اليوم
يوم الجمعه
غَصَّ المسْجِدُ بالمُصلِّين ، وبَدا أغْلبُهم مُنَكِّسي الرُّؤوسِ ، بيْنما وقفَ آحادٌ منهم ، مُتفَرِّقين في أنْحاءِ المسجد يُؤَدُّون ركْعتَيْ تَحيَّةِ المَسْجدِ ، أمَّا الإمامُ فقدْ جَلسَ في مِحْرابِه يُتمْتِمُ بآياتٍ من الذِّكْر الحكيمِ .
ثم أذَّن المُؤذن ، ووقفَ الجَميعُ ، وأدَّوا النَّافلةَ ، وصَعدَ الإمامُ المِنْبرَ ، وحَمدَ اللهَ وأثْنى عليه ، وصلَّى على سيِّدنا مُحمَّدٍ ، فتعالتِ الأصْواتُ بعبارة : « في العالَمين إنك حميدٌ مجيدٌ » ...
ثم شَخصتِ الأبْصارُ ، وأَصْغتِ الآذانُ ، فقد كان الإمامُ يخْطبُ خُطْبةَ الجُمعة ، فلا تكادُ تسمع بين فقْرةٍ وفقرةٍ إلاَّ نِداءَيْ : « يا أيَّها المُؤْمنون » .. و« يا أيَّها المسلمون » ... مَتْبوعَيْن بـ « قال اللَهُ تعالى » .. و« قال رسولُ اللَهِ » ...
وعِنْدَ الانْتهاءِ من الخُطبةِ الثَّانيةِ نزلَ الإمامُ من المِنْبر ، وشَرعَ المصلُّون يُسَوُّونَ الصُّفوفَ ، ويتَراصُّونَ ، الكتفَ بالكتفِ ، والقدمَ بالقدمِ ، وجَهَرَ الإمامُ بالتَّكْبيرِ ، وجعلَ الجميعُ يقْتدون به في صَلاتِه ، وما هيَ إلا دقائق حتَّى رَجَّتِ الصُّفوفُ بالسَّلامِ ، وقُضِيَتِ الصَّلاةُ ، فشرَعَ القوْمُ ينْتشرون مثْلَ الجَرادِ ، ويتَسابقون إلى الأبْوابِ ، ويتَدافعون بالمناكِبِ والأَذْرُعِ ، وبعْضُهم أَخْرَجوا من جُيوبهم هواتفَهم ، وفتَحوا شاشاتِها الصَّغيرةَ ، كَيْ يتفقَّدوا المُكالماتِ والرَّسائلَ ، وانْدفَعَ بعْضُهم إلى سيَّاراتهم يُحاولون أنْ ينْطلقوا بها منَ الزِّحامِ ، ووقفَ آخرون عند باعَة الخُضَرِ والفَواكهِ يشْترونَ منهم ويُساوِمونهم ، وانْشغلَ أفْرادٌ بأحاديثَ جانبيَّةٍ ...
وفَجْأةً تَعالى صراخٌ من رَجُلٍ كانَ واقفاً عند بائع اللَّبنِ ، والْتفتتْ إليه الأنْظارُ ، وهو يشُدُّ بخِناقِ اللَّبانِ ، ويُريقُ على صدْره قنِّينةً مَمْلوءةً باللَّبنِ ، وينْعَتُهُ بالغشَّاشِ ، واللَّبانُ ينْتفِضُ ، ويُحاولُ أنْ يتخلَّصَ منه ، ويقْذِفُه بعباراتٍ نابِيةٍ ، وشَتائمَ مُقْذِعةٍ ، ثم اشْتبكا في عِراكٍ ، بُودِلَت فيه اللَّكماتُ ، والرَّكلاتُ ، والصَّفعاتُ ، وفاحِشُ القوْلِ ، حاولَ البَعْضُ أن يفُضُّوا النِّزاعَ ، ويَحُولُوا بيْن الرَّجُلين ، غيْر أنَّ المُتنازِعيْن غلَتِ الدِّماءُ في عُروقِهما ، وظَلاَّ مُلْتَحِمَيْنِ مَعاً ، ونَهَرا كُلَّ من يقْتربُ منْهما ، وأنَّ الأمْرَ يعودُ إليْهما وحْدَهما فقَطْ ، فما كانَ منْ أَغْلبِ الحاضرين إلاَّ أنِ انْصرَفوا عنهما ، وسخَطوا ، ولَعَنوا ...
وفي تلك اللَّحْظة زَعقَ كَهْلٌ ، ونادَى بأَعْلى صَوْتِه ، مُشيراً إلى شابٍّ ، قد انْطلَقَ مُسْرِعاً بَعيداً عن الجُموعِ القليلةِ :
ـ امْسِكوه .. امسكوه ... لقد سَرَقَ هاتِفي ... !!
غيْرَ أنَّ الشابَّ اخْتفى ، في لَمْحِ البَصرِ ، في زُقاقٍ ضيِّقٍ كانَ قريباً مِنْه .
ومَشى الجميعُ ، وكانتْ أنْغامٌ تَصْدحُ منْ بُيوتٍ ، وحواراتٌ لأَشْخاصٍ بَدا أنهم مُمثِّلون في أفْلامٍ أوْ مُسلْسلاتٍ ، وتَعْليقاتٌ متَنوعةٌ خرجتْ من أَلْسنةِِ مُذيعين ، يُطلُّونَ منَ القنواتِ الفَضائيَّةِ ...
وشَقَّ المكانَ رَجلٌ وامْرأةٌ ، كان يَسيرانِ مُلْتصِقَيْن ، ويَتناجَيان ، ويَضْحَكانِ ...
وكانت ناهِدٌ بذِراعيْن بيْضاويْنِ تَقِفُ في شُرْفةِ منْزلٍ ، تَنْشرُ غَسيلاً مُلَوَّناً لِقِطَعٍ مُثيرَةٍ من الثِّيابِ ، فاشْرَأَبَّتْ إليْها الأَعْناقُ ، وَطارَتْ في الجَوِّ تنْهيداتُ : « اللهُ أَكْبر ... » !!