● مولده
● هيئته
● صفاته
● توليه قيادة الجيش
● بداية الفتوحات على يد طارق بن زياد
● حاكم سبتة ، العدو الصديق
● حملة طريف
● توقف الفتوحات وأمر العودة إلى دمشق
● الأندلس بين عدل المسلمين وظلم الكاثوليك
● قصة إحراق السفن
● وفاته
● الدروس المستفادة
● الخاتمة
مولده: طارق بن زياد قائد عسكري أموي، ولد لقبيلة "نفز" في الغرب الجزائري عام 670 م، أسلم على يدِ موسى بن نصير أمير أفريقيا فحسُن إسلامه وكان من أشدَ رجاله.
كان طويل القامة، أشقر اللون، ضخم الهامة، وكان فارساً مغواراً، وقائداً محنكاً عظيماً، استطاع بإيمانه وصبره وعزيمته وإصراره أن يصل إلى هذه المكاة العظيمة، نجح في تحقيق هذه الإنتصارات لأنه كان يفكر في كل خطوة، ويتأنى في أي قرار، ويجمع المعلومات قبل التحرك.
كان أول نشأته، أثناء ولاية زهير بن قيس على إفريقيا. فلما قُتل زهير في طبرق، عام 76هـ، عُين طارق أميرًا على برقة غير أنه لم يلبث طويلاً في هذا المنصب، إذ أنه سرعان ما اختير قائدًا لجيش موسى بن نصير، فأبلى بلاء حسنًا في حروبه. وظهرت لموسى قدرته في اقتحام المعارك، ومهارته في قيادة الجيش، فولاه على مقدمة جيوشه بالمغرب.
أتيحَ لطارق بن زياد أن يتولى قيادة جيوش موسى، ويشترك معه بقية بلاد المغرب، والسيطرة على حصون المغرب الأقصى حتى المحيط الأطلسي، أكمل طارق الفتوحات في أفريقيا وفتح المدائن حتى بلغ مدينة الحسيمة (قصبة بلادهم، وأم مدائنهم) فحاصرها حتى دخلها، وأسلم أهلها. ولم يمض على ولاية موسى للمغرب عدة أعوام، حتى خضع له المغرب بأسره، ولم تستعص عليه سوى مدينة سبتة، لمناعتها وشدة تحصنها. وكان يتولى إمارتها حاكم من قبل الإمبراطورية البيزنطية، يعرف بـالكونت جوليان .
كان جوليان هذا ، برغم تبعيته للدولة البيزنطية يتوجه في طلب المعونة إلى مملكة القوط (Goth) بالأندلس، فتمده الحكومة القوطية بالمؤن والأقوات عن طريق البحر. وقاتله موسى وطارق فألفياه في نجدة وقوة وعدة، فلم يمكنهما التغلب عليه، فرجعا إلى مدينة طنجة، ومن هناك أخذا يغيران على ما حول سبتة، ويضيقان عليها الخناق دون جدوى، إذ كانت سفن القوط تختلف إلى سبتة بالميرة والإمداد. فلما يئس موسى من دخول سبتة، أقام قائده طارق بن زياد واليًا على مدينة طنجة حتى تتاح له فرصة مراقبة مدينة سبتة من كثب، وترك تحت تصرف طارق تسعة عشر ألفًا من البربر بأسلحتهم وعددهم الكاملة، مع نفر قليل من العرب ليعلموهم القرآن وفرائض الإسلام. أما موسى، فقد عاد إلى القيروان.
آثر طارق أن يكسب صداقة عدوه جوليان مادام قد عجز عن دخول مدينته الحصينة. ويُذكر أن طارقًا كان يراسل يليان ويلاطفه حتى تهادنا. ثم حدث في الجانب الآخر القوطي (الأندلس) أمر لم يكن في الحسبان: ذلك أن رودريجو (لذريق) ـ أحد قادة الجيش القوطي ـ وثب على العرش، وخلع الملك غيطشة، وتولى مكانه، ثم إن لذريق اعتدى على ابنة جوليان التي كانت في بلاط الملك غيطشة، الأمر الذي أثار غضب يليان، وجعله يأتي بنفسه إلى طارق بن زياد ويعرض عليه مساعدته في الاستيلاء على الأندلس. ولم يتردد طارق في الاتصال فورًا بمولاهُ موسى بن نصير بالقيروان، الذي اتصل بدوره بالخليفة الوليد بن عبد الملك يطلب استشارته وإذنه، ونصحه الخليفة الوليد بألا يعتمد على يليان بل يرسل من المسلمين من يستكشف الأمر، فأرسلت سرية طريف التي عادت بالبشائر والغنائم.
في رمضان 91هـ= يوليو 710م عندما حصل موسى بن نصير على الإذن بفتح الأندلس من الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، أرسل حملة حربية صغيرة مكونة من مائة فارس وأربعمائة راجل بقيادة طريف بن مالك في أربع سفن سنة (91هـ)، فنزلت في المكان الذي يحمل اسم جزيرة طريف، وكان هدف الحملة معرفة طبيعة البلاد، ومعرفة أحسن الأماكن التي يمكن إنزال الجيش فيها؛ ولذلك نجد الحملة الكبرى بقيادة طارق بن زياد المولى البربري لموسى بن نصير ونائبه لا تنزل في جزيرة طريف، وإنما تنزل في مكان أصبح يُعرف بجبل طارق؛ مما يدل على أنهم وجدوا ذلك المكان أنسب. وجاست الحملة خلال الجزيرة الخضراء، وغنمت كثيرًا ودرست أحوال إسبانيا، ثم قفلت راجعة إلى المغرب، وقدم قائدها إلى موسى بن نصير نتائج حملته.
فأنِس موسى إلى جوليان، وازداد إقدامًا على التوسعات، ثم استدعى مولاه طارقًا، وأمّره على سبعة آلاف من البربر وثلاثمئة من العرب. وأبحرت الحملة من طنجة في 5 من رجب عام 92هـ، إبريل 711م، في أربع سفن، وظلت هذه السفن تنقل جنود طارق إلى جبل كالبي الذي عُرف بعد ذلك بجبل طارق حتى كمل نقلهم وتوافوا جميعهم لديه.
وقع على لذريق خبر اقتحام المسلمين ساحل الأندلس الجنوبي، ودخولهم الجزيرة الخضراء، وقوع الصاعقة، فانزعج وكر راجعًا إلى جنوبي أسبانيا، وزحف إلى قرطبة في جيش جرّار بلغت عدته نحو مئة ألف. فكتب طارق إلى موسى يستمده، ويخبره أنه دخل الجزيرة الخضراء، وملك المجاز إلى الأندلس، وغنم بعض أعمالها حتى البحيرة، وأن لذريق زحف إليه بما لا قبل له به. فأرسل موسى إليه مددًا مؤلفًا من خمسة آلاف من المسلمين، كملت بهم عدة من معه اثني عشر ألفًا. أقبلت في الوقت نفسه جيوش لذريق حتى عسكرت غربي طريف، بالقرب من بحيرة خندة، على طول نهير برباط الذي يصب في البحر الذي سمَّاه المسلمون وادي لكة. وبالمقابل، أخذ طارق في الاستعداد للمعركة الحاسمة. فاختار موقعًا مناسبًا في وادي لكة، يستند في أجنحته على موانع طبيعية تحميه، ونظم قواته، وقيل أنه اصدر اوامره بإحراق السفن ولكن ذلك محل خلاف لدى المؤرخين وقام في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم حث المسلمين على الجهاد، ورغَّبهم فيه، واستثار حماستهم وخطب فيهم خطبيته الشهيرة.
ترد في بعض الكتب قصة خطبة طارق الملقاة قبل المعركة، ونحن نعتقد أن مضمونها صحيح، لكن صياغتها تعرضت لزيادات كثيرة... وهذا هو نص الخطبة التي نسبت إلى القائد البربري العظيم المسلم (طارق بن زياد):
"أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم -والله- إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب على رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة؛ وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعًا فيها للنفوس، أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي (...). وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا؛ ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدارين.
أيها الناس، ما فعلت من شيء فافعلوا مثله، إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامد إلى طاغيتهم؛ بحيث لا أنهيه حتى أخالطه، وأمثل دونه، فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وتولوا الدبر لعدوكم فتبدوا بين قتيل وأسير. وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم، وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة، والراحة من المهنة والذلة، وما قد أحل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا -والله معكم ومفيدكم- تبوءوا بالخسران المبين، وسوء الحديث غدًا بين من عرفكم من المسلمين، وهأنذا حامل حتى أغشاه، فاحملوا بحملتي".
أقبل لذريق في جموعه وهم نحو مئة ألف ذوي عدة وعدد، وهو على سريره، وعليه مظلّة مكللة بالدّر والياقوت والزبرجد، وحوله غابة من البنود والأعلام. وأقبل طارق وأصحابه، عليهم الزَرَدُ، من فوق رؤوسهم العمائم البيض، وبأيديهم القسي العربية، وقد تقلدوا السيوف، وشرعوا الرماح.
ففي أواخر رمضان من عام 92هـ (19 يوليو/تموز 711 م) وقعت معركة وادي لكة بين قوات الدولة الأموية تحت إمرة طارق بن زياد وجيش الملك القوطي الغربي رودريغو الذي يعرف في التاريخ الإسلامي باسم لذريق. انتصر الأمويون انتصارا ساحقا أدى لسقوط دولة القوط الغربيين وبالتالي سقوط معظم أراضي شبه الجزيرة الأيبيرية تحت سلطة الخلفاء الأمويين. وقد سميت المعركة باسم النهر التي وقعت بالقرب منه وعلى ضفافه وهو نهر وادي لكة الذي يسمى بالإسبانية جواديليتي. ويطلق بعض المؤرخين على المعركة مسمى معركة سهل البرباط أو معركة شذونة، أو معركة دي لا جونا دي لا خاندا بالإسبانية.
وانضم لجيش طارق بن زياد الكونت جوليان وبعض كبار الدولة القوطية من أعداء لذريق وعدد من جنودهم. تلاقى الجمعان قرب نهر وادي لكة. دامت المعركة 8 أيام وقاوم القوط مقاومة عنيفة في بادئ الأمر إلا أن انسحاب لوائين (أحدهم بقيادة أخيه الأرشيدوق أوباس) من أصل 3 ألوية من جيش لذريق أدى لضعضعة الأمور وإرباك الجيش.
يذكر أن لذريق اختفى أثره بعد المعركة، ويجمع أغلب الرواة على أنه مات كما يجمع أغلب المؤرخين على مقتل كل وجهاء البلاد ما عدا الأستورياسي بيلايو الذي هرب دون أن يشارك في القتال واتجه شمالا. ولاذت فلول أعداء المسلمين بالجبال.
لقد كان الموقف خطيرًا، فقد كانت أوامر موسى بن نصير دقيقة وواضحة، وتنص على عدم تجاوز منطقة الساحل، خوفًا على المسلمين من الضياع في هذا المحيط الواسع من شبه الجزيرة الأندلسية. غير أن بقاء طارق عند حدود الساحل، ومع ما هو عليه موقف قواته من الضعف، أمر بالغ الخطورة، فإتاحة الفرصة أمام فلول القوط، قد تسمح لهم بإعادة تجميع قواتهم. فسارع طارق ودخل إشبيليا، وأستجة، وأرسل من دخل قرطبة ومالقة، ثم طليطلة (عاصمة الأندلس) وتوجه شمالاً فعبر وادي الحجارة وواديًا آخر سمي فج طارق وسقطت عدة مدن في يده، منها مدينة سالم التي يقال إن طارقًا عثر فيها على مائدة سليمان. وعاد إلى طليطلة سنة 93هـ بعد أن أخضع كل ما اعترضه من مُقاومات، ولكن، وإلى الشمال من طليطلة، كانت قوات القوط تتجمع لمعركة جديدة.
وكتب طارق لموسى: ¸لقد زحف إليّ ما لا طاقة لي به. وأسرع موسى، فقاد جيشه المكون من ثمانية عشر ألفًا من المقاتلين فالتقى طارق بموسى بن نصير في طليطلة، ويقال بأنه وبَّخه على مخالفته أوامره بل الأرجح أنه عاتبه في رفق على تسرعه في اقتحام الأندلس من وسطها دون السيطرة على شرقيها وغربيها. وذكر ابن حيان أن موسى رضي عن طارق، وأمّره على مقدمة الجيش، وأمره بالتقدم أمامه، ثم تبعه موسى بجيشه، فارتقى طارق إلى الثغر الأعلى، ودخل سرقسطة عام 96هـ، 714م وأوغل في البلاد، وغنم الغنائم الضخمة، ثم اتجه نحو ماردة متبعًا الطريق الروماني الذي يربط سرقسطة ببرشلونة، ثم يتصل بعد ذلك بالطريق المؤدي إلى أربونة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وبعد أن استراح القائدان قليلا في طليطلة عاودا التوسعات مرة ثانية، وزحفا نحو الشمال الشرقي، واخترقا ولاية أراجون، ودخلا سرقسطة وطركونة وبرشلونة وحصن لودون على وادي ردونة (نهر الرون) وغيرها من المدن، ثم افترقا، فسار طارق ناحية الغرب، واتجه موسى شمالا، وبينما هما على هذا الحال من التوسع والتوغل، وصلتهما رسالة من الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، يطلب عودتهما إلى دمشق، فتوقفت التسوعات عند النقطة التي انتهيا إليها، وعادا إلى دمشق، تاركين المسلمين في الأندلس تحت قيادة عبد العزيز بن موسى بن نصير، الذي شارك أيضا في الغزو، بضم منطقة الساحل الواقعة بين مالقة وبلنسية، وأخمد الثورة في إشبيلية وباجة.
وبدأت الأندلس منذ غزوها طارق تاريخها الإسلامي، وأخذت في التحول إلى الدين الإسلامي واللغة العربية، وظلت وطنا للمسلمين طيلة ثمانية قرون، حتى سقطت غرناطة آخر معاقلها في يدي الإسبان المسيحيين سنة (897هـ = 1492م) وتم طرد جميع المسلمين واليهود أو قتلهم أو إجبارهم على اعتناق الكاثوليكية التي فرضت ديانة رسمية على الناس.
قام قائد الجيش الفاتح للأندلس في معركة وادي "برباط" أو "لُكَّة" بحرْق السفن، وقال للجيش البالغ تعداده "12" ألفًا، غالبه رجّالة، والفرسان قلّة: "البحرُ من ورائكم، والعدوُّ من أمامكم، فأين المفرُّ؟!"
يزعمون أنه فعل ذلك؛ لإرغام الجند على القتال أمام عدو قُدِّر بِـ"100" ألف من الفرسان.
هكذا رُويت القصة؛ لكن أكثر علماء التاريخ الموثوقين لم يوردوا هذه القصة، برغم انتشارها على يد الأدباء والمفكرين غير المحققين لما يرْوُون.
من نشرها لم يكن من زمان الأندلس؛ بل من العصر الحديث، وهم المستشرقون، وذاك لحاجة في أنفسهم، ثم نقلها ونشرها أذنابُهم، وتلقَّفها من لا علم له بالتاريخ ولا بالتحقيق؛ بل هو كحاطب ليل بَهَته الذي كفر، فآمن بكل ما ورد عن الأوربيين، معتقدًا وموقنًا بالعصمة، والعلمية، والموضوعية! ثم مرَّت على أقوام أفاضل نَقصهم التحقيقُ العلمي، فقبلوها مع حسن نية، وتكَلفوا لها تفسيرات لتجميل الرواية.
● من الناحية العلمية: فلا تصح؛ بل لا يسلم اعتمادها؛ لفقدانها لشروط التوثيق التاريخية العلمية، فهي تسقط علميًّا.
المسلمون امتازوا بعلم "الإسناد" في الرواية، وهو ما حفظ وحافظ على الصحيح، وميَّزه عن الضعيف والمدخول من الروايات، كما أسسوا علم "الجرح والتعديل"، وعلم "الرجال"، وعلم "العلل"، كلها لضبط المرويات في الحديث النبوي، أو الآثار عن الصحابة، أو أقوال الأئمة والعلماء، والتاريخ والتدوين.
هذه الرواية إذا أخضعناها للتمحيص العلمي، نجدها فاقدة للمعايير العلمية؛ بل التحقيق يثبت ضعفها، وأنها أُدخلتْ في تاريخ المسلمين إدخالاً؛ فلا وجود لها عند كل العلماء المؤرخين للأندلس ممن عاش تلك الحقبة، أو من تلاهم من علماء الأندلس، فلا حَسيس لها ولا رِكْز، فهم لم يعلموا بها، ولم يجدوا لها كلامًا في زمانهم؛ أي: لم يتداولها أحد، لا في مقام الإشاعات ولا القصص، لا كذبًا ولا صدقًا.
فلم يرد أي ذكر -ولا أدنى إشارة- حول قصة إحراق السفن لدى ابن القوطية، الذي يعتبر مصدرًا من المصادر الأساسية في فتح الأندلس. أما صاحب (أخبار مجموعة) الذي يعدّ أيضًا من أوثق المصادر في تاريخ الفتح الإسلامي للأندلس، والمنسوب إلى القرن الرابع الهجري، فهو من هؤلاء الذين لم يوردوا أي ذكر لحادثة إحراق السفن هذه، على الرغم من أن (أخبار مجموعة) من أقدم الكتب -بعد جيل ابن عبد الحكم وابن حبيب- في التأريخ لفتح الأندلس. وهذين المصدرين -تاريخ ابن القوطية، وأخبار مجموعة- هما أقدم المصادر الأندلسية التي بين أيدينا.
● من ناحية التخطيط العسكري:
1- لم يثبت قط أن قائد المعركة - وهو طارق - استشار قائدَه الأعلى منه، وهو موسى بن نصير، فلا مراسلات أثبتت، لا عند المسلمين، ولا حتى الأوربيين. وهذه وحدها مخالفة عسكرية، ليس طارق ممن يقع فيها.
2- الجيش قد يخسر المعركة، وهذا وارد؛ لقِلَّته والفارق بينه وبين عدوِّه، والأرض ليست أرضه، والخسارة قد تقع، فأين المفر؟! وأين مجال إعادة الترتيب إن هُزم ولم يُدمَّر؟! وكيف يطلب التعزيزات؟! بكل المعايير الإستراتيجية هذا انتحار، فأقوى الجيوش يجعل قادتُها مخارجَ للانسحاب كخطة، أو تفاديًا للتدمير الكلي.
3- المسلمون الفاتحون ليسوا بحاجة إلى تحفيزٍ من هذا النوع (الإكراه) على القتال؛ ففيه تلويث للنية، وتحويل للإخلاص والجهاد لوجه الله، إلى القتال فرارًا من الموت المحتم، مما يدل على خلل في الفهم لدى الأوربيين حول عقيدة الفاتحين المسلمين.
4- بعد حرق السفن، كيف يكون طريق الرجعة لو هزم الجيش؟
● من الناحية الشرعية:
قال أحد الباحثين: هذا الحرق فيه تجاوز شرعي، لا يقدم عليه رجل في تقوى وورع طارق بن زياد، وما كان العلماء وقادة الجيش ليسكتوا لو فرضْنا وقوع ذلك، كما في الرواية تهوين لقوة وعزيمة الفاتحين، حيث تُصوِّر فقدان العزيمة على الجهاد، والهروب من الموت كان المُجبر على البسالة في القتال والانتصار؛ أي: هم طالبو دنيا.
كما أن الشريعة لا تقبل هذه الرواية، بل تعدها نوعًا من الانتحار غير المباشر. وعلى هذا الأساس فإن لنا أن نتساءل: كيف سكت التابعون على إحراق طارق للسفن؟ وهل يعني هذا مشروعية هذا العمل من الناحية الإسلامية؟ وفي عصر كعصر التابعين ولما ينته القرن الأول الهجري: هل تسمح هذه البيئة الإسلامية بإحراق السفن دون معارضة، ودون احتجاج من الساسة، أو الفقهاء، أو المفكرين، أو الشعراء؟
ومن زاوية أخرى -شرعية أيضًا- هل يجوز في الإسلام مبدأ المغامرات الانتحارية بكامل الجيش؟ لقد انسحب المسلمون بقيادة خالد بن الوليد من موقعة (مؤتة) بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، حين أدرك خالد ومعظم الجيش أن المعركة انتحارية إزاء هذا الفارق في العدد بين جيش المسلمين وجيش الروم.
وقد كان هناك مسلمون فدائيون يطلبون الاستمرار في القتال، ومع ذلك آثر الجيش الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد، وسماهم الرسول (الكُرَّار)؛ ردًّا على من سخروا منهم في المدينة وسموهم (الفُرَّار).
أليس هذا السلوك النبوي تشريعًا إسلاميًّا يُحَرِّم المغامرات الانتحارية، ويُجيزُ الانسحاب في حالة وجود مفاجآت تجعل المعركة إبادة للمسلمين؟
ومن جانب آخر نتساءل: هل هذه الخسارة المالية التي لا جدوى كبيرة وراءها في عصرٍ يصعب فيه صناعة السفن، والتي يمكن أن توجد طرق بديلة عنها، هل هي جائزة شرعًا؟
إن كل هذه الجوانب، سواء تلك التي تتصل بالتضحية بالبشر (اثني عشر ألف جندي وسبعمائة تقريبًا) أم بالسفن، تجعل من إقدام طارق على هذا الإحراق عملاً مخلاًّ بالشريعة، وهو ما لا يمكن للتابعين -بشكل يشبه التواطؤ- أن يسكتوا عليه، أو على الأقل أن لا يظهر أي خلاف فقهي حوله... لكن هذا السكوت يعني أنه لم تكن هناك قضية من هذا القبيل، ولم يثر بالتالي أي خلاف؛ لأنه لا يمكن إثارة أي خلاف حول قضية لم تحدث فعلاً، وهو ما نميل إليه بالنسبة لتابعي صالحٍ مثل طارق بن زياد، وبالنسبة لمن معه من التابعين.
انقطعت أخبار القائد طارق بعد وصوله إلى الشام ومعه موسى بن نصير، واضطربت أقوال المؤرخين في نهاية حياته، غير انه على الأرجح لم يول عملاً بعد ذلك.
توجه طارق بن زياد بصحبة موسى بن نصير إلى دمشق ومعه أربعمائة من أفراد الأسرة المالكة وجموع من الأسرى والعبيد والعديد من النفائس. ولما وصلا طبريا في فلسطين، طلب منهما سليمان ولي العهد التأخّر حتى يموت الخليفة الوليد الذي كان يصارع الموت. لكنهما تابعا تقدّمهما ودخلا مع الغنائم إلى دمشق.
وبسبب هذا غضب عليهما سليمان لأنه كان يريد أن ينسب الفتح والغنائم لنفسه.
وعندما تولى سليمان الخلافة عزل موسى وأولاده، وقتل ابنه عبدالعزيز بن موسى الذي شارك في فتح الاندلس، أما طارق بن زياد فأُهمل وبقي دون ذِكر حتى مات راً سنة 720م.
فرحِم الله القادة عبدالرحمن الداخل ، وموسى بن نصير ، وطارق بن زياد ، ويوسف بن تاشفين ، وكل قادة المسلمين ورفع قدرهم وجعل ما قدموه للأمة من فتوحات في موازين حسناتهم ..