ يموت الخلق كلهم. قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) قال إبليس لعنه الله: فبسبب ما أضللتني لأجتهدنَّ في إغواء بني آدم عن طريقك القويم, ولأصدَّنَّهم عن الإسلام الذي فطرتهم عليه. ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) ثم لآتينَّهم من جميع الجهات والجوانب, فأصدهم عن الحق, وأُحسِّن لهم الباطل, وأرغبهم في الدنيا, وأشككهم في الآخرة, ولا تجد أكثر بني آدم شاكرين لك نعمتك. قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) قال الله تعالى لإبليس: اخرج من الجنة ممقوتًا مطرودًا, لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك من بني آدم أجمعين. ويا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة, فكُلا من ثمارها حيث شئتما, ولا تأكلا من ثمرة شجرة (عَيَّنها لهما), فإن فعلتما ذلك كنتما من الظالمين المتجاوزين حدود الله. وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (19) فألقى الشيطان لآدم وحواء وسوسة لإيقاعهما في معصية الله تعالى بالأكل من تلك الشجرة التي نهاهما الله عنها; لتكون عاقبتهما انكشاف ما سُتر من عوراتهما, وقال لهما في محاولة المكر بهما: إنما نهاكما ربكما عن الأكل مِن ثمر هذه الشجرة مِن أجل أن لا تكونا ملَكين, ومِن أجل أن لا تكونا من الخالدين في الحياة. فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ (20) وأقسم الشيطان لآدم وحواء بالله إنه ممن ينصح لهما في مشورته عليهما بالأكل من الشجرة, وهو كاذب في ذلك. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ (21) وأقسم الشيطان لآدم وحواء بالله إنه ممن ينصح لهما في مشورته عليهما بالأكل من الشجرة, وهو كاذب في ذلك. فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) فجرَّأهما وغرَّهما, فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الاقتراب منها, فلما أكلا منها انكشفت لهما عوراتهما, وزال ما سترهما الله به قبل المخالفة, فأخذا يلزقان بعض ورق الجنة على عوراتهما, وناداهما ربهما جل وعلا ألم أنهكما عن الأكل من تلك الشجرة, وأقل لكما: إن الشيطان لكما عدو ظاهر العداوة؟ وفي هذه الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور, وأنه كان ولم يزل مستهجَنًا في الطباع, مستقبَحًا في العقول. قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23) قال آدم وحواء: ربنا ظلمنا أنفسنا بالأكل من الشجرة, وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن ممن أضاعوا حظَّهم في دنياهم وأخراهم. (وهذه الكلمات هي التي تلقاها آدم من ربه, فدعا بها فتاب الله عليه). قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قال تعالى مخاطبًا آدم وحواء لإبليس: اهبطوا من السماء إلى الأرض, وسيكون بعضكم لبعض عدوًا, ولكم في الأرض مكان تستقرون فيه, وتتمتعون إلى انقضاء آجالكم. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) قال الله تعالى لآدم وحوَّاء وذريتهما: فيها تحيون, أي: في الأرض تقضون أيام حياتكم الدنيا, وفيها تكون وفاتكم, ومنها يخرجكم ربكم, ويحشركم أحياء يوم البعث. يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بني آدم قد جعلنا لكم لباسًا يستر عوراتكم, وهو لباس الضرورة, ولباسًا للزينة والتجمل, وهو من الكمال والتنعم. ولباسُ تقوى الله تعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي هو خير لباس للمؤمن. ذلك الذي مَنَّ الله به عليكم من الدلائل على ربوبية الله تعالى ووحدانيته وفضله ورحمته بعباده; لكي تتذكروا هذه النعم, فتشكروا لله عليها. وفي ذلك امتنان من الله تعالى على خَلْقه بهذه النعم. يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) يا بني آدم لا يخدعنَّكم الشيطان, فيزين لكم المعصية, كما زيَّنها لأبويكم آدم وحواء, فأخرجهما بسببها من الجنة, ينزع عنهما لباسهما الذي سترهما الله به; لتنكشف لهما عوراتهما. إن الشيطان يراكم هو وذريته وجنسه وأنتم لا ترونهم فاحذروهم. إنَّا جعلنا الشياطين أولياء للكفار الذين لا يوحدون الله, ولا يصدقون رسله, ولا يعملون بهديه. وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) وإذا أتى الكفار قبيحًا من الفعل اعتذروا عن فعله بأنه مما ورثوه عن آبائهم, وأنه مما أمر الله به. قل لهم -أيها الرسول- : إن الله تعالى لا يأمر عباده بقبائح الأفعال ومساوئها, أتقولون على الله -أيها المشركون- ما لا تعلمون كذبًا وافتراءً؟ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أمر ربي بالعدل, وأمركم بأن تخلصوا له العبادة في كل موضع من مواضعها, وبخاصة في المساجد, وأن تدعوه مخلصين له الطاعة والعبادة, وأن تؤمنوا بالبعث بعد الموت. وكما أن الله أوجدكم من العدم فإنه قادر على إعادة الحياة إليكم مرة أخرى. فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) جعل الله عباده فريقين: فريقًا وفَّقهم للهداية إلى الصراط المستقيم, وفريقًا وجبت عليهم الضلالة عن الطريق المستقيم, إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله, فأطاعوهم جهلا منهم وظنًا بأنهم قد سلكوا سبيل الهداية. يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) يا بني آدم كونوا عند أداء كل صلاة على حالة من الزينة المشروعة من ثياب ساترة لعوراتكم ونظافة وطهارة ونحو ذلك, وكلوا واشربوا من طيبات ما رزقكم الله, ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال في ذلك. إن الله لا يحب المتجاوزين المسرفين في الطعام والشراب وغير ذلك. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قل -أيها الرسول- لهؤلاء الجهلة من المشركين: مَن الذي حرم عليكم اللباس الحسن الذي جعله الله تعالى زينة لكم؟ ومَن الذي حرَّم عليكم التمتع بالحلال الطيب من رزق الله تعالى؟ قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنَّ ما أحله الله من الملابس والطيبات من المطاعم والمشارب حق للذين آمنوا في الحياة الدنيا يشاركهم فيها غيرهم, خالصة لهم يوم القيامة. مثل ذلك التفصيل يفصِّل الله الآيات لقوم يعلمون ما يبيِّن لهم, ويفقهون ما يميز لهم. قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنما حَرَّم الله القبائح من الأعمال, ما كان منها ظاهرًا, وما كان خفيًّا, وحَرَّم المعاصي كلها, ومِن أعظمها الاعتداء على الناس, فإن ذلك مجانب للحق, وحرَّم أن تعبدوا مع الله تعالى غيره مما لم يُنَزِّل به دليلا وبرهانًا, فإنه لا حجة لفاعل ذلك, وحرَّم أن تنسبوا إلى الله تعالى ما لم يشرعه افتراءً وكذبًا, كدعوى أن لله ولدًا, وتحريم بعض الحلال من الملابس والمآكل. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) ولكل جماعة اجتمعت على الكفر بالله تعالى وتكذيب رسله -عليهم الصلاة والسلام- وقت لحلول العقوبة بهم, فإذا جاء الوقت الذي وقَّته الله لإهلاكهم لا يتأخرون عنه لحظة, ولا يتقدمون عليه. يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) يا بني آدم إذا جاءكم رسلي من أقوامكم, يتلون عليكم آيات كتابي, ويبينون لكم البراهين على صدق ما جاؤوكم به فأطيعوهم, فإنه من اتقى سخطي وأصلح عمله فلا خوف عليهم يوم القيامة من عقاب الله تعالى, ولا ههم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) والكفار الذين كذَّبوا بالدلائل على توحيد الله, واستعلَوا عن اتباعها, أولئك أصحاب النار ماكثين فيها, لا يخرجون منها أبدًا. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) لا أحد أشد ظلمًا ممن اختلق على الله تعالى الكذب, أو كذَّب بآياته المنزلة, أولئك يصل إليهم حظُّهم من العذاب مما كتب لهم في اللوح المحفوظ, حتى إذا جاءهم ملك الموت وأعوانه يقبضون أرواحهم قالوا لهم: أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الشركاء والأولياء والأوثان ليخلِّصوكم مما أنتم فيه؟ قالوا: ذهبوا عنا, واعترفوا على أنفسهم حينئذ أنهم كانوا في الدنيا جاحدين مكذبين وحدانية الله تعالى. قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) قال الله تعالى -لهؤلاء المشركين المفترين- : ادخلوا النار في جملة جماعات من أمثالكم في الكفر, قد سلفت من قبلكم من الجن والإنس, كلما دخلت النارَ جماعةٌ من أهل ملة لعنت نظيرتها التي ضلَّتْ بالاقتداء بها, حتى إذا تلاحق في النار الأولون من أهل الملل الكافرة والآخرون منهم جميعًا, قال الآخرون المتبعون في الدنيا لقادتهم: ربنا هؤلاء هم الذين أضلونا عن الحق, فآتهم عذابًا مضاعفا من النار, قال الله تعالى: لكل ضعف, أي: لكل منكم ومنهم عذاب مضاعف من النار, ولكن لا تدركون أيها الأتباع ما لكل فريق منكم من العذاب والآلام. وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) وقال المتبوعون من الرؤساء وغيرهم لأتباعهم: نحن وأنتم متساوون في الغيِّ والضلال، وفي فِعْلِ أسباب العذاب فلا فَضْلَ لكم علينا, قال الله تعالى لهم جميعًا: فذوقوا العذاب أي عذاب جهنم; بسبب ما كسبتم من المعاصي. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) إن الكفار الذين لم يصدِّقوا بحججنا وآياتنا الدالة على وحدانيتنا, ولم يعملوا بشرعنا تكبرًا واستعلاءً, لا تُفتَّح لأعمالهم في الحياة ولا لأرواحهم عند الممات أبواب السماء, ولا يمكن أن يدخل هؤلاء الكفار الجنة إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة, وهذا مستحيل. ومثل ذلك الجزاء نجزي الذين كثر إجرامهم, واشتدَّ طغيانهم. لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) هؤلاء الكفار مخلدون في النار, لهم مِن جهنم فراش مِن تحتهم, ومن فوقهم أغطية تغشاهم. وبمثل هذا العقاب الشديد يعاقب الله تعالى الظالمين الذين تجاوزوا حدوده فكفروا به وعصَوْه. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) والذين آمنوا بالله وعملوا الأعمال الصالحة في حدود طاقاتهم -لا يكلف الله نفسًا من الأعمال إلا ما تطيق- أولئك أهل الجنة, هم فيها ماكثون أبدًا لا يخرجون منها. وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وأذهب الله تعالى ما في صدور أهل الجنة من حقد وضغائن, ومن كمال نعيمهم أن الأنهار تجري في الجنة من تحتهم. وقال أهل الجنة حينما دخلوها: الحمد لله الذي وفَّقنا للعمل الصالح الذي أكسبنا ما نحن فيه من النعيم, وما كنا لنوفَّق إلى سلوك الطريق المستقيم لولا أَنْ هدانا الله سبحانه لسلوك هذا الطريق, ووفَّقنا للثبات عليه, لقد جاءت رسل ربنا بالحق من الإخبار بوعد أهل طاعته ووعيد أهل معصيته, ونُودوا تهنئة لهم وإكرامًا: أن تلكم الجنة أورثكم الله إياها برحمته, وبما قدَّمتموه من الإيمان والعمل الصالح. وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) ونادى أصحاب الجنة -بعد دخولهم فيها- أهلَ النار قائلين لهم: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله حقًا من إثابة أهل طاعته, فهل وجدتم ما وعدكم ربكم على ألسنة رسله حقًا من عقاب أهل معصيته؟ فأجابهم أهل النار قائلين: نعم قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا. فأذَّن مؤذن بين أهل الجنة وأهل النار: أنْ لعنة الله على الظالمين الذين تجاوزوا حدود الله, وكفروا بالله ورسله. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) هؤلاء الكافرون هم الذين كانوا يُعْرِضون عن طريق الله المستقيم, ويمنعون الناس من سلوكه, ويطلبون أن تكون السبيل معوجة حتى لا يتبينها أحد, وهم بالآخرة -وما فيها- جاحدون. وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حاجز عظيم يقال له الأعراف, وعلى هذا الحاجز رجال يعرفون أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم, كبياض وجوه أهل الجنة, وسواد وجوه أهل النار, وهؤلاء الرجال قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم يرجون رحمة الله تعالى. ونادى رجال الأعراف أهل الجنة بالتحية قائلين لهم: سلام عليكم, وأهل الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد, وهم يرجون دخولها. وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وإذا حُوِّلَتْ أبصار رجال الأعراف جهة أهل النار قالوا: ربنا لا تُصيِّرنا مع القوم الظالمين بشركهم وكفرهم. وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) ونادى أهل الأعراف رجالا من قادة الكفار الذين في النار, يعرفونهم بعلامات خاصة تميزهم, قالوا لهم: ما نفعكم ما كنتم تجمعون من الأموال والرجال في الدنيا, وما نفعكم استعلاؤكم عن الإيمان بالله وقَبول الحق. أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) أهؤلاء الضعفاء والفقراء من أهل الجنة الذين أقسمتم في الدنيا أن الله لا يشملهم يوم القيامة برحمة, ولن يدخلهم الجنة؟ ادخلوا الجنة يا أصحاب الأعراف فقد غُفِرَ لكم, لا خوف عليكم من عذاب الله, ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم من حظوظ الدنيا. وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) واستغاث أهل النار بأهل الجنة طالبين منهم أن يُفيضوا عليهم من الماء, أو مما رزقهم الله من الطعام, فأجابوهم بأن الله تعالى قد حَرَّم الشراب والطعام على الذين جحدوا توحيده, وكذَّبوا رسله. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) الذين حَرَمهم الله تعالى من نعيم الآخرة هم الذين جعلوا الدين الذي أمرهم الله باتباعه باطلا ولهوًا, وخدعتهم الحياة الدنيا وشغلوا بزخارفها عن العمل للآخرة, فيوم القيامة ينساهم الله تعالى ويتركهم في العذاب الموجع, كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا, ولكونهم بأدلة الله وبراهينه ينكرون مع علمهم بأنها حق. وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) ولقد جئنا الكفار بقرآن أنزلناه عليك -أيها الرسول- بيَّنَّاه مشتملا على علم عظيم, هاديًا من الضلالة إلى الرشد ورحمة لقوم يؤمنون بالله ويعملون بشرعه. وخصَّهم دون غيرهم; لأنهم هم المنتفعون به. هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) هل ينتظر الكفار إلا ما وُعِدوا به في القرآن من العقاب الذي يؤول إليه أمرهم؟ يوم يأتي ما يئول إليه الأمر من الحساب والثواب والعقاب يوم القيامة يقول الكفار الذين تركوا القرآن, وكفروا به في الحياة الدنيا: قد تبيَّن لنا الآن أنَّ رسل ربنا قد جاؤوا بالحق, ونصحوا لنا, فهل لنا من أصدقاء وشفعاء, فيشفعوا لنا عند ربنا, أو نعاد إلى الدنيا مرة أخرى فنعمل فيها بما يرضي الله عنا؟ قد خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها, وذهب عنهم ما كانوا يعبدونه من دون الله, ويفترونه في الدنيا مما يَعِدُهم به الشيطان. إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) إن ربكم -أيها الناس- هو الله الذي أوجد السموات والأرض من العدم في ستة أيام, ثم استوى -سبحانه- على العرش -أي علا وارتفع- استواءً يليق بجلاله وعظمته, يُدخل سبحانه الليل على النهار, فيلبسه إياه حتى يذهب نوره, ويُدخل النهار على الليل فيذهب ظلامه, وكل واحد منهما يطلب الآخر سريعًا دائمًا, وهو -سبحانه- الذي خلق الشمس والقمر والنجوم مذللات له يسخرهن -سبحانه- كما يشاء, وهنَّ من آيات الله العظيمة. ألا له سبحانه وتعالى الخلق كله وله الأمر كله, تعالى الله وتعاظم وتنزَّه عن كل نقص, رب الخلق أجمعين. ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) ادعوا -أيها المؤمنون- ربكم متذللين له خفية وسرًّا, وليكن الدعاء بخشوع وبُعْدٍ عن الرياء. إن الله تعالى لا يحب المتجاوزين حدود شرعه, وأعظم التجاوز الشرك بالله, كدعاء غير الله من الأموات والأوثان, ونحو ذلك. وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (56) ولا تُفْسدوا في الأرض بأيِّ نوع من أنواع الفساد, بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل -عليهم السلام- وعُمْرانها بطاعة الله, وادعوه -سبحانه- مخلصين له الدعاء; خوفًا من عقابه ورجاء لثوابه. إن رحمة الله قريب من المحسنين. وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) والله تعالى هو الذي يرسل الرياح الطيبة اللينة مبشرات بالغيث الذي تثيره بإذن الله, فيستبشر الخلق برحمة الله, حتى إذا حملت الريح السحاب المحمل بالمطر ساقه الله بها لإحياء بلد, قد أجدبت أرضه, ويَبِست أشجاره وزرعه, فأنزل الله به المطر, فأخرج به الكلأ والأشجار والزروع, فعادت أشجاره محملة بأنواع الثمرات. كما نحيي هذا البلد الميت بالمطر نخرج الموتى من قبورهم أحياءً بعد فنائهم; لتتعظوا, فتستدلوا على توحيد الله وقدرته على البعث. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) والأرض النقية إذا نزل عليها المطر تُخْرج نباتًا -بإذن الله ومشيئته- طيبًا ميسرًا, وكذلك المؤمن إذا نزلت عليه آيات الله انتفع بها, وأثمرت فيه حياة صالحة, أما الأرض السَّبِخة الرديئة فإنها لا تُخرج النبات إلا عسرًا رديئا لا نفع فيه, ولا تُخرج نباتًا طيبًا, وكذلك الكافر لا ينتفع بآيات الله. مثل ذلك التنويع البديع في البيان نُنوِّع الحجج والبراهين لإثبات الحق لأناس يشكرون نعم الله, ويطيعونه. لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) لقد بعثنا نوحًا إلى قومه; ليدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وإخلاص العبادة له, فقال: يا قوم اعبدوا الله وحده, ليس لكم من إله يستحق العبادة غيره جل وعلا فأخلصوا له العبادة فإن لم تفعلوا وبقيتم على عبادة أوثانكم, فإنني أخاف أن يحلَّ عليكم عذاب يوم يعظم فيه بلاؤكم, وهو يوم القيامة. قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قال له سادتهم وكبراؤهم: إنا لنعتقد -يا نوح- أنك في ضلال بيِّن عن طريق الصواب. قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) قال نوح: يا قوم لست ضالا في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه, ولكني رسول من رب العالمين ربي وربكم ورب جميع الخلق. أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) أُبلِّغكم ما أُرسلت به من ربي, وأنصح لكم محذرًا لكم من عذاب الله ومبشرًا بثوابه, وأعلم من شريعته ما لا تعلمون. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) وهل أثار عجبكم أن أنزل الله تعالى إليكم ما يذكركم بما فيه الخير لكم, على لسان رجل منكم, تعرفون نسبه وصدقه; ليخوِّفكم بأس الله تعالى وعقابه, ولتتقوا سخطه بالإيمان به, ورجاء أن تظفروا برحمته وجزيل ثوابه؟ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) فكذبوا نوحًا فأنجيناه ومَن آمن معه في السفينة, وأغرقنا الكفار الذين كذبوا بحججنا الواضحة. إنهم كانوا عُمْيَ القلوب عن رؤية الحق. وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) ولقد أرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا حين عبدوا الأوثان من دون الله, فقال لهم: اعبدوا الله وحده, ليس لكم من إله يستحق العبادة غيره جل وعلا فأخلصوا له العبادة أفلا تتقون عذاب الله وسخطه عليكم؟ قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (66) قال الكبراء الذين كفروا من قوم هود: إنا لنعلم أنك بدعوتك إيانا إلى ترك عبادة آلهتنا وعبادة الله وحده ناقص العقل, وإنا لنعتقد أنك من الكاذبين على الله فيما تقول. قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) قال هود: يا قوم ليس بي نقص في عقلي, ولكني رسول إليكم من رب الخلق أجمعين. أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أُبلِّغكم ما أرسلني به ربي إليكم, وأنا لكم - فيما دعوتكم إليه من توحيد الله والعمل بشريعته - ناصح, أمين على وحي الله تعالى. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) وهل أثار عجبكم أن أنزل الله تعالى إليكم ما يذكركم بما فيه الخير لكم, على لسان رجل منكم, تعرفون نسبه وصدقه; ليخوِّفكم بأس الله وعقابه؟ واذكروا نعمة الله عليكم إذ جعلكم تخلفون في الأرض مَن قبلكم من بعد ما أهلك قوم نوح, وزاد في أجسامكم قوة وضخامة, فاذكروا نِعَمَ الله الكثيرة عليكم; رجاء أن تفوزوا الفوز العظيم في الدنيا والآخرة. قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (70) قالت عاد لهود عليه السلام: أدعوتنا لعبادة الله وحله وهَجْر عبادة الأصنام التي ورثنا عبادتها عن آبائنا؟ فأتنا بالعذاب الذي تخوفنا به إن كنت من أهل الصدق فيما تقول. قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظِرِينَ (71) قال هود لقومه: قد حلَّ بكم عذاب وغضب من ربكم جل وعلا أتجادلونني في هذه الأصنام التي سميتموها آلهة أنتم وآباؤكم؟ ما نزَّل الله بها من حجة ولا برهان; لأنها مخلوقة لا تضر ولا تنفع, وإنما المعبود وحده هو الخالق سبحانه, فانتظروا نزول العذاب عليكم فإني منتظر معكم نزوله, وهذا غاية في التهديد والوعيد. فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) فوقع عذاب الله بإرسال الريح الشديدة عليهم, فأنجى الله هودًا والذين آمنوا معه برحمة عظيمة منه تعالى, وأهلك الكفار من قومه جميعا ودمَّرهم عن آخرهم, وما كانوا مؤمنين لجمعهم بين التكذيب بآيات الله وترك العمل الصالح. وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحًا لـمَّا عبدوا الأوثان من دون الله تعالى . فقال صالح لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده; ليس لكم من إله يستحق العبادة غيره جل وعلا، فأخلصوا له العبادة, قد جئتكم بالبرهان على صدق ما أدعوكم إليه, إذ دعوتُ الله أمامكم, فأخرج لكم من الصخرة ناقة عظيمة كما سألتم, فاتركوها تأكل في أرض الله من المراعي, ولا تتعرضوا لها بأي أذى, فيصيبكم بسبب ذلك عذاب موجع. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) واذكروا نعمة الله عليكم, إذ جعلكم تَخْلُفون في الأرض مَن قبلكم, من بعد قبيلة عاد, ومكَّن لكم في الأرض الطيبة تنزلونها, فتبنون في سهولها البيوت العظيمة, وتنحتون من جبالها بيوتًا أخرى, فاذكروا نِعَمَ الله عليكم, ولا تَسْعَوا في الأرض بالإفساد. قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قال السادة والكبراء من الذين استعلَوا -من قوم صالح- للمؤمنين الذين استضعفوهم, واستهانوا بهم: أتعلمون حقيقة أن صالحًا قد أرسله الله إلينا؟ قال الذين آمنوا: إنا مصدقون بما أرسله الله به, متَّبعون لشرعه. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) قال الذين استعلَوْا: إنَّا بالذي صدَّقتم به واتبعتموه من نبوة صالح جاحدون. فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (77) فنحروا الناقة استخفافا منهم بوعيد صالح, واستكبروا عن امتثال أمر ربهم, وقالوا على سبيل الاستهزاء واستبعاد العذاب: يا صالح ائتنا بما تتوعَّدنا به من العذاب, إن كنت مِن رسل الله. فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فأخذَت الذين كفروا الزلزلةُ الشديدة التي خلعت قلوبهم, فأصبحوا في بلدهم هالكين, لاصقين بالأرض على رُكَبهم ووجوههم, لم يُفْلِت منهم أحد. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) فأعرض صالح عليه السلام عن قومه -حين عقروا الناقة وحل بهم الهلاك- وقال لهم: يا قوم لقد أبلغتكم ما أمرني ربي بإبلاغه من أمره ونهيه, وبَذَلْت لكم وسعي في الترغيب والترهيب والنصح, ولكنكم لا تحبون الناصحين, فرددتم قولهم, وأطعتم كل شيطان رجيم. وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ (80) واذكر -أيها الرسول- لوطًا عليه السلام حين قال لقومه: أتفعلون الفعلة المنكرة التي بلغت نهاية القبح؟ ما فعلها مِن أحد قبلكم من المخلوقين. إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) إنكم لتأتون الذكور في أدبارهم, شهوة منكم لذلك, غير مبالين بقبحها, تاركين الذي أحلَّه الله لكم من نسائكم, بل أنتم قوم متجاوزون لحدود الله في الإسراف. إن إتيان الذكور دون الإناث من الفواحش التي ابتدعها قوم لوط, ولم يسبقهم بها أحد من الخلق. وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) وما كان جواب قوم لوط حين أنكر عليهم فعلهم الشنيع إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطًا وأهله من بلادكم, إنه ومن تبعه أناس يتنزهون عن إتيان أدبار الرجال والنساء. فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ (83) فأنجى الله لوطًا وأهله من العذاب حيث أمره بمغادرة ذلك البلد, إلا امرأته, فإنها كانت من الهالكين الباقين في عذاب الله. وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وعذَّب الله الكفار من قوم لوط بأن أنزل عليهم مطرًا من الحجارة, وقلب بلادهم, فجعل عاليها سافلها, فانظر -أيها الرسول- كيف صارت عاقبة الذين اجترؤوا على معاصي الله وكذبوا رسله. وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) ولقد أرسلنا إلى قبيلة "مدين" أخاهم شعيبًا عليه السلام, فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له; ليس لكم مِن إله يستحق العبادة غيره جل وعلا فأخلصوا له العبادة, قد جاءكم برهان من ربكم على صِدْق ما أدعوكم إليه, فأدوا للناس حقوقهم بإيفاء الكيل, الميزان, ولا تنقصوهم حقوقهم فتظلموهم, ولا تفسدوا في الأرض -بالكفر والظلم- بعد إصلاحها بشرائع الأنبياء السابقين عليهم السلام. ذلك الذي دعوتكم إليه خير لكم في دنياكم وأخراكم, إن كنتم مصدقيَّ فيما دعوتكم إليه, عاملين بشرع الله. وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) ولا تقعدوا بكل طريق تتوعدون الناس بالقتل, إن لم يعطوكم أموالهم, وتصدُّون عن سبيل الله القويم من صدَّق به عز وجل, وعمل صالحًا, وتبغون سبيل الله أن تكون معوجة, وتميلونها اتباعًا لأهوائكم, وتنفِّرون الناس عن اتباعها. واذكروا نعمة الله تعالى عليكم إذ كان عددكم قليلا فكثَّركم, فأصبحتم أقوياء عزيزين, وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين في الأرض, وما حلَّ بهم من الهلاك والدمار؟ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) وإن كان جماعة منكم صدَّقوا بالذي أرسلني الله به, وجماعة لم يصدِّقوا بذلك, فانتظروا أيها المكذبون قضاء الله الفاصل بيننا وبينكم حين يحلُّ عليكم عذابه الذي أنذرتكم به. والله -جلَّ وعلا- هو خير الحاكمين بين عباده. قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قال السادة والكبراء من قوم شعيب الذين تكبروا عن الإيمان بالله واتباع رسوله شعيب عليه السلام: لنخرجنك يا شعيب ومَن معك من المؤمنين من ديارنا, إلا إذا صرتم إلى ديننا, قال شُعيب منكرًا ومتعجبًا من قولهم: أنتابعكم على دينكم ومِلَّتكم الباطلة, ولو كنا كارهين لها لعِلْمِنا ببطلانها؟ قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وقال شعيب لقومه مستدركًا: قد اختلقنا على الله الكذب إن عُدْنا إلى دينكم بعد أن أنقذنا الله منه, وليس لنا أن نتحول إلى غير دين ربنا إلا أن يشاء الله ربنا, وقد وسع ربنا كل شيء علمًا, فيعلم ما يصلح للعباد, على الله وحده اعتمادنا هداية ونصرة, ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق, وأنت خير الحاكمين. وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ (90) وقال السادة والكبراء المكذبون الرافضون لدعوة التوحيد إمعانًا في العتوِّ والتمرد, محذرين من اتباع شعيب: لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذًا لهالكون. فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) فأخذَتْ قومَ شعيب الزلزلةُ الشديدة, فأصبحوا في دارهم صرعى ميتين. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمْ الْخَاسِرِينَ (92) الذين كذَّبوا شعيبًا كأنهم لم يقيموا في ديارهم, ولم يتمتعوا فيها, حيث استؤصلوا, فلم يبق لهم أثر, وأصابهم الخسران والهلاك في الدنيا والآخرة. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) فأعرض شعيب عنهم حينما أيقن بحلول العذاب بهم, وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي, ونصحت لكم بالدخول في دين الله والإقلاع عما أنتم عليه, فلم تسمعوا ولم تطيعوا, فكيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسله؟ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) وما أرسلنا في قرية من نبي يدعوهم إلى عبادة الله, وينهاهم عمَّا هم فيه من الشرك, فكذَّبه قومه, إلا ابتليناهم بالبأساء والضراء, فأصبناهم في أبدانهم بالأمراض والأسقام, وفي أموالهم بالفقر والحاجة; رجاء أن يستكينوا, وينيبوا إلى الله, ويرجعوا إلى الحق. ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) ثم بدَّلنا الحالة الطيبة الأولى مكان الحالة السيئة, فأصبحوا في عافية في أبدانهم, وسَعَة ورخاء في أموالهم; إمهالا لهم, ولعلهم يشكرون, فلم يُفِد معهم كل ذلك, ولم يعتبروا ولم ينتهوا عمَّا هم فيه, وقالوا: هذه عادة الدهر في أهله, يوم خير ويوم شر, وهو ما جرى لآبائنا من قبل, فأخذناهم بالعذاب فجأة وهم آمنون, لا يخطر لهم الهلاك على بال. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) ولو أنَّ أهل القرى صدَّقوا رسلهم واتبعوهم واجتنبوا ما نهاهم الله عنه, لفتح الله لهم أبواب الخير من كلِّ وجه, ولكنهم كذَّبوا, فعاقبهم الله بالعذاب المهلك بسبب كفرهم ومعاصيهم. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أيظن أهل القرى أنهم في منجاة ومأمن من عذاب الله, أن يأتيهم ليلا وهم نائمون؟ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أوَأمن أهل القرى أن يأتيهم عذاب الله وقت الضحى, وهم غافلون متشاغلون بأمور دنياهم؟ وخصَّ الله هذين الوقتين بالذكر, لأن الإنسان يكون أغْفَل ما يكون فيهما, فمجيء العذاب فيهما أفظع وأشد. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أفأمن أهل القرى المكذبة مَكْرَ الله وإمهاله لهم; استدراجًا لهم بما أنعم عليهم في دنياهم عقوبة لمكرهم؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الهالكون. أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) أوَلم يتبين للذين سكنوا الأرض من بعد إهلاك أهلها السابقين بسبب معاصيهم, فساروا سيرتهم, أن لو نشاء أصبناهم بسبب ذنوبهم كما فعلنا بأسلافهم, ونختم على قلوبهم, فلا يدخلها الحق, ولا يسمعون موعظة ولا تذكيرًا؟ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) تلك القرى التي تَقَدَّم ذِكْرُها, وهي قرى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب, نقصُّ عليك -أيها الرسول- من أخبارها, وما كان من أَمْر رسل الله التي أرسلت إليهم, ما يحصل به عبرة للمعتبرين وازدجار للظالمين. ولقد جاءت أهلَ القرى رسلنا بالحجج البينات على صدقهم, فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل; بسبب طغيانهم وتكذيبهم بالحق, ومثل خَتْمِ الله على قلوب هؤلاء الكافرين المذكورين يختم الله على قلوب الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم. وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) وما وَجَدْنا لأكثر الأم الماضية من أمانة ولا وفاء بالعهد, وما وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة الله وامتثال أمره. ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) ثم بعثنا من بعد الرسل المتقدم ذِكْرهم موسى بن عمران بمعجزاتنا البينة إلى فرعون وقومه, فجحدوا وكفروا بها ظلمًا منهم وعنادًا, فانظر -أيها الرسول- متبصرًا كيف فعلنا بهم وأغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه؟ وتلك نهاية المفسدين. وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) وقال موسى لفرعون محاورًا مبلِّغًا: إني رسولٌ من الله خالق الخلق أجمعين, ومدبِّر أحوالهم ومآلهم. حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) جدير بأن لا أقول على الله إلا الحق, وحريٌّ بي أن ألتزمه, قد جئتكم ببرهان وحجة باهرة من ربكم على صِدْق ما أذكره لكم, فأطلق -يا فرعون- معي بني إسرائيل مِن أَسْرك وقَهْرك, وخلِّ سبيلهم لعبادة الله. قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (106) قال فرعرن لموسى: إن كنتَ جئتَ بآية حسب زعمك فأتني بها, وأحضرها عندي; لتصحَّ دعواك ويثبت صدقك, إن كنت صادقًا فيما ادَّعيت أنك رسول رب العالمين. فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) فألقى موسى عصاه, فتحولت حيَّة عظيمة ظاهرة للعيان. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) وجذب يده من جيبه أو من جناحه فإذا هي بيضاء كاللبن من غير برص آية لفرعون, فإذا ردَّها عادت إلى لونها الأول, كسائر بدنه. قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) قال الأشراف من قوم فرعون: إن موسى لساحر يأخذ بأعين الناس بخداعه إياهم, حتى يخيل إليهم أن العصا حية, والشيء بخلاف ما هو عليه, وهو واسع العلم بالسحر ماهر به. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) يريد أن يخرجكم جميعًا من أرضكم, قال فرعون: فبماذا تشيرون عليَّ أيها الملأ في أمر موسى؟ قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) قال مَن حضر مناظرة موسى مِن سادة قوم فرعون وكبرائهم: أَخِّر موسى وأخاه هارون, وابعث في مدائن "مصر" وأقاليمها الشُّرَط. يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) ليجمعوا لك كل ساحر واسع العلم بالسحر. وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) وجاء السحرة فرعون قالوا: أئنَّ لنا لجائزة ومالا إن غَلَبْنا موسى؟ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (114) قال فرعون: نعم لكم الأجر والقرب مني إن غَلَبْتُموه. قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قال سحرة فرعون لموسى على سبيل التكبر وعدم المبالاة: يا موسى اختر أن تُلقي عصاك أولا أو نُلقي نحن أولا. قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) قال موسى للسحرة: ألقوا أنتم, فلما ألقَوا الحبال والعصيَّ سحروا أعين الناس, فخُيِّل إلى الأبصار أن ما فعلوه حقيقة, ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال, وأرهبوا الناس إرهابًا شديدًا, وجاؤوا بسحر قوي كثير. وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) وأوحى الله إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم الذي فرَّق الله فيه بين الحق والباطل, يأمره بأن يُلقي ما في يمينه وهي عصاه, فألقاها فإذا هي تبلع ما يلقونه, ويوهمون الناس أنه حق وهو باطل. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فظهر الحق واستبان لمن شهده وحضره في أمر موسى عليه السلام, وأنه رسول الله يدعو إلى الحق, وبطل الكذب الذي كانوا يعملونه. فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) فغُلِبَ جميع السحرة في مكان اجتماعهم, وانصرف فرعون وقومه أذلاء مقهورين مغلوبين. وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) وخَرَّ السحرة سُجَّدًا على وجوههم لله رب العالمين لِمَا عاينوا من عظيم قدرة الله. قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) قالوا: آمنا برب العالمين. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) وهو رب موسى وهارون, وهو الذي يجب أن تصرف له العبادة وحده دون مَن سواه. قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) قال فرعون للسحرة: آمنتم بالله قبل أن آذن لكم بالإيمان به؟ إن إيمانكم بالله وتصديقكم لموسى وإقراركم بنبوته لحيلة احتلتموها أنتم وموسى; لتخرجوا أهل مدينتكم منها, وتكونوا المستأثرين بخيراتها, فسوف تعلمون -أيها السحرة- ما يحلُّ بكم من العذاب والنكال. لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) لأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم -أيها السحرة- من خلاف: بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى, أو اليد اليسرى والرجل اليمنى, ثم لأعلقنَّكم جميعًا على جذوع النخل; تنكيلا بكم وإرهابًا للناس. قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) قال السحرة لفرعون: قد تحققنا أنَّا إلى الله راجعون, وأن عذابه أشد من عذابك, فلنصبرنَّ اليوم على عذابك; لِننجو من عذاب الله يوم القيامة. وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) ولستَ تعيب منا وتنكر -يا فرعون- إلا إيماننا وتصديقنا بحجج ربنا وأدلته التي جاء بها موسى ولا تقدر على مثلها أنت ولا أحد آخر سوى الله الذي له ملك السموات والأرض, ربنا أَفِضْ علينا صبرًا عظيمًا وثباتا عليه, وتوفَّنا منقادين لأمرك متبعين رسولك. وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) وقال السادة والكبراء من قوم فرعون لفرعون: أَتَدَعُ موسى وقومه من بني إسرائيل ليفسدوا الناس في أرض "مصر" بتغيير دينهم بعبادة الله وحده لا شريك له, وترك عبادتك وعبادة آلهتك؟ قال فرعون: سنُقَتِّل أبناء بني إسرائيل ونستبقي نساءهم أحياء للخدمة, وإنَّا عالون عليهم بقهر المُلْكِ والسلطان. قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قال موسى لقومه -من بني إسرائيل-: استعينوا بالله على فرعون وقومه, واصبروا على ما نالكم من فرعون من المكاره في أنفسكم وأبنائكم. إن الأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده, والعاقبة المحمودة لمن اتقى الله ففعل أوامره واجتنب نواهيه. قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) قال قوم موسى -من بني إسرائيل- لنبيهم موسى: ابتُلينا وأُوذينا بذبح أبنائنا واستحياء نسائنا على يد فرعون وقومه, من قبل أن تأتينا, ومن بعد ما جئتنا, قال موسى لهم: لعل ربكم أن يهلك عدوكم فرعون وقومه, ويستخلفكم في أرضهم بعد هلاكهم, فينظر كيف تعملون, هل تشكرون أو تكفرون؟ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) ولقد ابتلينا فرعون وقومه بالقحط والجدب, ونَقْص ثمارهم وغَلاتهم; ليتذكروا, وينزجروا عن ضلالاتهم, ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة. فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) فإذا جاء فرعونَ وقومَه الخِصْبُ والرزقُ قالوا: هذا لنا بما نستحقه, وإن يُصِبْهم جدب وقحط يتشاءموا, ويقولوا: هذا بسبب موسى ومَن معه. ألا إنَّ ما يصيبهم من الجدب والقحط إنما هو بقضاء الله وقدره, وبسبب ذنوبهم وكفرهم, ولكن أكثر قوم فرعون لا يعلمون ذلك; لانغمارهم في الجهل والضلال. وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) وقال قوم فرعون لموسى: أي آية تأتِنا بها, ودلالة وحجة أقمتها لتصرفنا عما نحن عليه من دين فرعون, فما نحن لك بمصدِّقين. فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) فأرسلنا عليهم سيلا جارفًا أغرق الزروع والثمار, وأرسلنا الجراد, فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم, وأرسلنا القُمَّل الذي يفسد الثمار ويقضي على الحيوان والنبات, وأرسلنا الضفادع فملأت آنيتهم وأطعمتهم ومضاجعهم, وأرسلنا أيضًا الدم فصارت أنهارهم وآبارهم دمًا, ولم يجدوا ماء صالحًا للشرب, هذه آيات من آيات الله لا يقدر عليها غيره, مفرقات بعضها عن بعض, ومع كل هذا ترفَّع قوم فرعون, فاستكبروا عن الإيمان بالله, وكانوا قومًا يعملون بما ينهى الله عنه من المعاصي والفسق عتوًّا وتمردًا. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) ولما نزل العذاب على فرعون وقومه فزعوا إلى موسى وقالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما أوحى به إليك مِن رَفْع العذاب بالتوبة, لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه لنصدِّقنَّ بما جئت به, ونتبع ما دعوت إليه, ولنطلقنَّ معك بني إسرائيل, فلا نمنعهم من أن يذهبوا حيث شاؤوا. فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فلما رفع الله عنهم العذاب الذى أنزله بهم إلى أجلٍ هم بالغوه لا محالة فيعذبون فيه, لا ينفعهم ما تقدَّم لهم من الإمهال وكَشْفِ العذاب إلى حلوله, إذا هم ينقضون عهودهم التي عاهدوا عليها ربهم وموسى, ويقيمون على كفرهم وضلالهم. فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) فانتقمنا منهم حين جاء الأجل المحدد لإهلاكهم, وذلك بإحلال نقمتنا عليهم, وهي إغراقهم في البحر; بسبب تكذيبهم بالمعجزات التي ظهرت على يد موسى, وكانوا عن هذه المعجزات غافلين, وتلك الغفلة هي سبب التكذيب. وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وأررثنا بني إسرائيل الذين كانوا يُستَذَلُّون للخدمة, مشارق الأرض ومغاربها (وهي بلاد "الشام") التي باركنا فيها, بإخراج الزروع والثمار والأنهار, وتمت كلمة ربك -أيها الرسول- الحسنى على بني إسرائيل بالتمكين لهم في الأرض; بسبب صبرهم على أذى فرعون وقومه, ودمَّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه من العمارات والمزارع, وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور وغير ذلك. وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) وقطعنا ببني إسرائيل البحر, فمرُّوا على قوم يقيمون ويواظبون على عبادة أصنام لهم, قال بنو إسرائيل: اجعل لنا يا موسى صنمًا نعبده ونتخذه إلهًا, كما لهؤلاء القوم أصنام يعبدونها, قال موسى لهم: إنكم أيها القوم تجهلون عظمة الله, ولا تعلمون أن العبادة لا تنبغي إلا لله الواحد القهار. إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) إن هؤلاء المقيمين على هذه الأصنام مُهْلَك ما هم فيه من الشرك, ومدمَّر وباطل ما كانوا يعملون من عبادتهم لتلك الأصنام, التي لا تدفع عنهم عذاب الله إذا نزل بهم. قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) قال موسى لقومه: أغير الله أطلب لكم معبودًا تعبدونه من دونه, والله هو الذي خلقكم, وفضَّلكم على عالمي زمانكم بكثرة الأنبياء فيكم, وإهلاك عدوكم وما خصَّكم به من الآيات؟ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) واذكروا - يا بني إسرائيل - نِعَمنا عليكم إذ أنقذناكم من أَسْر فرعون وآله, وما كنتم فيه من الهوان والذلة من تذبيح أبنائكم واستبقاء نسائكم للخدمة, وفي حَمْلِكم على أقبح العذاب وأسوئه, ثم إنجائكم, اختبار من الله لكم ونعمة عظيمة. وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وواعد الله سبحانه وتعالى موسى لمناجاة ربه ثلاثين ليلة, ثم زاده في الأجل بعد ذلك عشر ليال, فتمَّ ما وَقَّتَه الله لموسى لتكليمه أربعين ليلة. وقال موسى لأخيه هارون -حين أراد المضيَّ لمناجاة ربه-: كن خليفتي في قومي حتى أرجع, وأحمِلَهم على طاعة الله وعبادته, ولا تسلكْ طريق الذين يفسدون في الأرض. وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) ولما جاء موسى في الوقت المحدد وهو تمام أربعين ليلة, وكلَّمه ربه بما كلَّمه من وحيه وأمره ونهيه, طمع في رؤية الله فطلب النظر إليه, قال الله له: لن تراني, أي لن تقدر على رؤيتي في الدنيا, ولكن انظر إلى الجبل, فإن استقر مكانه إذا تجلَّيتُ له فسوف تراني, فلما تجلَّى ربه للجبل جعله دكًّا مستويًا بالأرض, وسقط موسى مغشيًّا عليه, فلما أفاق من غشيته قال: تنزيهًا لك يا رب عما لا يليق بجلالك, إني تبت إليك من مسألتي إياك الرؤية في هذه الحياة الدنيا, وأنا أول المؤمنين بك من قومي. قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ (144) قال الله يا موسى: إني اخترتك على الناس برسالاتي إلى خلقي الذين أرسلتك إليهم وبكلامي إياك مِن غير وساطة, فخذ ما أعطيتك مِن أمري ونهيي, وتمسَّك به, واعمل به, وكن من الشاكرين لله تعالى على ما آتاك من رسالته, وخصَّك بكلامه. وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) وكتبنا لموسى في التوراة من كل ما يحتاج إليه في دينه من الأحكام, موعظة للازدجار والاعتبار وتفصيلا لتكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص والعقائد والأخبار والمغيبات, قال الله له: فخذها بقوة, أي: خذ التوراة بجد واجتهاد, وأمر قومك يعملوا بما شرع الله فيها; فإن مَن أشرك منهم ومِن غيرهم فإني سأريه في الآخرة دار الفاسقين, وهي نار الله التي أعدَّها لأعدائه الخارجين عن طاعته. سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) سأصرف عن فَهْم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي, والمتكبرين على الناس بغير الحق, فلا يتبعون نبيًا ولا يصغون إليه لتكبرهم, وإنْ يَرَ هؤلاء المتكبرون عن الإيمان كل آية لا يؤمنوا بها لإعراضهم ومحادَّتهم لله ورسوله, وإن يروا طريق الصلاح لا يتخذوه طريقًا, وإن يروا طريق الضلال, أي الكفر يتخذوه طريقًا ودينًا; وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالاتها. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) والذين كذَّبوا بآيات الله وحججه وبلقاء الله في الآخرة حبطت أعملهم; بسبب فَقْدِ شرطها, وهو الإيمان بالله والتصديق بجزائه, ما يجزون في الآخرة إلا جزاء ما كانوا يعملونه في الدنيا من الكفر والمعاصي, وهو الخلود في النار. وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) واتخذ قوم موسى من بعد ما فارقهم ماضيًا لمناجاة ربه معبودًا مِن ذهبهم عِجلا جسدًا بلا روح, له صوت, ألم يعلموا أنه لا يكلمهم, ولا يرشدهم إلى خير؟ أَقْدَمُوا على ما أقدموا عليه من هذا الأمر الشنيع, وكانوا ظالمين لأنفسهم واضعين الشيء في غير موضعه وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (149) ولما ندم الذين عبدوا العجل مِن دون الله عند رجوع موسى إليهم, ورأوا أنهم قد ضلُّوا عن قصد السبيل, وذهبوا عن دين الله, أخذوا في الإقرار بالعبودية والاستغفار, فقالوا: لئن لم يرحمنا ربنا بقَبول توبتنا, ويستر بها ذنوبنا, لنكونن من الهالكين الذين ذهبت أعمالهم. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) ولما رجع موسى إلى قومه مِن بني إسرائيل غضبان حزينًا; لأن الله قد أخبره أنه قد فُتِن قومه, وأن السامريَّ قد أضلَّهم, قال موسى: بئس الخلافة التي خلفتموني مِن بعدي, أعجلتم أَمْر ربكم؟ أي: أستعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدَّر من الله تعالى؟ وألقى موسى ألواح التوراة غضبا على قومه الذين عبدوا العجل, وغضبًا على أخيه هارون, وأمسك برأس أخيه يجره إليه, قال هارون مستعطفًا: يا ابن أمي: إن القوم استذلوني وعدُّوني ضعيفًا وقاربوا أن يقتلوني, فلا تَسرَّ الأعداء بما تفعل بي, ولا تجعلني في غضبك مع القوم الذين خالفوا أمرك وعبدوا العجل. قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) قال موسى لما تبين له عذر أخيه, وعلم أنه لم يُفَرِّط فيما كان عليه من أمر الله: ربِّ اغفر لي غضبي, واغفر لأخي ما سبق بينه وبين بني إسرائيل, وأدخلنا في رحمتك الواسعة, فإنك أرحم بنا من كل راحم. إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) إن الذين اتخذوا العجل إلهًا سينالهم غضب شديد مِن ربهم وهوان في الحياة الدنيا; بسبب كفرهم بربهم, وكما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين المبتدعين في دين الله, فكل صاحب بدعة ذليل. وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) والذين عملوا السيئات من الكفر والمعاصي, ثم رجعوا مِن بعد فعلها إلى الإيمان والعمل الصالح, إن ربك من بعد التوبة النصوح لغفور لأعمالهم غير فاضحهم بها, رحيم بهم وبكل مَن كان مثلهم من التائبين. وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) ولما سكن عن موسى غضبه أخذ الألواح بعد أن ألقاها على الأرض, وفيها بيان للحق ورحمة للذين يخافون الله, ويخشون عقابه. وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) واختار موسى من قومه سبعين رجلا مِن خيارهم, وخرج بهم إلى طور "سيناء" للوقت والأجل الذي واعده الله أن يلقاه فيه بهم للتوبة مما كان من سفهاء بني إسرائيل من عبادة العجل, فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك -يا موسى- حتى نرى الله جهرة فإنك قد كلَّمته فأرِنَاهُ, فأخذتهم الزلزلة الشديدة فماتوا, فقام موسى يتضرع إلى الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم, وقد أهلكتَ خيارهم؟ لو شئت أهلكتهم جميعًا من قبل هذا الحال وأنا معهم, فإن ذلك أخف عليَّ, أتهلكنا بما فعله سفهاء الأحلام منا؟ ما هذه الفعلة التي فعلها قومي من عبادتهم العجل إلا ابتلاءٌ واختبارٌ, تضلُّ بها مَن تشاء مِن خلقك, وتهدي بها من تشاء هدايته, أنت وليُّنا وناصرنا, فاغفر ذنوبنا, وارحمنا برحمتك, وأنت خير مَن صفح عن جُرْم, وستر عن ذنب. وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) واجعلنا ممن كتبتَ له الصالحات من الأعمال في الدنيا وفي الآخرة, إنا رجعنا تائبين إليك, قال الله تعالى لموسى: عذابي أصيب به مَن أشاء مِن خلقي, كما أصبتُ هؤلاء الذين أصبتهم من قومك, ورحمتي وسعت خلقي كلَّهم, فسأكتبها للذين يخافون الله, ويخشون عقابه, فيؤدون فرائضه, ويجتنبون معاصيه, والذين هم بدلائل التوحيد وبراهينه يصدقون. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157) هذه الرحمة سأكتبها للذين يخافون الله ويجتنبون معاصيه, ويتبعون الرسول النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب, وهو محمد صلى الله عليه وسلم, الذي يجدون صفته وأمره مكتوبَيْن عندهم في التوراة والإنجيل, يأمرهم بالتوحيد والطاعة وكل ما عرف حُسْنه, وينهاهم عن الشرك والمعصية وكل ما عرف قُبْحه, ويُحِلُّ لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والمناكح, ويُحرِّم عليهم الخبائث منها كلحم الخنزير, وما كانوا يستحلُّونه من المطاعم والمشارب التي حرَّمها الله, ويذهب عنهم ما كُلِّفوه من الأمور الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثوب, وإحراق الغنائم, والقصاص حتمًا من القاتل عمدًا كان القتل أم خطأ, فالذين صدَّقوا بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم وأقروا بنبوته, ووقروه وعظَّموه ونصروه, واتبعوا القرآن المنزل عليه, وعملوا بسنته, أولئك هم الفائزون بما وعد الله به عباده المؤمنين. قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) قل -أيها الرسول- للناس كلهم: إني رسول الله إليكم جميعًا لا إلى بعضكم دون بعض, الذي له ملك السموات والأرض وما فيهما, لا ينبغي أن تكون الألوهية والعبادة إلا له جل ثناؤه, القادر على إيجاد الخلق وإفنائه وبعثه, فصدَّقوا بالله وأقرُّوا بوحدانيته, وصدَّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأميِّ الذي يؤمن بالله وما أنزل إليه من ربه وما أنزل على النبيين من قبله, واتبعوا هذا الرسول, والتزموا العمل بما أمركم به من طاعة الله, رجاء أن توفقوا إلى الطريق المستقيم. وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) ومِن بني إسرائيل من قوم موسى جماعة يستقيمون على الحق, يهدون الناس به, ويعدلون به في الحكم في قضاياهم. وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وفرَّقنا قوم موسى مِن بني إسرائيل اثنتي عشرة قبيلة بعدد الأسباط -وهم أبناء يعقوب- كل قبيلة معروفة من جهة نقيبها. وأوحينا إلى موسى إذ طلب منه قومه السقيا حين عطشوا في التِّيْه: أن اضرب بعصاك الحجر, فضربه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا من الماء, قد علمت كل قبيلة من القبائل الاثنتي عشرة مشربهم, لا تدخل قبيلة على غيرها في شربها, وظلَّلنا عليهم السحاب, وأنزلنا عليهم المنَّ -وهو شيء يشبه الصَّمغ, طعمه كالعسل - والسلوى, وهو طائر يشبه السُّمَانَى, وقلنا لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم, فكر هوا ذلك وملُّوه من طول المداومة عليه, وقالوا: لن نصبر على طعام واحد, وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وما ظلمونا حين لم يشكروا لله, ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم, ولكن كانوا أنفسهم يظلمون; إذ فوَّتوا عليها كل خير, وعرَّضوها للشر والنقمة. وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) واذكر -أيها الرسول- عصيان بني إسرائيل لربهم سبحانه وتعالى ولنبيهم موسى عليه السلام, وتبديلهم القول الذي أمروا أن يقولوه حين قال الله لهم: اسكنوا قرية "بيت المقدس", وكلوا من ثمارها وحبوبها ونباتها أين شئتم ومتى شئتم, وقولوا: حُطَّ عنا ذنوبنا, وادخلوا الباب خاضعين لله, نغفر لكم خطاياكم, فلا نؤاخذكم عليها, وسنزيد المحسنين مِن خَيْرَيِ الدنيا والآخرة. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) فغيَّر الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول, ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم, وقالوا: حبة في شعرة, فأرسلنا عليهم عذابًا من السماء, أهلكناهم به; بسبب ظلمهم وعصيانهم. وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) واسأل -أيها الرسول- هؤلاء اليهود عن خبر أهل القرية التي كانت بقرب البحر, إذ يعتدي أهلها في يوم السبت على حرمات الله, حيث أمرهم أن يعظموا يوم السبت ولا يصيدوا فيه سمكًا, فابتلاهم الله وامتحنهم; فكانت حيتانهم تأتيهم يوم السبت كثيرة طافية على وجه البحر, وإذا ذهب يوم السبت تذهب الحيتان في البحر, ولا يرون منها شيئًا, فكانوا يحتالون على حبسها في يوم السبت في حفائر, ويصطادونها بعده. وكما وصفنا لكم من الاختبار والابتلاء, لإظهار السمك على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده فيه, وإخفائه عليهم في اليوم المحلل لهم فيه صيده, كذلك نختبرهم بسبب فسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها. وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) واذكر -أيها الرسول- إذ قالت جماعة منهم لجماعة أخرى كانت تعظ المعتدين في يوم السبت, وتنهاهم عن معصية الله فيه: لِمَ تعظون قومًا الله مهلكهم في الدنيا بمعصيتهم إياه أو معذبهم عذابا شديدًا في الآخرة؟ قال الذين كانوا ينهَوْنهم عن معصية الله: نَعِظهم وننهاهم لِنُعْذَر فيهم, ونؤدي فرض الله علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ورجاء أن يتقوا الله, فيخافوه, ويتوبوا من معصيتهم ربهم وتعذِّيهم على ما حرَّم عليهم. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فلما تركت الطائفة التي اعتدت في يوم السبت ما ذُكِّرت به, واستمرت على غيِّها واعتدائها فيه, ولم تستجب لما وَعَظَتْها به الطائفة الواعظة, أنجى الله الذين ينهون عن معصيته, وأخذ الذين اعتدَوْا في يوم السبت بعذاب أليم شديد; بسبب مخالفتهم أمر الله وخروجهم عن طاعته. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) فلما تمردت تلك الطائفة, وتجاوزت ما نهاها الله عنه من عدم الصيد في يوم السبت, قال لهم الله: كونوا قردة خاسئين مبعدين من كل خير, فكانوا كذلك. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) واذكر -أيها الرسول- إذ علم ذلك إعلامًا صريحًا ليبعثن على اليهود مَن يذيقهم سوء العذاب والإذلال إلى يوم القيامة. إن ربك -أيها الرسول- لسريع العقاب لِمَن استحقه بسبب كفره ومعصيته, وإنه لغفور عن ذنوب التائبين, رحيم بهم. وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) وفرَّقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات, منهم القائمون بحقوق الله وحقوق عباده, ومنهم المقصِّرون الظالمون لأنفسهم, واختبرنا هؤلاء بالرخاء في العيش والسَّعَة في الرزق, واختبرناهم أيضًا بالشدة في العيش والمصائب والرزايا; رجاء أن يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا من معاصيه. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) فجاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم بَدَلُ سوء أخذوا الكتاب من أسلافهم, فقرءوه وعلموه, وخالفوا حكمه, يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا من دنيء المكاسب كالرشوة وغيرها; وذلك لشدة حرصهم ونَهَمهم, ويقولون مع ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا تمنيًا على الله الأباطيل, وإن يأت هؤلاء اليهودَ متاعٌ زائلٌ من أنواع الحرام يأخذوه ويستحلوه, مصرِّين على ذنوبهم وتناولهم الحرام, ألَمْ يؤخذ على هؤلاء العهود بإقامة التوراة والعمل بما فيها, وألا يقولوا على الله إلا الحق وألا يكذبوا عليه, وعلموا ما في الكتاب فضيعوه, وتركوا العمل به, وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك؟ والدار الآخرة خير للذين يتقون الله, فيمتثلون أوامره, ويجتنبون نواهيه, أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون دنيء المكاسب أن ما عند الله خير وأبقى للمتقين؟ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) والذين يتمسَّكون بالكتاب, ويعملون بما فيه من العقائد والأحكام, ويحافظون على الصلاة بحدودها, ولا يضيعون أوقاتها, فإن الله يثيبهم على أعمالهم الصالحة, ولا يضيعها. وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) واذكر -أيها الرسول- إذ رفعنا الجبل فوق بني إسرائيل كأنه سحابة تظلهم, وأيقنوا أنه واقع بهم إن لم يقبلوا أحكام التوراة, وقلنا لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة, أي اعملوا بما أعطيناكم باجتهاد منكم, واذكروا ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذناها عليكم بالعمل بما فيه; كي تتقوا ربكم فتنجوا من عقابه. وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) واذكر -أيها النبي- إذ استخرج ربك أولاد آدم مِن أصلاب آبائهم, وقررهم بتوحيده بما أودعه في فطرهم من أنه ربهم وخالقهم ومليكهم, فأقروا له بذلك, خشية أن ينكروا يوم القيامة, فلا يقروا بشيء فيه, ويزعموا أن حجة الله ما قامت عليهم, ولا عندهم علم بها, بل كانوا عنها غافلين. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) أو لئلا تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبلنا ونقضوا العهد, فاقتدينا بهم من بعدهم, أفتعذبنا بما فعل الذين أبطلوا أعمالهم بجعلهم مع الله شريكا في العبادة؟ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وكما فَصَّلْنا الآيات, وبيَّنَّا فيها ما فعلناه بالأمم السابقة, كذلك نفصِّل الآيات ونبيِّنها لقومك أيها الرسول; رجاء أن يرجعوا عن شركهم, وينيبوا إلى ربهم. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ (175) واقصص -أيها الرسول- على أمتك خبر رجل من بني إسرائيل أعطيناه حججنا وأدلتنا, فتعلَّمها, ثم كفر بها, ونبذها وراء ظهره, فاستحوذ عليه الشيطان, فصار من الضالين الهالكين; بسبب مخالفته أمر ربه وطاعته الشيطان. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ولو شئنا أن نرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا, ولكنه رَكَنَ إلى الدنيا واتبع هواه, وآثر لَذَّاته وشهواته على الآخرة, وامتنع عن طاعة الله وخالف أمره. فَمَثَلُ هذا الرجل مثل الكلب, إن تطرده أو تتركه يُخْرج لسانه في الحالين لاهثًا, فكذلك الذي انسلخ من آيات الله يظل على كفره إن اجتهدْتَ في دعوتك له أو أهملته, هذا الوصف -أيها الرسول- وصف هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة, فاقصص -أيها الرسول- أخبار الأمم الماضية, ففي إخبارك بذلك أعظم معجزة, لعل قومك يتدبرون فيما جئتهم به فيؤمنوا لك. سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) قَبُحَ مثلا مثلُ القوم الذين كذَّبوا بحجج الله وأدلته, فجحدوها, وأنفسهم كانوا يظلمونها; بسبب تكذيبهم بهذه الحجج والأدلة. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (178) من يوفقه الله للإيمان به وطاعته فهو الموفَّق, ومن يخذله فلم يوفقه فهو الخاسر الهالك, فالهداية والإضلال من الله وحده. وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179) ولقد خلقنا للنار -التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة - كثيرًا من الجن والإنس, لهم قلوب لا يعقلون بها, فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا, ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته, ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها, هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها, ولا تفهم ما تبصره, ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما, بل هم أضل منها; لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع راعيها, وهم بخلاف ذلك, أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته. وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) ولله سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى, الدالة على كمال عظمته, وكل أسمائه حسن, فاطلبوا منه بأسمائه ما تريدون, واتركوا الذين يُغيِّرون في أسمائه بالزيادة أو النقصان أو التحريف, كأن يُسمَّى بها من لا يستحقها, كتسمية المشركين بها آلهتهم, أو أن يجعل لها معنى لم يُردْه الله ولا رسوله, فسوف يجزون جزاء أعمالهم السيئة التي كانوا يعملونها في الدنيا من الكفر بالله, والإلحاد في أسمائه وتكذيب رسوله. وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) ومن الذين خَلَقْنا جماعة فاضلة يهتدون بالحق ويَدْعون إليه, وبه يقضون وينصفون الناس, وهم أئمة الهدى ممن أنعم الله عليهم بالإيمان والعمل الصالح. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) والذين كذَّبوا بآياتنا, فجحدوها, ولم يتذكروا بها, سنفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا, استدراجًا لهم حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء, ثم نعاقبهم على غِرَّة من حيث لا يعلمون. وهذه عقوبة من الله على التكذيب بحجج الله وآياته. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) وأمهل هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا حتى يظنوا أنهم لا يعاقبون, فيزدادوا كفرًا وطغيانًا, وبذلك يتضاعف لهم العذاب. إن كيدي متين, أي: قوي شديد لا يُدْفع بقوة ولا بحيلة. أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أولم يتفكر هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا فيتدبروا بعقولهم, ويعلموا أنه ليس بمحمد جنون؟ ما هو إلا نذير لهم من عقاب الله على كفرهم به إن لم يؤمنوا, ناصح مبين. أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) أولم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله في ملك الله العظيم وسلطانه القاهر في السموات والأرض, وما خلق الله -جلَّ ثناؤه- من شيء فيهما, فيتدبروا ذلك ويعتبروا به, وينظروا في آجالهم التي عست أن تكون قَرُبَتْ فيهلكوا على كفرهم, ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه؟ فبأي تخويف وتحذير بعد تحذير القرآن يصدقون ويعملون؟ مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) مَن يضلله الله عن طريق الرشاد فلا هادي له, ويتركُهم في كفرهم يتحيرون ويترددون. يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) يسألك -أيها الرسول- كفار "مكة" عن الساعة متى قيامها؟ قل لهم: عِلْمُ قيامها عند الله لا يظهرها إلا هو, ثَقُلَ علمها, وخفي على أهل السموات والأرض, فلا يعلم وقت قيامها ملَك مقرَّب ولا نبي مرسل, لا تجيء الساعة إلا فجأة, يسألك هؤلاء القوم عنها كأنك حريص على العلم بها, مستقص بالسؤال عنها, قل لهم: إنما علمها عند الله الذي يعلم غيب السموات والأرض, ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك لا يعلمه إلا الله. قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) قل -أيها الرسول-: لا أقدرُ على جَلْبِ خير لنفسي ولا دفع شر يحل بها إلا ما شاء الله, ولو كنت أعلم الغيب لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تكثِّر لي المصالح والمنافع, ولاتَّقيتُ ما يكون من الشر قبل أن يقع, ما أنا إلا رسول الله أرسلني إليكم, أخوِّف من عقابه, وأبشر بثوابه قومًا يصدقون بأني رسول الله, ويعملون بشرعه. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (189) هو الذي خلقكم -أيها الناس- من نفس واحدة, وهي آدم عليه السلام وخَلَق منها زوجها, وهي حواء; ليأنس بها ويطمئن, فلما جامعها -والمراد جنس الزوجين من ذرية آدم- حملت ماءً خفيفًا, فقامت به وقعدت وأتمت الحمل, فلما قَرُبت ولادتها وأثقلت دعا الزوجان ربهما: لئن أعطيتنا بشرًا سويًا صالحًا لنكونن ممن يشكرك على ما وهبت لنا من الولد الصالح. فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) فلما رزق الله الزوجين ولدًا صالحًا, جعلا لله شركاء في ذلك الولد الذي انفرد الله بخلقه فعبَّداه لغير الله, فتعالى الله وتنزه عن كل شرك. أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) أيشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله مخلوقاته, وهي لا تقدر على خَلْق شيء, بل هي مخلوقة؟ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192) ولا تستطيع أن تنصر عابديها أو تدفع عن نفسها سوءًا, فإذا كانت لا تخلق شيئًا, بل هي مخلوقة, ولا تستطيع أن تدفع المكروه عمن يعبدها, ولا عن نفسها, فكيف تُتَّخذ مع الله آلهة؟ إنْ هذا إلا أظلم الظلم وأسفه السَّفَه. وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) وإن ندعوا -أيها المشركون- هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله إلى الهدى, لا تسمع دعاءكم ولا تتبعكم; يستوي دعاؤكم لها وسكوتكم عنها; لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تَهدِي ولا تُهدى. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) إن الذين تعبدون من غير الله -أيها المشركون- هم مملوكون لربهم كما أنكم مملوكون لربكم, فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئًا فادعوهم فليستجيبوا لكم, فإن استجابوا لكم وحصَّلوا مطلوبكم, وإلا تبين أنكم كاذبون مفترون على الله أعظم الفرية. أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ (195) ألهذه الآلهة والأصنام أرجل يسعَوْن بها معكم في حوائجكم؟ أم لهم أيدٍ يدفعون بها عنكم وينصرونكم على من يريد بكم شرًا ومكروهًا؟ أم لهم أعين ينظرون بها فيعرِّفونكم ما عاينوا وأبصروا مما يغيب عنكم فلا ترونه؟ أم لهم آذان يسمعون بها فيخبرونكم بما لم تسمعوه؟ فإذا كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات, فما وجه عبادتكم إياها, وهي خالية من هذه الأشياء التي بها يتوصل إلى جلب النفع أو دفع الضر؟ قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان: ادعوا آلهتكم الذين جعلتموهم لله شركاء في العبادة, ثم اجتمعوا على إيقاع السوء والمكروه بي, فلا تؤخروني وعجِّلوا بذلك, فإني لا أبالي بآلهتكم; لاعتمادي على حفظ الله وحده. إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) إن وليِّيَ الله, الذي يتولى حفظي ونصري, هو الذي نزَّل عليَّ القرآن بالحق, وهو يتولى الصالحين مِن عباده, وينصرهم على أعدائهم ولا يخذلهم. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (197) والذين تدعون -أنتم أيها المشركون- مِن غير الله من الآلهة لا يستطيعون نصركم, ولا يقدرون على نصرة أنفسهم. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) وإن تدعوا -أيها المشركون- آلهتكم إلى الاستقامة والسداد لا يسمعوا دعاءكم, وترى -أيها الرسول- آلهة هؤلاء المشركين مِن عبدة الأوثان يقابلونك كالناظر إليك وهم لا يبصرون; لأنهم لا أبصار لهم ولا بصائر. خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ (199) اقْبَلْ -أيها النبي أنت وأمتك- الفضل من أخلاق الناس وأعمالهم, ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا, وأْمر بكل قول حسن وفِعْلٍ جميل, وأعرض عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة الأغبياء. وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) وإما يصيبنَّك -أيها النبي- من الشيطان غضب أو تُحِس منه بوسوسة وتثبيط عن الخير أو حث على الشرِّ, فالجأ إلى الله مستعيذًا به, إنه سميع لكل قول, عليم بكل فعل. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) إن الذين اتقوا الله مِن خلقه, فخافوا عقابه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه, إذا أصابهم عارض من وسوسة الشيطان تذكَّروا ما أوجب الله عليهم من طاعته, والتوبة إليه, فإذا هم منتهون عن معصية الله على بصيرة, آخذون بأمر الله, عاصون للشيطان. وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وإخوان الشياطين, وهم الفجَّار من ضلال الإنس تمدهم الشياطين من الجن في الضلالة والغَواية, ولا تدَّخر شياطين الجن وُسْعًا في مدِّهم شياطين الإنس في الغيِّ, ولا تدَّخر شياطين الإنس وُسْعًا في عمل ما توحي به شياطين الجن. وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وإذا لم تجئ -أيها الرسول- هؤلاء المشركين بآية قالوا: هلا أحدَثْتها واختلقتها من عند نفسك, قل لهم -أيها الرسول- : إن هذا ليس لي, ولا يجوز لي فِعْله; لأن الله إنما أمرني باتباع ما يوحى إليَّ من عنده, وهو هذا القرآن الذي أتلوه عليكم حججًا وبراهين من ربكم, وبيانًا يهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم, ورحمة يرحم الله بها عباده المؤمنين. وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له أيها الناس وأنصتوا, لتعقلوه رجاء أن يرحمكم الله به. وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ (205) واذكر -أيها الرسول- ربك في نفسك تخشعًا وتواضعًا لله خائفًا وجل القلب منه، وادعه متوسطًا بين الجهر والمخافتة في أول النهار وآخره, ولا تكن من الذين يَغْفُلون عن ذكر الله, ويلهون عنه في سائر أوقاتهم. إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ۩(206) إن الذين عند ربك من الملائكة لا يستكبرون عن عبادة الله, بل ينقادون لأوامره, ويسبحونه بالليل والنهار, وينزهونه عما لا يليق به, وله وحده لا شريك له يسجدون. تم بحمدالله تفسير سورة الأعراف |
|
|
12-04-2011, 05:57 PM | #20 | |
حبيب مشارك
|
جزاك الله خير الجزاء على المعلومات القيمة والمفيدة
بارك الله فيك واحسن اليك وباذن الله في موازين حسناتك دمت في حفظ الرحمن |
|
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|