#1
|
||||||||||
|
||||||||||
! موت في تل أبيب !
عندما ينتحب القلب, تنوح عليه أو بسببه, أعضاء الجسد كافــّـه.. تذبل العينان .. والوجه ينحسر عن جلده الدم .. تضعف عضلات العنق .. والمعدة تفقد كل شهيتها.. ها هو رأسها الصغير ثقيل ثقل الهم.. وعيناها ينز منهما ماء الدمع, رغم اشتعال محجريهما سهرًا وحزنًا.. تنظر أسفل منها, فترى مرجًا شاسعًا من النجوم.. أضواء بنايات المدينة وسياراتها تمتد ملء المدى.. بعضها قريب وساطع كأنه يتحدى.. وبعضها قد أصابه اصفرار الشحوب, كأنه يفنى.. بعضها ثابت.. وبعضها يجري قليلا ثم يختفي كأنه شهاب تهاوى..
من يعرفها هنا..؟ من يشعر بوجودها..؟ من يفهم لغتها..؟ من يأبه لها..؟ وحده البحر.. كانت تمشي بأحلامها فوقه كل ليلة, حتى تصل بيتها, على شاطئ البحر ذاته, في مدينتها التي كانت, وقت تركتها, تغرق في حصار الظلام.. أليس مفارقة أن يتمنى المرء أحيانا لو يلفظه الضوء إلى جوف الظلمة..؟ لم يسمحوا لزوجها بمرافقة ولدهما ابن الثامنة لتلقي العلاج هنا.. أوقفوه عند المعبر .. قالوا له بفظاظة : ‘أنت , إلى هنا’.. عانقت أطفالها الثلاثة الآخرين, الذين تعلقوا بذيل فستانها.. وبكت.. بعدها ودعت زوجها, وبأطراف أناملها مسحت دمعتين جالتا في زوايا عينيه.. وجاءت.. على مدى سبعة أيام متواصلة حاول أطباء مشفى “ايخيلوف” الشاهق البناء والكفاءة, في تل أبيب, إنقاذ حياته, لكن دون جدوى.. كانت أحشاؤه قد تهتكت كليًا بفعل الإصابة.. “مات رجاء” قالت لزوجها عبر الهاتف, وسقطت السماعة من يدها, لتجهش في بكاء صامت, مثل حرة عربية تم المساس بكرامتها.. كيف فاجأها الموت هكذا.. وحيدة.. بعيدة.. غريبة.. وبائسة..؟ قبل ولوجه الباب الرئيسي للمشفى, حوالي التاسعة صباحًا, صحبة زوجته وولدهما , لإجراء فحص معين للولد, لمحها هناك.. على المقعد الحجري وحدها.. بعد ساعتين, وقت خرجوا من نفس الباب, كانت ما تزال متحجرة على نفس المقعد.. عاطلة عن الأمل.. توقف.. كرر النظر.. كان هندامها وذكاؤه كافيين ليجزم أنها من هناك.. هاتف غريب شهق في أعماقه أنها تتستر على مصيبة.. أومأ لزوجته وابنه فيمموا كلهم صوبها.. عندما صار في مواجهتها تمامًا تأكدت ظنونه .. كانت في أواسط الثلاثينات.. وكان في عينيها أسى مثل أسى الذي يحمل في قلبه كل أحزان البشرية.. نظراتها منهكة كأنها فقدت أي وقت للحياة.. عندما تكلمت كان لصوتها نبرة من تتوسل القدر لكنس شوارع أحزانها.. تلك الأحزان اللحوحة كهاتف يرن ولا يرفعه أحد.. قالت إن ولدها يرقد في ثلاجة الموتى منذ ثلاثة أيام.. لان السلطات هنا ترفض نقله, بحجة أن السلطات التي هناك, من الجهة الأخرى للمعبر, لم تقم بالترتيبات والتعهدات المناسبة .. تتوسل حارس بهو الأموات لتلقي على الجثة نظرتين أو ثلاثا كل نهار.. امّا في الليل فتقف لساعات على شرفة الطبقة الثانية عشرة للمشفى.. كأنها على أرجوحة معلقة في السماء.. لا لتبكي .. فهي قد غدت في حالة تحسد فيها من يستطيعون البكاء.. بل لتنتظر, مصغية لهدير ذلك المخلوق المتمدد بكسل حتى بيتها .. وحده البحر كان قادرًا على التعاطف مع تشرد وجدانها.. لم يفكر كثيرا.. هو كان يؤمن أن إعمال العقل قد يحرم الرجل, في بعض المواقف, متعة أن يكون رجلا .. بل ويعرف أن أكثر المواقف نبلا في حياته كلها كانت تلك التي تبنّاها دون إجراء الموازنات العقليه.. طلب من زوجته اصطحاب ابنهما وانتظاره في المرآب حيث السيارة, فيما اصطحبها إلى الداخل .. ساعدته مواطنته , تجربته ولغته , على إتمام إجراءات تسريح الجثمان بسرعة .. أخذ الأوراق وطار نحو ثلاجة الموتى, وهي في أثره, لا تكاد تلحقه.. طلب منها أن تشير له نحو الجارور حيث الجثة .. سحب الجارور برفق .. أشار إليها لتلقي على وجهه نظرة, لتفادي أي خطأ قد يقع.. اتصل بزوجته طالبًا منها إدخال ولده إلى السيارة كي لا يراه حين يصل.. وأن تحاول التخلص مما في الصندوق الخلفي للسيارة من خلال إلقائه في أقرب صندوق للقمامة.. رفع الجثمان بين ذراعيه ومشى .. مدده في الصندوق .. ولما ركبوا جميعًا, قالت له زوجته, التي لا تكاد تصدق ما ترى:’ إلى أين ‘؟ قال : ‘إلى غزه’.. لم تناقشه, لأنها كانت تعرف انه مهيأ ليفعل ما هو أكثر جنونًا, أو شهامة, ولكنها اقترحت: ‘ بل أوصلني والولد إلى محطة القطارات.. نسافر إلى البيت وحدنا .. لا تخف علينا..’. انطلق بسيارته جهة الجنوب.. تجلس خلفه امرأة نصف ميتة.. ووراءها يرقد طفلها الميت .. حوالي الرابعة عصرًا كانا على المعبر.. لكنهم كانوا قد أغلقوه, بحيث لا يسمحون لأحد, ولو لجثمان, بالدخول أو بالخروج.. أجرى عشرات المكالمات الهاتفية .. أشرك في الموضوع نواب برلمان وشخصيات أخرى.. في السادسة والنصف تمامًا, كان ‘رجاء’ ممددًا في صندوق سيارة أجره.. وراء الحاجز الحدودي.. وكانت هي تقف إلى جانب السيارة.. مشت إلى الوراء, باتجاهه, بضع خطوات.. قالت , من وراء الحاجز : ‘ما اسمك ‘؟ أجاب : ‘ وماذا يهم ؟ ‘.. تمتمت بشيء لم يسمعه جيدًا.. ولن يعرفه إلى الأبد .. رفعت كفها الصغيره تودعه.. رآها لأول مرة تبتسم .. كمن أحست أخيرًا بالطمأنينة.. تماسك إلى أن بدأت سيارته تنهب الأرض باتجاه الشمال.. وأجهش يبكي..
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|