يوم جميل رائع من أيام بغداد الحبيبة، وعلى ضفاف نهر دجلة، قريباً من جامع الإمام أبي حنيفة النعمان، سنة 1987م كنا طلاباً في المعهد الإسلامي العالي لإعداد الأئمة والخطباء، قبل أن يتحول المعهد إلى كلية، وكنا نسكن في القسم الداخلي المطل على نهر دجلة، وكنا نجلس على ضفاف النهرعلى الكراسي الخشبية التراثية الجميلة، إما لتحضيردروسنا أو لنقرأ كتاباً خارجياً أو ننظرالى حركة السيارات على جسرالأئمة الذي يربط الأعظمية بالكاظمية، والى حركة الماء وطيورالنوارس البيضاء وهي تنزل إلى الماء لتصطاد الأسماك، والقوارب الجميلة، بعظهم قد خرجوا للنزهة، والبعض الآخر قد خرجوا ليقتاتوا رزق أطفالهم، يصيدون الأسماك، وبينما نحن جلوس بعد العصر، وقبيل المغرب ونحن كعادتنا جالسون على هذه الكراسي؛ أُخبرنا من قبل مسؤول القسم، أن في الإستعلامات شاب غريب، يحمل حقيبة كبيرة، جئنا إليه فوراً، ورحبنا به ترحيباً حاراً، ملامحه توحي أنه من بلاد شرق أسيا، وبعد الإستفساروبصعوبة بالغة معه لأنه كان لا يجيد العربية بالشكل الصحيح، ولا الإنكليزية، ولكننا كنا نفهمه
قال: أنا من كوريا، جئت للدراسة في هذا المعهد، هيئنا له كل ما يحتاجه في القسم من السرير والفراش، فأصبح طالباً من طلاب المعهد
ضيفنا الكريم في يومه الثاني
أخبرني الأخ عبدالرشيد قائلاً: اليوم أنا على موعد مع الرجل الذي شجعني على المجيء إلى العراق
قلت له: حسناً، فأنا اليوم إن شاء الله لا أُفارقك، وسأبقى معك لحين وصوله الينا، جلسنا معاً في غرفته وعلى سريره، فإذا بالشخص الذي واعده قد وصل إلى القسم الداخلي، وجلسنا قليلاً فقال لي صاحبه: سآخذه بجولة في بغداد، ليشاهد معالم بغداد الجميلة قلت: حسناً تفعل، فإنه ضيفك اليوم، فخرجا في نزهة بسيارة صاحبه..
دخلت معه في حوار لطيف عن حياته العامة والخاصة، وكنت أظنُّ عمره لا يتجاوز 25سنة، سالته كم عمرك؟
قلت: حوالي 25عاماً، فضحك ضحكةً قويةً
فقلت له: إذن كم عمرك؟ قال: عاماً، فلا يظهر عليه كبر السِّن، كماهو معروف في بلاد جنوب شرق آسيا
أجاب: كنت قساً نصرانياً ولكنني كنت محباً للقراءة والإطلاع على الأديان وكان لي أصدقاء يسافرون إلى الهند ويجلبون معهم الكتب ومما وقع في يدي من هذه الكتب كتاب عن الديانة الإسلامية من كتابات علماء مسلمين هنود مترجمة إلى اللغة الكورية فأعجبني هذا الدين، وبدأت أطلب المزيد من المعلومات عن الإسلام، مما جعلني أُحبُّ الإسلام حباً لاحدود له، ولكن كيف التقي مع المسلمين؟
لابد لي أن التقي مع علمائهم، لابد لي أن أبحث عنهم، مهما كلفني من جهد، اللهمّ إني صادق فيما أقول، أطلب التيسيرمن الله تعالى، يارب إنني سلكت طريق الهداية فيسره لي وبدأت أفتِّش عن مسجد للمسلمين في سيئول فإذا أنا أَمامَ جامع أبي بكرالصديق دخلت إلى المسجد وكأنَّ الإمام كان متهيئاً لإستقبالي، فرحَّبَ بي أجمل ترحيب.. طلبت منه أن يشرح لي شيئاً عن الإسلام، فشرح الله صدري لهذا الدين، وتركت الديانة النصرانية، ومنصبي كقس وسلكت طريق الإستقامة وبدأت تلميذاً عند شيخ الجامع ودرست العربية وشيئاًعن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وغيرت اسمي من (يوم سوب) إلى عبدالرشيد،لأكون عبداً للواحد الأحد لالسواه،كما في النصرانية واليهودية وغيرها من الأديان كما قال تعالى: ﴿وَقَالتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾[فقط الأعضاء المسجلين والمفعلين يمكنهم رؤية الوصلات . إضغط هنا للتسجيل]. يقول: حضرت يوماً مسابقة قرآنية آقامتها الجالية الإسلامية في كوريا، فالتقيت مع أخوة من العراق، ففاتحني أحدهم ورغبني أن هناك معهد لإعداد الأئمة والخطباء قد تمَّ افتتاحه في بغداد عاصمة العراق، وعلى نفقة وزارة الأوقاف، وكنت حينئذٍ متعطشاً على العلم الشرعي، مما أثار الحماس في نفسي، وكدت أطيرمن الفرح، فأعددت نفسي لأكون طالباً في هذا المعهد لأتخرج منه إماماً وخطيباً في قلب العاصمة سيئول...
أتذكر أيام دخولنا إلى مطعم القسم الداخلي، وكان المطعم عامراً بالأطعمة العراقية الشهية الراقية، والفواكه الطازجة، بفضل الله تعالى، ثم بجهود عميد المعهد الدكتور حمد الكبيسي رحمه الله تعالى، والدكتورعارف علي عارف الذي كان يشرف عليه، ويأتي بأنواع الحلويات البغدادية، وكأنه أب للطلاب، وحتى بعض إخوتنا الطلاب كانوا يسمونه بابا عارف، وفعلاً كان أٌستاذاً مريباً وأباً للطلاب، يحاول حلَّ كلَّ خلاف قد يحدثُ بين الطلاب، كان الأخ عبدالرشيد يأكل معنا، ولكن لا يأكل الأ قليلاً من الطعام، ويأكل بالملعقة فقط، وكان أحياناً يذهب إلى القنصلية الكورية ويأتي معه بعض الأكلات الكورية، وخاصة أنواع من المخللآت، ولكن ماذا حدث بعد أشهر؟ بدأ عبدالرشيد يأكل بشهية، وحتى أنه ترك الملعقة، وبدأ يأكل بيده وأحب العادات العراقية، والتقاليد الإسلامية، وحتى في غرفته، أتذكر أنني دخلت يوماُ عليه ولم أجد سريره، بل وجدت قد فرش على الأرض، قلت له: أين سريرك؟ فضحك وقال: إنني أرتاح على الأرض أكثر..
وجدته يوماً جالساً على الكراسي الخشبية المطلة على دجلة، جلوس المهموم، وقد نكس رأسه، ووضع يده على رأسه، فسلمتُ عليه فرد السلام
فقلت: ما بك يا عبدالرشيد؟ بكى وسالتِ الدموع من عينيه على خديه وكأنني آراه الآن، ثم قال بحياء: ليس لديّ مصرف، وقد واعدوني أننا سنعطيك شقةً مستقلةً لأنَّ زوجتي قد تهيأت، وستأتي إلى العراق..
يقول: لقد ذهبت إلى الأوقاف مراراً، ولم أجد الصدق عندهم، مواعيد كاذبة، أهكذا يكون المسلم؟!
قلت له: أخي العزيز، لا تعتقد أن هؤلاء يمثلون الدين الإسلامي، هؤلاء موظفون من أجل الراتب، وربما أكثرهم يشوهون صورة الإسلام، فوعدته أنني أقف معه بقدر المستطاع، فتحولت الدموع إلى ابتسامة ولله الحمد، وكنت ولله الحمد أجمع كل شهر مبلغاً متواضعاً من المال من بعض الطلاب الميسورين، - نصف دينار أو أكثر-، وهذا المبلغ لا يكفيه ولكن يخفف عن كاهله قليلاً، وكان الدكتورعارف يحضرمعنا في المكتبة التابعة للمعهد والمكونة من طابقين، مكتبة عامرة بالكتب، وكان وقتذاك يكتب رسالته الدكتوراه، وكان يقدم عبدالرشيد إماماً في صلاة العصر، ويشجعه على الإمامة، لأن مستقبله إمام في دولة غير عربية، وكنا – حقيقة – نخشع في إمامته، لأننا كنا نعلم أنه كان غير مسلم فهداه الله تعالى إلى الإسلام..
إنتهت السنة الدراسية، ولكنني تخرجت وعدت إلى الموصل المحافظة التي أسكنها، ولكنني كنت أُتابع أخباره..
لقد قام الدكتورعارف بالواجب الشرعي والإنساني تجاه إخينا في الله عبدالرشيد خير قيام، وبقدرما يستطيع، فهيأ له شقة متواضعة في الأعظمية، تمهيداً لإسكان زوجته أم أحمد فيها وهي تنتظره في سيئول...
في إحدى زياراتي لبغداد زرته يوماً ليلاً، طرقت باب الشقة، فلما رآني عانقني بلهفة، دخلت معه الصالة، خرج من عندي ثم جاء وفي حضنه أُبنه أحمد، فقال هذا إبني أحمد، قبلت إبنه أحمد، ثم جاءت أُم أحمد فسلمت عليَّ ولكنها لا تجيد العربية أبداً...عاد عبدالرشيد إلى بلده – ومع الأسف – قبل إكمال دراسته بسبب الظروف المادية التي عاناها في العراق..
ولله الحمد تعلم اللغة العريبة، ودرس الشريعة الإسلامية مما يمكِّنه من مواصلة الدراسة في جامع أبي بكر الصديق t في العاصمة سيئول، ويستطيع أداء واجبه - الإمامة والخطابة - بشكل جيد رغم عدم حصوله على الشهادة، أرجوا الله تعالى أن يجمعني به...
[فقط الأعضاء المسجلين والمفعلين يمكنهم رؤية الوصلات . إضغط هنا للتسجيل] وقد عرف الكوريون الإسلام عن طريق الكتيبة التركية التي إنظمت إلى قوات الأمم المتحدة للحفاظ على السلام وا؟لأمن في هذه الدولة – بعد الحرب العالمية الثانية – لقد لفت جنود الأتراك نظر الكوريين وهم يولون وجوههم شطرالكعبة، وهم يرفعون أصواتهم بالآذان في سماء كوريا، وهم يتوضأون قبل كل صلاة ويتحرون في كل حركاتهم الطهارة والنظافة. وقد دخل في الإسلام منذ ذلك اليوم بضعة الوف قليلة، ولا تزال هذه الالوف في دائرة هذه الأرقام بالرغم من مضى حوالي أربعين عاماً على قيام الجنود الأتراك بهذه المهمة، وبالرغم من وجود بعض المساجد، وقيام مركز إسلامي في (سيئول) العاصمة. إجابات حاسمة إلى الأخت الفرنسية المسلمة. تاليف الدكتور عبدالودود الشلبي، مؤسسة الخليج العربي – القاهرة ط1- 1407ه- - 1987م ص21.
[فقط الأعضاء المسجلين والمفعلين يمكنهم رؤية الوصلات . إضغط هنا للتسجيل]سورة التوبة الآية30